“ذات يوم في الأناضول”.. رحلة جنائية تكشف أوضاع الواقع وظلال الماضي
يعيد المخرج “نوري بيلغي جيلان” النظر إلى تركيا بمنظار مختلف، فيه من الإنسانية والحساسية والصراحة الكثير، وفيه من القدرة المدهشة على الإشارة عبر السياق الكثير أيضا، ويرصد “نوري” في تشكيل دقيق ودراما تحرم على نفسها الحزن رغم أجواء الشجن؛ مواضيعَ الألم في الإمبراطورية القديمة التي تطمح لاستعادة أمجادها والتخلص من أحمال طالما أثقلتها.
فيلم “حدث ذات مرة في الأناضول” (Once Upon a Time in Anatolia) واحد من الأفلام الحائزة على جوائز عالمية عدة منها جائزة مهرجان كان السينمائي، وهو الفيلم الذي رشحته تركيا للأوسكار في 2012 وهو مصنف من ضمن الأفلام الروائية الطويلة، ومن إخراج ومونتاج وموسيقى التركي “نوري بيلغي جيلان”، ويسرد في 157 دقيقة قصة حقيقية وقعت لأحد كتاب الفيلم، حيث تحقق الشرطة في جريمة قتل غامضة في سهول الأناضول.
قصة الفيلم.. بساطة عميقة تغوص في عوالم الأناضول
لا ينبغي لفيلم مثل “حدث ذات مرة في الأناضول” أن يمر على النقد مرور الكرام، فالحالة التي صنعها المخرج “نوري بيلغي جيلاني” تقود المشاهد طوال مدة عرضه إلى الاعتقاد بأنه يستمع لحدوتة الجدة أو يرى ما يمكن أن يصوره بنفسه -باعتباره هاويا سينمائيا- بين جبال كتلك التي صور فيها “جيلاني”، خاصة أن أغلب لقطاته عامة، وحواره أكثر من طبيعي وقصته بوليسية درامية.
وقرب انتصاف الفيلم يفاجأ المشاهد أنه أمام فيلم مدهش بكل المعايير، بسيط لدرجة خادعة، ومركب بحيث لا يستطيع النفاذ إليه إلا من يُعمل -إلى جانب عقله وجدانه وإلى جانب بصره- معرفتَه بالجبال التركية والأكراد في تركيا، وصورة العربي هناك، وتحولات المجتمع التركي، والدولة التي تئن تحت تراث عميق من البيروقراطية بغية التخلص منه.
والمدهش أن الفيلم الناطق باللغة التركية يصلح تماما كمرآة ثقافية واجتماعية لشخص عربي، لدرجة أنك كعربي ترى فيه نفسك دون تعب أكثر من أفلام عربية كثيرة، وليست المفاجأة في كون العمل متميزا بتقنيته العالية واهتمام صانعه بكل عناصره بشكل واضح على الشاشة، ولكن لأنه يدفع المشاهد من حيث لا يدري إلى وعي مغاير بالنموذج التركي “العثمانيون الجدد” الذي يروج له إعلاميا، باعتباره الأكثر نجاحا في منطقة الشرق الأوسط، فالنجاح يقاس بانعكاس التقدم على المجتمع بأفراده وجماعاته، سواء من حيث المستوى الاقتصادي، أو مستوى الخدمة، أو طبيعة المشاكل التي يعاني منها المجتمع في شكله السابق.
البحث عن الجثة.. رحلة جنائية تفتح الجرح الكردي
تدور أحداث الفيلم حول رحلة يقوم بها فريق يضم مدعيا عاما (وكيل نيابة) وضابط شرطة وطبيبا، ومعهم مساعدون وحراس وحفارو قبور وقاتل معترف بجريمته، للبحث عن جثة القتيل التي دفنها مع شريكه في منطقة جبال الأناضول.
يخوض الركب رحلته في ليلة كاملة، بينما يتسرب العمل بعمق وتلقائية إلى حياة كل شخص من فريق الرحلة الحائر، بحثا عن جثة دفنها شخص كان مخمورا، وفي إشارات ذكية وناعمة وعبر حوار شديد الذكاء نكتشف أن الرحلة وصلت إلى نقطة حدودية بين منطقتين، إحداهما تقع داخل سلطة الضابط المرافق للفريق، والأخرى غير تابعة له إداريا، ويسكنها أكراد، ليفتح الفيلم بنعومة الجرح الكردي الذي استطاع النظام التركي علاجه بشكل ما، ليكشف الفيلم أن في القلوب ما فيها، وأنه ربما يكون العلاج سطحيا فقط.

وبينما يسير الفريق في طرق متواضعة بجبال الأناضول الجميلة وبين محطات البحث التي يتوقف عندها كلما تذكر المجرم شيئا، يعيد المخرج رسم صورة جبال الأناضول التي اشتهرت بجمالها، فرغم الجمال هناك ليل موحش، وثمة غربة وأجواء تبعث على الخوف بين ظلام الليل وضعف الاضاءة والحاجة لتوجيه ضوء إحدى السيارات إلى أي منطقة يقرر الفريق البحث فيها.
إنها محاولات للعيش على طريقة تسكين الألم وعلاج أعراضه، دون النفاذ إلى المرض، حتى أن الطبيب المتأمل يكتشف فجأة وجها عملاقا منحوتا على سفح، فيرتعد ويسأل جندي الجيش، فيخبره أنها منطقة حرب، وأن المنحوتات كثيرة جدا هنا.
استراحة القرية.. انهزامات تلاحق أبطال الفيلم
ثمة هزيمة في حياة كل فرد من أفراد الفريق، فضابط الشرطة الإنساني إلى درجة كبيرة يتلقى اتصالات زوجته، ويحاول قدر إمكانه خفض صوته كي لا يسمعه الآخرون، لكن صوته يصل إلى المشهد الذي يكتشف فيه أن هذا القوي ضعيف جدا أمام زوجته، ونعرف أن لديه ابنا مريضا بمرض مزمن يحتاج إلى علاج دوري، ولكنه ذكي ومحبوب.. هو المستقبل الذي يعيش على الوصفات الطبية الدورية أيضا في ليلة درامية واحدة، أما الضابط فيضطر للعودة إلى التدخين مع التوتر الذي تعرض له نتيجة الرحلة والبحث عن الجثة.
سائق الضابط ومساعده عربي، وهو ينادى بهويته العربية وليس باسمه علي، ويبدو من اللحظة الأولى عالما بكل الطرق في المنطقة، أكثر من ذوي الأصول التركية، لسبب بسيط هو أنه متزوج من إحدى فتيات قرية قريبة، ورغم محاولاته ثني الفريق عن الذهاب للاستراحة هناك واختيار قرية أخرى بشكل يشعرك أن هناك ما يخفيه، فإن الفريق يذهب بناء على تعليمات المدعي العام، لنكتشف قرية غارقة في الفقر، لدرجة أنها لا تستطيع أن تبني سورا يحمي موتاها من فضلات الحيوانات التي تتسرب إلى المدافن كل ليلة، ولا تملك ثلاجة لحفظ الموتى الذين يموت آباؤهم وأقاربهم ويطلبون من المختار (زعيم القرية) إبقاءهم بلا دفن حتى يعودوا من غربتهم لإلقاء النظرة الأخيرة عليهم.
سافر إذن مستقبل القرية التركية إلى الخارج مدفوعا بالبحث عن لقمة العيش والحياة الكريمة.. تنقطع الكهرباء أثناء تناول الفريق للطعام لدى المختار في بيته لتضيء النفوس والوجه الوحيد الجميل للابنة الصغرى للمختار، وقد جاءت على غير توقع أو انتظار كما قال، لكنها تبهر الجميع وينهار المجرم، ليعترف بمفاجأة من العيار الثقيل، مؤكدا أن القتيل غريمه، وأن الابن المقيد في سجلات الدولة على أنه ابن القتيل هو في الحقيقة ابن القاتل نتيجة خيانة الأرملة له، إذن لم يكتف القاتل بالقتل، بل إنه خان أولا وجاء إلى الحياة بصبي لا يعرف أباه.

انكشاف الخيوط.. رمزية تعكس أوضاع الدولة التركية
ينطلق الفريق إلى نقطة محددة بعد أن حدد القاتل مكان الجثة بدقة، بينما يتساءل القارئ عن صاحب هذه الجثة الحقيقي، هل هو رجل خانته زوجته فأنجبت طفلا ليس من صلبه، وأراد القاتل استرداد ابنه وعشيقته من الزوج الشرعي فقتله، أم أن تلك الجثة هي الدولة العثمانية القديمة التي هي الأب الشرعي لتركيا الحديثة التي تقضي بالتدريج على الملامح التي صنعها أتاتورك ورفاقه وتدفنها لتستعيد مجد العثمانيين؟
يصل الفريق إلى نقطة نهاية رحلته، ويكتشف مكان الجثة، ويستخرجها، فيفاجأ الجمع بالقتيل مقيدا بشكل قاسٍ، ويثور ضابط الشرطة على المجرم متسائلا في استنكار عن مبرر إهانة جثة بعد قتل صاحبها بتقييدها بهذا الشكل، ويحاول الضابط الاعتداء على المجرم “كنان”، لكن المدعي العام يطالبه بالهدوء واستكمال العمل، ويبدأ في الكشف الظاهري وجمع الأدلة ومعه الطبيب.
يكتشف الفريق أن الموظف نسي إحضار كيس للجثة، وأن سيارة الإسعاف تعطلت في الطريق، لتظهر ملامح الدولة البيروقراطية العتيقة وثقل خطواتها، وتوضع الجثة في بطانية وتربط على طريقة قاتلها، لتسطيع حقيبة سيارة احتواءها للوصول إلى المستشفى من أجل التشريح.
وفي غرفة التشريح يكتشف الطبيب الكذبة الكبيرة للقاتل، فهو لم يقتل ضحيته قبل دفنه، بل دفنه حيا ولكنه -أي الطبيب- يتجاهل الأمر تماما، كي لا يحصل القاتل على عقوبة مخففة، بينما يشير الفيلم إلى أن تركيا أتاتورك لم تمت، وإن حاول البعض دفنها.
زوجة تنبأت بوفاتها قبل 5 أشهر.. سر المدعي العام
تكتمل لوحة الفيلم بقصة المدعي العام الوسيم الذي لا يتوقف عن طرح التساؤلات على الطبيب أثناء الرحلة عن الموت بلا مقدمات، ويحكي للطبيب عن امرأة جميلة حددت وقت موتها قبل خمسة أشهر من حدوثه، وحدث بالفعل.
يفجر الطبيب مفاجأة احتمال انتحار الزوجة، ويسأل المدعي العام عن حالتها النفسية قبل الوفاة، ويكشف بشكل مفاجئ عن خيانة زوجية عارضة قام بها الزوج، ليرجح الطبيب احتمال وفاتها. لم يؤكد الفيلم صراحة أن الزوج الخائن هو المدعي العام، وإن كانت كل الشواهد تؤكد ذلك.
“نوري بيلغي جيلان” هو أحد المخرجين الذين يحظون باحترام كبير في العالم وقد فاز ثالث أعماله الطويلة “بعيد” (Distant) بجائزة التحكيم الكبرى (2002)، وجائزة أفضل ممثل في مهرجان “كان”، إضافة إلى فوز فيلمه “مناخات” (Iklimer) بجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما “فيبريسكي” (2006)، وحصوله على جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي عن فيلم “القرود الثلاثة” (Üç Maymun) عام 2008.