“إنه وعد”.. عشق مستحيل تحت عين الآلهة يصنع كلاسيكيات بوليود
مع أكثر من ألف فيلم يُصوّر في العام، تُعتبر الهند أكثر بلدان العالم إنتاجا للسينما، ومع ذلك يرى معظم الغربيين بأن الأفلام التي يُقال عنها (هندية) -بسبب اللغة المُستخدمة في حواراتها- كاريكاتورية ذات ذوق رديء، وأنها غير قابلة للتصدير.
من يرغب بمُشاهدة هذه الأفلام الخارجة عن المألوف بأحداثها التي لا تنتهي أبدا، وعُقدها الساذجة والسطحية، ووصلاتها الموسيقية المُنبثقة من الفراغ؟ جزءٌ كبيرٌ من البشر. تصوروا. إذن دعونا نتجوّل في هذا العالم الذي يطفح بالألوان، والابتسامة الصفراء على الشفاه، وأهلا وسهلا بكم في بوليود.
هذه الفقرة التمهيدية هي جزء من تحقيق نُشر عام 2002، وهو يُعبّر عن وجهة نظر الصحفية الفرنسية “فلورانس كافيه” المُهتمة بالسياحة والسفر.
صلاة تتحول إلى وجه المحبوبة.. شرارة حب في المعبد
في فيلم “إنه وعد” (Yeh Vaada Raha) من إنتاج عام 1982 لمُخرجه “كابيل كابور”، نرى البطل “فيكرام” (الممثل ريشي كابور) وهو وريث عائلة غنية، و”سونيتا” (الممثلة بونام ديلون) وهي فتاة يتيمة وفقيرة ترغب بأن تصبح مغنية.
وقد تخيّر السيناريو بأن يلتقيا بسرعة مع بداية المشهد الأول بالتحديد في المعبد، كان الاثنان يقفان مباشرة أمام المعبود “كريشنا”، وحالما يتطلع “فيكرام” إلى وجهها يسحرهُ جمالها ورقتها وتعبّدها، فيستدير وتتوّجه صلواته نحوها، وبعد تلك اللحظات التمهيدية يفترقان.
لكن صورتها لا تُبارح مخيلته، فيبحث عنها في القرية التي يقضي فيها إجازته حتى يجدها، وفي البداية تتمنّع، لكنها ما تلبث حتى تقع في حبه، ثم يعودان إلى المعبد مرة أخرى، ويربطان في أحد أعمدته العقد الذي أعجبها وأهداه لها، ويتعاهدان بأن يجتمع جسداهما، وروحاهما إلى الأبد.
يوم الزواج.. حادثة تفسد وجه البطلة وتقلب الأحداث
تمتنع أم البطل (الممثلة راخي غولزار) عن مباركة زواجهما، ولكنهما يقرران الزواج، وفي طريقهما إلى المعبد لإجراء الطقوس التقليدية، يتعرضان لحادثة مؤلمة، ينجو منها “فيكرام”، ويتشوّه وجه “سونيتا” تماما، ولكي تُبعده أمه عنها تُخبره بأنها ماتت، ولكنّ الجراح البارع د. “ميهرا” (الممثل شامي كابور) يُجري لها عمليات متتالية، ويعيد لها وجها آخر ليس أقلّ جمالا من سابقه، وحينها تطلب منه بأن يتبناها، وتسمي نفسها “تينا مونيم”، وتعيش معه حياة جديدة (تقوم بهذا الدور “تينا أمباني”).
ومن أجل هذه التفصيلة بالتحديد، يتحججّ السيناريو بأنّ الطبيب لم يعثر على صورةٍ قديمة لها، والحقيقة أنه بدون تلك الحجة لن يكون للحادثة أي معنى ولا ضرورة في سياق الأحداث. عموما في السينما الهندية، يجب أن تكون الانقلابات الدرامية عظيمة، وإلا فقدت مذاقها الحارق.
بعد الحادثة، وفي إحدى المرات يلتقي “فيكرام” بـ”تينا”، ويشعر بأنها “سونيتا” التي كان وما زال يحبها، فهي تمتلك نفس الصوت الشجي الحاني الذي كان يسمعه في لقاءاتهما العشقية، وفي اللحظات الأخيرة من الفيلم تعترف له بالحقيقة، ولكنها لا تريد الوقوف في طريق زواجه من “ريتا” (الممثلة ساريكا تاكور)، وهي ابنة رجل أعمال ثري اختارتها له أمه كي تُنقذ تجارتها من الإفلاس، أو تعمّدت هذا الزواج المُرتب كي تدعم موقعها التجاري.
مسحة الجبين.. جرح يضع علامة الزواج المقدسة بالمعبد
تعود “سونيتا” إلى المعبد كي تفكّ العقد من العمود، وتتخلص من وعدها السابق، هناك كان “فيكرام” ينتظرها، فيمنعها من ذلك، ويكرران معا نفس الأمنيات عند لقائهما الأول.
“فيكرام” يتيم الأب، تولت أمه الصارمة أعمال والده، وفي اللحظة التي يلتقي بـ”سونيتا” كي يُهديها العقد، كانت تصلي أمام تمثالي المعبود “كريشنا” ومعشوقته، وتقول إنها تعتبرهما بمثابة والديها، فهي يتيمة الأب والأم أيضا، وفي سياق الأحداث فيما بعد، سوف نفهم أسباب معارضة الأم، فقد كان والد “سونيتا” مجرما، وتركتها أمها في ملجأ للأيتام.

في هذا الفيلم، تبدأ الأحداث في المعبد، وتنتهي نهاية سعيدة فيه، “فيكرام” و”سونيتا شخصان مؤمنان، وفي هذا المكان المُقدس بدأت قصة حبهما، وتشكلت الأحاسيس الأولى بينهما، وكان المعبد ملاذهما. وفيه يتجسّد الجانب الديني بوضوح، وتنضح علاقة الحب بين العاشقين بقدسيةٍ روحانية.
في نهاية الفيلم، عندما تركض “سونيتا” كي تدخل إلى المعبد وتفكّ العقد من مكانه وتتخلص من وعدها، يلحقها “فيكرام” وتعترضه قطعة حديدية تمزق ملابسه وتجرحه، وسرعان ما يضع يده المُلطخة بقطرات الدم على جبين حبيبته، وهي علامة الزواج المُقدسة التي لا رجعة فيها.
صناعة الفيلم.. اقتباس أوسكاري ودور تتقاسمه ممثلتان
جرت العادة في كثير من الأفلام الهندية الجماهيرية أن تكون مقتبسة من أفلام أجنبية، وهذا الفيلم مقتبس عن فيلم أمريكيّ بعنوان “الوعد” (The Promise) وقد أُنتج عام 1979، وأخرجه “جيلبرت كيتيس”، ورُشح لجوائز الأوسكار عام 1980، وحصل على جائزة أفضل موسيقى وأغانٍ.
في السينما العربية، لن يستسيغ المتفرج بأن يستدير “فيكرام”، ويتوجه بصلواته نحو “سونيتا”، وكأنها أصبحت الإله المعبود، وحسب علمي فإن تراثنا السينمائي العربي لا يحتوي على فيلم تنشأ فيه علاقة حب بين عاشقين في جامع أو كنيسة.
ومع أن بعض الممثلين الهنود مثل “شاروخ خان” و”أميتاب باتشان” وغيرهما قاموا بأدوارٍ مزدوجة في بعض الأفلام، فإنه من النادر أن نعثر على ممثلتين مختلفتين تؤديان نفس الدور كما ظهر في الفيلم، إذ تتبادل ممثلتان دور شخصية واحدة، أما “سونيتا” فقد أدت دورها الممثلة “بونام ديلون” قبل الحادثة، وأما “تينا” فقد أدت دورها الممثلة “تينا مونيم” بعد الحادثة، ومع أنّ “بونام” تحظى بحضور أفضل على الشاشة، فإن “تينا” تؤدي الأجزاء الأصعب في الفيلم.
ومن يعرف الممثل “شامي كابور” شابا وسيما متدفقا بالحياة في قائمة طويلة من أفلامه، سوف يحزن كثيرا عندما يجده في دور ثانٍ، وقد تقدم به العمر وتضخم جسده، ولكنه يؤدي دورا إنسانيا، فهو طبيب ورجل حكيم يُعوّض “سونيتا” عن فقدانها لأبيها.
وكما هي عادة السينما الهندية الجماهيرية، يرتكز الفيلم جوهريا على آليات درامية نمطية، تتكرر من فيلم إلى آخر، ولكنها تحتفظ بجاذبيّتها، بفضل تنويعاتها ومذاقاتها المُختلفة.
توابل السينما.. خجل وعقبات وتضحيات وحضور ديني
يمتلئ جسد النص الهندي بكثير من التوابل أو الآليات التي تصنع النكهات الهندية في السينما، ومنها:
يقضي “فيكرام” يقضي عطلته في القرية التي تسكن فيها “سونيتا”، وهي فرصة للسفر والتصوير في مناظر طبيعية خلابة، فالسينما الهندية تعشق السفر. الخجل والمُراوغة المُحببة وتأجيل الإفصاح عن المشاعر الحقيقية هي من السمات اللطيفة للمرأة الهندية. يغلف اللقاء في المعبد أحداث الفيلم بأجواء روحانية، بدون أن تصبح دينية خالصة ومتشددة، كما أن ربط العقد في أحد أعمدة المعبد مرجعية دينية تعفي العاشقين من حوارات طويلة عن الإخلاص والوفاء والحبّ الأبدي. ويحافظ الفيلم على حضور المرجعيات الدينية عند أبطال الفيلم، ولذا تعود “سونيتا” إلى المعبد كي تفكّ العقد من العمود وتُريح ضميرها وتحرر نفسها من الوعد الذي تبادلته مع “فيكرام”. هناك دائماً عقبةٌ ما تمنع زواج العاشقين، وتتضح في الفيلم من خلال والدة “فيكرام”، ولا تكشف عن الأسباب إلا في المشاهد الأخيرة، حين تخبر ابنها بأنّ والد “سونيتا” كان مجرما، وقد تربت في ملجأ للأيتام. تلجأ الأفلام الهندية الجماهيرية إلى إيجاد حالة من التوازن العائليّ بين العاشقين، فإذا كان “فيكرام” يتيم الأب، فإنّ “سونيتا” يتمة الأب والأم معا، وهذه الوضعية تزيد من جرعة تعاطف المتفرج مع الشخصيتين، فهناك جانب عاطفي ناقص في محيطهما العائلي، ويجب أن تكون النهاية سعيدة بأي ثمن كي يجتمع العاشقان عن طريق الزواج، ويبدآن في تكوين أسرة جديدة، فأبطال السينما الهندية لا يستطيعان العيش منفردين بعيدا عن عائلاتهم. يقع انقلاب درامي، وغالبا انقلابات متتالية، تجسدت في حادثة فظيعة تفرق بين العاشقين، وتنجو “سونيتا” بأعجوبة، وتلتقي بطبيبٍ جراح يتبناها ويُعيد إليها وجهها المُشوّه، ولكن “فيكرام” لم يحب وجهها القديم فقط، بل أحبها روحا وجسدا. التضحية فكرة مقدسة في السينمات الهندية، فرغم أن “سونيتا” نجت من الحادثة وتغير وجهها، فإنها لا تريد أن تقف عائقاً أمام زواج “فيكرام” من فتاة أخرى، ذلك الزواج المُرتب من طرف الأم، ولكن الحب أقوى دائما، ويجب أن لا تُلطخه الإغراءات المادية. قانون الصدفة يفرض نفسه دائما، ففي تلك اللحظة قبل أن تفك العقد، يصل “فيكرام” وتجرحه قطعة حديدية، وعندما يضع نقطة دم حمراء على جبينها، تصبح زوجته شرعا وفق الطقوس البوذية، وخلال تلك الأحداث، كان تمثال “كريشنا” الصامت شاهدا على قصة الحب العظيمة بين العاشقين، وهو الذي يُبارك نهايتها السعيدة.
قصة الحب المستحيل.. نكهة حارة تصنع المذاق الهندي
يستند الفيلم على قصة متكررة، وهي علاقة الحب المُستحيلة/ المُمكنة بين أشخاص من طبقات اجتماعية مختلفة، تتباين مقادير توابلها، وتتنوّع من فيلم إلى آخر، ويتضح الاختلاف في هذا الفيلم عن طريق الأسباب التي تجعل “فيكرام” يحب “سونيتا” في وجهين مختلفين، وحده الطبيب الفيلسوف الأب يمنح إجابة عن هذا التساؤل. “عندما نحبّ، فإننا لا نحبّ وجه الشخص نفسه، بل نحب روحه قبل كل شيء.
بينما -على العكس- تظن “سونيتا” أنها بوجهها الجديد سوف تبدأ حياة أخرى، خاصة أنها كانت في الجزء الأول من الفيلم فلاحة بسيطة تعيش في قرية، وأصبحت في الجزء الثاني فتاة مدنية تعيش في المدينة.
وقد احتفظ الأسلوب الإخراجيّ بقواسم مشتركة بين سلوكيات وتصرفات الشخصيتين، “سونيتا” و”تينا”، كي لا يظن المتفرج أنهما شخصيتان منفصلتان ومتعارضتان، حتى أنه جعلهما يتحدثان بصوت واحد عن طريق الدوبلاج الذي أدته ممثلة أخرى، هي “جايا بهادوري باتشان” زوجة العظيم “أميتاب باتشان”.