“طعم العسل”.. نحّال تلاحقه مأساة الأكراد وأثقال الفجيعة في المهجر

فيلم “طعم العسل” للمخرج الكردي السوري مانو خليل هو نمط الأفلام الجريئة التي تمتلك سوية فنية عالية، إضافة إلى خطاب فكري مقنع، وهذا هو ما دأبه في غالبية أفلامه الروائية والوثائقية، الطويلة والقصيرة على حد سواء.

ويكفي أن أشير هنا إلى فيلمه ذائع الصيت “ديفيد تولهيلدان”، وهو يدور حول شخصية الشاب “دافيد رويلر” ابن رئيس المحكمة الفيدرالية السويسرية السابق الذي ترك حياته الرغيدة في سويسرا قبل سبع سنوات، والتحق بالمقاتلين الأكراد في كردستان تركيا، واضعاً حياته في خدمة الشعب الكردي، مُعيداً إلى الأذهان قصص عدد من المناضلين والثوريين الذين ضحوا بأرواحهم من أجل تحقيق حرية الآخرين وضمان كرامتهم الإنسانية.

وقد نجحت الحكومة التركية في منع عرض هذا الفيلم بعض الوقت، لكنها لم تستطع نفيه نهائيا من المهرجانات السينمائية المتعددة التي تناصر قضايا الشعوب. أما فيلم “طعم العسل” فيتمحور حول الفكرة ذاتها، فالقضية الكردية هي شغله الشاغل في البلدان الأربعة التي تضم القومية الكردية وهي تركيا وإيران والعراق وسوريا، مسقط رأس المخرج ومكان نشأته وترعرعه.

إبراهيم النحال.. كردي ينقل مأساته وخبرته للألب

اختار المخرج مانو خليل هذه المرة شخصية “درامية” من أكراد تركيا، حيث يفقد النحّال إبراهيم كيزر في أتون الحرب الدائرة في كردستان منذ أكثر من ثلاثين سنة كل شيء تقريبا، فيخسر نحله و أملاكه بعد أن كان واحدا من أكبر منتجي العسل في تركيا، بل إنه يفقد زوجته و أطفاله ويصبح مطاردا في الجبال.

ابتسم الحظ لإبراهيم فوجد نفسه لاجئا في سويسرا، حيث يبدأ تربية النحل من جديد، و لكن في جبال الألب هذه المرة، بعد أن يمر بسلسلة من المتاعب و المعوقات الناجمة عن تصغير سنّه، حين كان يعيش في تركيا بغية التهرّب من أداء الخدمة الإلزامية.

ورغم أن قصة الفلم تروي السيرة الذاتية لمربي النحل إبراهيم كيزر، فإن جوهرها يقوم على ولده على الذي التحق بالمقاتلين الكرد عام 1996، وكان يخشى عليه من مواجهة مصيره المحتوم، فكل يوم يقلب الصحف، مركزا على صور المقاتلين الذين لقوا حتفهم في المضارب الكردستانية.

صفحة الشهداء.. فقدان فلذات الأكباد في معارك الشرق

بينما كان إبراهيم كيزر منهمكا في تربية خلايا النحل التي يمتلكها في جبال الألب، وبين مهمات عمله الجديد في معمل تعليب السكاكر يشاهد صور ولده في صفحة الشهداء الذين ضحوا من أجل القضية الكردية، فينخرط في بكاء حار، ولكن الحياة يجب أن تمضي إلى الأمام، فهذا هو ديدنها وسُنّتها منذ الأزل، وسوف تستمر إلى الأبد. فلا غرابة أن نراه بعد بضعة أيام متكيفا في حياته الجديدة من دون ابنه (علي) الذي رحلت روحه إلى السماء.

كان كيزر يتمنى أن يشيّعه في الأقل، ويواريه الثرى، ويبكي عند قبره، لكن هذه الرغبة مستحيلة في البلدان المستبدة التي تقارع الآخر، وتقصيه حتى وإن كان شريكها في الوطن والحياة اليومية بأفراحها وأتراحها.

إن ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم هو موضوع الاندماج لمواطن كردي كبير سنا، لكننا نراه منهمكاً في علاقاته الاجتماعية مع “ماكس” و”أنيتا” ويعاملهما معاملة الأب لولديه، ويساعدهما في تربية النحل، معلِّماً إياهما أسرار هذه المهنة التي يعتبرونها في سويسرا “هواية”. ولهذا فقد هيؤوا له فرصة العمل في معمل للسكاكر إلى أن أثبت لهم بالأدلة القاطعة بأنه من مواليد 1946، وليس 1953 كما هو مثبت في أوراقه الرسمية.

النحال كيزر يحاول أن يوطد علاقاته الإنسانية ببلده الجديد

جدار العزلة.. علاقات اجتماعية تنقذ الغراب الوحيد

إن اندماجه في المجتمع السويسري لا يعني أنه راضٍ عن حياته كلياً، فقد وصف نفسه ذات مرة بأنه يعيش وحيداً مثل “غراب”، ويسكن في غرفة صغيرة تصل إليها أصوات المخمورين في الحانة التي تقع تحته مباشرة، حيث يشم رائحة الدخان والمشروبات الكحولية. غير أن حبه للناس هو الذي يدفعه إلى تكوين علاقات اجتماعية قد لا يفلح بعض الشباب في تأسيسها.

يرى كيزر أن الثقة والصدق والإخلاص هي من أبرز ميزات المواطن السويسري، وأنه يسعى دائما أن يكون مخلصا مع أصدقائه جميعا، سواء أكانوا كردا أم سويسريين أم من أي جنسية أخرى، وفضلا عن ذلك فهو يمتلك عددا كبيرا من الأولاد والبنات يزورهم بين آن وآخر، مُبددا جدار العزلة الجزئية المفروضة عليه، فثمة حنين طاغ إلى وطنه، ومضارب طفولته وصباه.

لكنه لم يستطع العودة بسبب نشاطه المناهض لسياسة الحكومة التركية القامعة لحقوق القوميات الأخرى، والسالبة لحرياتهم الشخصية والعامة.

طعم العسل.. حياة كريمة مشوبة بألم الغربة والحنين

قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال منطقي مفاده: “أن طعم العسل حلوٌ، لكننا نحن المتلقين شعرنا بمرارة الموت، وفراق الأهل والأحبة، والحنين إلى الوطن!” وهذا صحيح، لكن حلاوة العسل تكمن في الإصرار على مواصلة الحياة الكريمة، والتضحية من أجلها، خصوصا إذا كان الإنسان فيها مُصادرا ومُستَلَبا.

كما أن إبراهيم كيزر الشخص الرئيس في الفيلم، كان يتمنى أن تكون عائلته مثل خلية النحل المنظمة التي تعمل بدأب لا نظير له، وهو يعتبرها أكثر ذكاء من الإنسان نفسه.

وفي الختام لا بد من الإشارة إلى مصداقية هذا الفيلم وحرص مخرجه على أن يصل به إلى مستوى الوثيقة التي لا يرقى إليها الشك والتضليل.


إعلان