“ريستريبو”.. لمحات من حياة مُصور الحروب الذي قتلته الثورة الليبية

إذا كان الفيلم الوثائقي “ريستريبو” هو الأشهر وربما الأول الذي وُلد من العلاقة الحديثة بين صور المصورين الفوتوغرافيين الساكِنة منها والفيلمية، فإن فِعل التوثيق نفسه -الذي يقوم به عدد متزايد من المصورين الفوتوغرافيين، لعملهم وتجاربهم وما يشاهدوه من أهوال وما تمر بهم من تجارب- عبر تصويره بكاميرات فيلمية مختلفة الأنواع والجودة، يعود إلى سنوات سبقت عرض فيلم “ريستريبو” في عام 2010.

ليس ذلك التوثيق دائما بنية عرضه ضمن أفلام وثائقية أو تحقيقيات تلفزيونية، بل يبدو لكثير منهم كحاجة لحفظ التجارب التي يمرون بها عبر أكثر من وسيط فني، لا ليتنافس مع جماليات الصور الفوتوغرافية، بل لِيُشاهد بصورة متوازية معها، مانحا الحَدث ذاته إطارا واقعيا بتركيبة جماليّة مُختلفة.

صبيان المعسكر الصيفي.. رحلة تصوير الجيش الأمريكي في الحرب

يروي المخرج الوثائقي ومُصور الحروب الفوتوغرافي الأمريكي سيباستيان يونغر، في مقابلة مع برنامج “الصف الأول” البريطاني الإذاعي، أنه تلقى المكالمة الهاتفية الأولى من زميله البريطاني “تيم هيثرنغتون”، عندما كان في بيته في مدينة نيويورك، وطلب منه مرافقته في مهمته القادمة، لتصوير وحدة جيش أمريكية أثناء خدمتها في أفغانستان. يلتقي المصوران للمرة الأولى في الهند، في طريقهما إلى بلد المتاعب، بعدها سيقضيان أشهرا طويلة مع الوحدة الأمريكية وجنودها الشباب.

كانت المحصلة مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية، منها سلسلة للمصور البريطاني “تيم هيثرنغتون” أثارت جدلا كبيرا، فقد قام بتصوير الجنود أثناء نومهم، فبدوا كالصبيان في معسكر صيفي، وبدون الأقنعة القاسية التي تفرضها بدلاتهم العسكرية ومهماتهم.

وقد أثمر التعاون بين المصورين الفوتوغرافيين فيلما وثائقيا بعنوان “ريستريبو” (Restrepo)، وحظي باهتمام كبير أيضا، حتى أنه نافس على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي في عام 2011. وبعد أشهر قليلة من حفل الأوسكار اتجه المصور البريطاني “هيثرنغتون” إلى ليبيا، ثم بعد أسابيع من وصوله هناك، قتل أثناء عمله في مدينة مصراتة الليبية في عام 2011.

“أين خط النار من هنا”.. تحية وثائقية مفعمة بالأسى

أنتجت قناة “أتش بي أو” (HBO) الأمريكية فيلما بعنوان “أين خط النار من هنا؟ حياة وزمن تيم هيثرنغتون” (Which Way Is the Front Line from Here? The Life and Time of Tim Hetherington)، من إخراج الأمريكي “سيباستيان يونغر”، وهو تحية مُفعمة بالأسى من المخرج لزميله الراحل.

كان مغلفا بالحزن والصدمة لفقد مُصور شاب، ومثّل مناسبة لطرح تساؤلات عن مهنة التصوير نفسها، وبالخصوص تصوير الحروب والمناطق الخطرة، وما الذي يدفع مصورين للمخاطرة بحياتهم من أجل التقاط صور فتوغرافية. يرد “تيم هيثرنغتون” على تلك التساؤلات بنفسه، عبر مواد خام صُورت له قبل سنوات من مقتله، على الأرجح من قبل زملائه في المهنة، ومنهم “سيباستيان يونغر” نفسه.

يبدأ الفيلم بمشاهد مؤثرة لـ”تيم هيثرنغتون”، أثناء محاولاته لصوغ تعابير مناسبة عن علاقته بما يراه والناس الذين يقابلهم في عمله حول العالم، وهو يبحث عن لغة تعبر بدقة عما يِحسّه فعلا، ويقطع بنفسه هذه الشهادات مرارا، محاولا إعادة ترتيب أفكاره، لكن ما عجز عنه الشاب البريطاني وقتها، يحققه هذا الفيلم الوثائقي الذي يمنح بصدقه وإخلاصه الكمال لتلك الشهادة غير المكتملة.

ملاحقة الحرب.. أرشيف ضخم بعدسة زملاء المهنة

يَستعيد الفيلم الوثائقي أبرز محطات حياة المصور البريطاني، مستعينا بأرشيف ضخم من حياته القصيرة (39 عاما)، وقد ولد في عائلة من الطبقة المتوسطة الإنجليزية، وتلقى تعليما ممتازا، لكن تنقلات الأسرة المتعددة بسبب عمل الوالد، طبعت حياة “تيم” بعدم الاستقرار، فتوجه إلى الهند بعد انتهاء دراسته الجامعية، وقضى عامين هناك عاش فيهما حياة تقترب من التشرد والصوفية.

وعندما عاد إلى إنجلترا التحق بدورات تصوير فوتوغرافي، وقد لفت انتباه مدرسيه بتفانيه، حين قضى ليالي طويلة مصورا غرف طوارئ في المستشفيات، وقدم تلك الصور في سلسلة حظيت بالاهتمام في بريطانيا. وسريعا ما جذبت حروب العالم ومآسيه المصور الشاب، فاتجه إلى أفريقيا ليغطي بضعة حروب هناك، ثم منها إلى أفغانستان.

وفرت المادة الفيلمية التي سجلها زملاء “تيم هيثرنغتون” أثناء تغطياتهم الصحفية والفوتوغرافية في أفريقيا، وكانت المادة الأبرز للفيلم الوثائقي هذا، والأكثر تأثيرا واقترابا من عالم المصور البريطاني، وخاصة عندما يقوم المخرج بتوليف مشاهد من تلك المادة الفيلمية مع الصور الفوتوغرافية الشهيرة للمصور في الأمكنة والأحداث ذاتها، فصورة الصبي الذي كان يقف أمام بناية مُهدمة في دولة سيراليون، سيتبعها مشهد للصبي ذاته، صُور من قبل زميل لـ”تيم هيثرنغتون”، يقف أمام البناية ذاتها.

دفء الإنسانية.. مبادئ المصور في أحلك الظروف

رغم حِلكة وعُنف المحيط الذي عمل فيه “تيم هيثرنغتون”، فقد حاول دائما أن لا يتخلى عن ثوابته الإنسانية وشعور الواجب لتغيير ما يحدث في العالم، فهو يقضي أياما طويلة في تصوير طلاب مدرسة قامت ميليشيات سيراليونية بقلع أعينهم، في إحدى الحروب هناك.

يصور الفيلم مشهدا طويلا مرعبا لجماعة أفريقية، تقبض على طبيب متعاون مع الحكومة التي تقاتلها، وعندما اقترب زعيم المجموعة من إعدام الطبيب، خاطر المصور البريطاني بالتدخل والرجاء منه بالإبقاء على حياة الطبيب، في فِعل يراه كثيرين متنافيا مع العمل الصحفي الحيادي.

اللافت أن الجزء الخاص بالفترة التي قضاها “تيم هيثرنغتون” في أفغانستان، هو أقصر من ذلك الجزء الذي يركز على الزمن الذي قضاه في أفريقيا، رغم أن مخرج الفيلم الوثائقي هو شريك المصور البريطاني في فترة أفغانستان، وأن التوثيق الفيلمي كان إلى جنب التصوير الفوتوغرافي جزءا أساسيا من مشروعهما الفنيّ.

في شهادة صورت في أفغانستان، يكشف “تيم هيثرنغتون” عن عدم ارتياحه الكامل من التغيير الجديد الذي طرأ على عمله، فهو مضطر للبقاء مع الوحدة العسكرية الأمريكية على طول الوقت لاعتبارات أمنية، ورغم ذلك تنتج فترة أفغانستان صورا شديدة القوة لأفغان من حياتهم اليومية المعقدة والمحفوفة بالخطر والعنف، منها الصورة الشهيرة لأب أفغاني يحمل جثة ابنه الرضيع، بعد أن قتله انفجار كبير في المنطقة.

رحلة مصراتة.. آخر الصور الحزينة من الثورة الليبية

فيلم “ريستريبو” عن فترة أفغانستان تلك، يقود صاحبه إلى الأوسكار وإلى هوليود، ينقل الفيلم الوثائقي عن المصور البريطاني مشاهد صورت بكاميرات عادية وبدون أي احتفالية لاستعدادات “تيم هيثرنغتون” للتوجه لحفل الأوسكار.

تيم هيثرنغتون أثناء عمله في توثيق الحروب

نادرة هي الأفلام التي تجرد الاحتفال الأكبر للسينما في العالم من المبهرجات الشكلية، ومن تلك الأفلام فيلم “أين خط النار من هنا؟ حياة وزمن تيم هيثرنغتون”. كما أن الوجود في الحفل سريالي وصعب كما يكشف “تيم” نفسه، ويقف على النقيض مما يواجه في عمله في مناطق التوترات في العالم. تجربة حفل الأوسكار كان لها تأثير كبير على “تيم هيثرنغتون” كما تنقل صديقته، وتسرع من توجهه إلى منطقة الشرق الأوسط التي بدأت ثوراتها تَشغل العالم وقتها.

لم يُتح لـ”تيم هيثرنغتون” كثير من الفرص لتصوير تجاربه من ليبيا عن طريق كاميرات الفيديو، فالعنف الذي كان بانتظار مجموعة المصورين في مصراتة كان مفاجئا للجميع، لكنه ترك مجموعة مُعبرة من الصور الفوتوغرافية التي أخذ بعضها قبل مقتله بساعات. يحصل الفيلم الوثائقي أيضا على مشاهد أرشيف نادرة لمجموعة الأطباء الليبيين، وهم يحاولون إنقاذ حياة المصور البريطاني من الجروح العميقة في جسمه، بعد أن ضربت البناية التي كانت تضم فريق المصورين الأجانب قذيفة من جيش القذافي.

حظيت الصور الفوتوغرافية التي التقطتها “تيم هيثرنغتون” عبر حياته المهنية بمساحة كبيرة في الفيلم الوثائقي، هي هنا بقسوتها ونقلها لعوالم وحيوات، تختزل بشكل ما حياة المصور الذي نذر حياته لمهنته ومشاقها. الصور أيضا هي المُنجز النهائي للمصور الراحل، ومن الصعب التعرف عن كثب على عالم المصور الخجول بطبعه بدونها، فقد ورث المحافظة الأخلاقية من الطبقة الاجتماعية الإنكليزية التي ينتمي لها.

يعرف المخرج والمصور الأمريكي “سيباستيان يونغر” أهمية الصور الفوتوغرافية في حياة رفيقه الراحل، لذلك يبرزها مع شهادات مؤثرة من زملاء وأصدقاء ووالدي “تيم هيثرنغتون”، وهما يظهران في حوارات قصيرة لكن ضرورية، لاستكمال هذه التحيّة السينمائية الحزينة.


إعلان