“زوجي مقاوما”.. شعلة كفاح تنير حياة نساء الشهداء والأسرى المظلمة

في زمن الربيع العربي وما بعده أصبحت المأساة الفلسطينية معممة على دول الجوار الفلسطيني، فمعاناة ذوي ضحايا القمع الإسرائيلي لم تعد تختلف كثيراً عن معاناة ذوي ضحايا هذه الأنظمة القمعية المجاورة. وهذا أحد مكامن أهمية الفيلم الوثائقي “زوجي مقاوما” الذي أخرجه يحيى حسين وعرضته قناة الجزيرة الوثائقية.

يتناول الفيلم مأساة زوجات المناضلين الفلسطينيين الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلي، ودفعوا الثمن غاليا، إما في الاعتقال أو الإبعاد عن الوطن أو الاستشهاد، أو حتى الحالات الثلاث معا.

أسماء أبو الهيجاء.. زوجة مقاوم تنتظر خبر استشهاده

يختار المخرج عدداً من هؤلاء المناضلين الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة واستشهدوا في معظمهم، ويتوجه نحو زوجاتهم لتتحدث كل منهن عن مسيرة زوجها النضالية، وعن حياتها وذكرياتها معه، وتجربة اعتقاله أو استشهاده أو إبعاده، وعن معاناتها في ظل غيابه وفقدانه.

من هؤلاء أسماء أبو الهيجاء زوجة المقاوم الأسير جمال أبو الهيجاء من حركة حماس، وهو أحد قادة معركة جنين عام 2002، وقد اعتقل وقطعت يده اليمنى، وحكم عليه بالسجن المؤبد تسع مرات، بينما هي اعتقلت لمدة عام بغية الضغط على زوجها. وهي أم لثلاثة أولاد وابنتان.

تتحدث أسماء عن خوض زوجها لمعركة جنين، وهي تترقب كل يوم أن يأتي خبر استشهاده، وعن صورة هذا الاستشهاد التي كان يضع عائلته فيها لكي يخفف من وقعه عليهم في حال حصوله، وعن ظروف وطريقة ومكان اعتقاله أثناء تلك المعركة، وعن طيفه الحاضر في كل تفصيل من تفاصيل حياتها اليومية، وحتى “في الطبخات التي يحبها”.

كنيسة المهد.. قصة تسعة وثلاثين يوما من الحصار

مأساة أسماء أبو الهيجاء لا تقل عن مأساة كفاح حرب زوجة عبد الله داود، وهو أحد مبعدي كنيسة المهد في بيت لحم التي لجأ إليها المقاومون، بعد أن طاردتهم قوات الاحتلال عام 2002، وقد احتضنتهم الكنيسة في إحدى قاعاتها تسعة وثلاثين يوما.

كفاح حرب زوجة عبد الله داود أحد مبعدي كنيسة المهد التي لجأ إليها المقاومون في عام 2002

كفاح حرب ناشطة حقوقية، وأم لولد وبنت، وتعرضت مع زوجها للإبعاد أكثر من مرة، وهي تأخذنا إلى كنيسة المهد، وتشعل شمعة “لتكون بصيص أمل بعودة أولئك المبعدين”، وتروي لنا بكثير من الحزن قصة ذلك الحصار، وما رافقه من قلق وخوف وترقب. كان الحصار من السماء والأرض، البالون الذي يحوم فوق الكنيسة ويرصد كل تحرك يقوم به هؤلاء المقاومون، والتهديد بالقنص مع كل لحظة وحركة.

وقد أبعد زوجها عبد الله داود إلى موريتانيا، ومن هناك انتقل إلى الجزائر وتوفي فيها، ليعود إلى فلسطين جثة هامدة. تستعيد كفاح تلك الأحداث المريرة وترويها بغصة.

“يسلم نفسه أو نأتي لك به في كيس”

هناك قصة مأساوية أخرى يعرضها الفيلم عاشتها رنا يغمور زوجة الأسير ياسر الشرباتي من حركة فتح، وقد اعتقل في انتفاضة الأقصى، وحكم عليه بالسجن المؤبد. وبعد اعتقال زوجها تعلمت رنا التصوير الضوئي، وهي تعمل به لكسب عيشها وإعالة أولادها الثلاثة.

رنا يغمور زوجة الأسير ياسر الشرباتي الذي اعتقل في انتفاضة الأقصى

وتحكي عن الضغوطات التي تعيشها في غياب زوجها، وعن إصرارها على البقاء في عهدته، رغم أنه يقضي عقوبة السجن المؤبد، وإصرارها على مواجهة كل الصعوبات التي تمر بها هي وأولادها، وعلى سعيها لجعل أولادها يعيشون في أحسن حال.

وهنا تدخل الكاميرا إلى بيتها لترينا أطفالها وطريقة عيشهم وتحركهم وسلوكهم وعلاقاتهم بها وببعضهم. وأن المهم في علاقتها مع محيطها الاجتماعي هو الاهتمام بأولادها والسؤال عن والدهم الأسير، وهذا ما تتفقده.

علي مسلماني.. عودة إلى المنزل بعد عشرة أحفاد

بعد مقطع رنا يغمور يأتي المقطع الفيلمي عن أم عزام مسلماني زوجة الأسير علي مسلماني الذي اعتقل عام 1987، وأمضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 22 عاما، وخرج في صفقة تبادل الأسرى الفلسطينيين مع الجندي الإسرائيلي “جلعاد شاليط” عام 2011.

علي مسلماني.. اعتقل عام 1987 وأمضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 22 عاما

تتحدث أم عزام عن حياتها ومعاناتها خلال السنوات الطويلة لاعتقال زوجها، فعندما اعتقل “كان الولد الصغير عمره شهران والكبيرة سنة ونصف، وقد خلّصت الدكتوراه وأبوها في السجن، وزوّجتهم وصار عندي عشرة أحفاد، وقد توفيت أمه وأخوه وأخته وهو في السجن، المعاناة طويلة جدا.. الحمد لله”.

أم عزام مسلماني زوجة الأسير علي مسلماني

أخذ المخرج هذه الشهادة من أم عزام عشية إتمام صفقة تبادل الأسرى، وبالتالي كانت تتحدث وهي منتظرة عودة زوجها. وتدعو الله أن “تتكرر هذه الفرحة إلى أن تتبيض كل السجون”. وهنا ترصد لنا الكاميرا الاستعدادات لاستقبال الأسير في داخل البيت وفي خارجه في القدس، وكيف أفرج عن علي مسلماني وكيف استقبله أهله وذويه.

عبير عمرو.. أسر يقتل بصيص الأمل بعد الفاجعة

عبير عمرو امرأة أخرى لها قصتها ومأساتها المختلفة، فقد استشهد زوجها الأول حازم عمرو في انتفاضة الأقصى، فتزوجت من أخيه أيمن عمرو الذي اعتقل وحكم عليه بالسجن لسنوات طويلة، لكنه خرج في صفقة تبادل الأسرى عام 2011 وأبعد إلى غزة، فانتقلت العائلة معه لتعيش هناك.

هنا يتحول الحديث ليدور حول قضية في غاية الحساسية، قضية المرأة التي استشهد زوجها وأصبحت مدار مراقبة المجتمع التقليدي لكل حركاتها وتنقلاتها اليومية، وهنا يقترح عليها المقربون والأهل أن تتزوج أخا الشهيد.

كان الاقتراح بمثابة صدمة عليها وعلى أخي الشهيد، وجعل كلا منهما يعيش صراعا يمكن وصفه بأنه صراع بين العقل والعاطفة. العاطفة النابذة -إن صح التعبير- التي تجعل الشخص يرفض الزواج من زوجة أخيه الشهيد، وتجعل المرأة ترفض الزواج من أخ زوجها، بينما يقول العقل بضرورة حصول مثل هذا الزواج، لكونه يحمي أولاد الشهيد بوضعهم في كنف عمهم، ويحمي الزوجة من أعباء مواجهة الحياة بمفردها، ويضع حدا لمراقبة الناس وأقاويلهم.

ومع ضغط الأهل وتشجيعهم وقليل من التفكير العقلاني بوضع الزوجة الأرملة وأولادها الأيتام ينجح هذا الزواج، رغم صعوبته عليهما. لكن بعد مضي أربعين يوما يعتقل أيمن، ولا يفرج عنه إلا في صفقة التبادل.

“أهلاً بالأبطال العائدين”

ميسر جابر هي زوجة مقاوم آخر هو يوسف السركجي الذي اعتقل عام 1988، وأبعد إلى منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان عام 1992، وبقي مطاردا خلال انتفاضة الأقصى إلى أن اغتيل بعملية خاصة، ولم تتزوج ميسر بعده، ولها منه ولدان وابنتان.

صفقة الأحرار 2011 ووصول المحررين إلى غزة

تتحدث ميسر عن حياتها مع زوجها وطريقة جنود الاحتلال الهمجية في اعتقاله، ثم إبعاده إلى مرج الزهور، وكيف استقبلهم ضابط الاحتلال أثناء عودتهم إلى فلسطين ووصولهم إلى منطقة الفارعة بالقول: “أهلا بالأبطال العائدين”، مما يعني أن بطولتهم أثارت إعجاب العدو قبل الصديق.

كما تتحدث عن القلق والخوف الذي لازمها أثناء مطاردته وتوارد الأنباء عن اغتيال المقاومين وخشيتها في كل مرة اغتيال من أن يكون هو الضحية، وكيف تلقت نبأ الاغتيال إثر اجتياح قوات الاحتلال لمدينة نابلس، وأنها ما زالت تحتفظ بالمنديل الذي يحمل آثاراً من دمه عندما ودعته وألقت عليه النظرة الأخيرة في ثلاجة المستشفى.

صورة أرشيفية لجنازة المقاوم يوسف السركجي

وهنا مع انتهاء حديثها، يستخدم المخرج صورا أرشيفية لجنازة المقاوم يوسف السركجي، ثم يعود إلى الزوجة لنشاهدها في روضة أطفال سميت باسمه، وهي تقول إنها غير نادمة على زواجها منه، ولو عاد الزمان وجاء وطلبها من جديد فستوافق.

آل شمالي.. اكتشاف الحمل يوم استشهاد الأب

ياسمين شمالي هي زوجة مقاومين أخوين، وهما الشهيدان عاهد وعمار شمالي من حركة الجهاد الإسلامي، وقد استشهد عاهد في عملية اشتباك مع قوات الاحتلال داخل قطاع غزة، ولم يمض سوى أربعين يوما على زواجهما، حتى استشهد عمار خلال الحرب على غزة عام 2008.

في يوم استشهاده في حرب غزة عام 2008، علمت ياسمين شمالي أنها حامل منه

وهي لديها أربع بنات وتواصل دراستها الجامعية، وبعد أن تروي قصة استشهاد زوجها الأول عاهد واضطرارها للزواج من أخيه، تتحدث عن زوجها الثاني وقلقها عليه وترقبها لنبأ استشهاده، وأن أكثر ما يؤلمها ويحزنها هو استشهاده في اليوم نفسه الذي عرفت فيه أنها حامل.

تتجاوز ياسمين حالة الصدمة والحزن والمأساة التي تركها استشهاد زوجها الثاني، وتقرر مواصلة الحياة رغم كل الصعاب، فتكون في وقت واحد -حالها حال ميسر جابر- هي الأم والأب لأربعة أطفال، كما تواصل دراستها الجامعية وتنجح بتفوق.

تنظيف البندقية وكي البذلة العسكرية.. مشهد معبر

لعل أجمل مشاهد الفيلم هو المشهد الأول الذي نرى فيه زوجة أحد المناضلين الشهداء وهي تنظف بندقيته وتضع مخازن الرصاص في حقيبته وتكوي بذلته العسكرية، وكأنه سيأتي بعد قليل ويرتدي البذلة ويحمل البندقية وحقيبة الرصاص ويمضي إلى المعركة. إنه مشهد تمثيلي يعيد إحياء تلك الحالة اليومية كما يبدو لتلك الزوجة التي وقفت إلى جانب زوجها المقاوم بكل ما تملكه من قوة ووعي لأهمية المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

لا يعتمد المخرج في فيلمه هذا على السرد الذي يأتي من خارج الصورة (Voice Over)، وإنما يكتفي بالمقابلات وكتابة نبذات مختصرة عن المقابَلين والأحداث، إضافة لاستخدام الصور الأرشيفية لتلك الأحداث، وأهمها معركة جنين عام 2002، وصفقة تبادل الأسرى عام 2011 (منها صور الإفراج عن الأسير علي مسلماني من حركة فتح)، وعمليات الاغتيال أثناء انتفاضة الأقصى، واجتياح نابلس عام 2002.

زوجة أحد المناضلين الشهداء وهي تنظف بندقيته وتضع مخازن الرصاص في حقيبته وتكوي بذلته العسكرية

اشتغل المخرج في فيلمه بإيقاع هادئ حزين فرضه الموضوع المتناول، وعززه بجمل موسيقية هادئة حزينة لآلة البيانو أحياناً وأوركسترالية جنائزية أحيانا أخرى، بدأت مع بداية الفيلم وتخللت اللحظات التي ترافق أو تعقب كلام النسوة الحزين الذي يثير لدى المشاهد مزيدا من الحزن والأسى على مصائر هؤلاء النسوة بعد استشهاد أو اعتقال وسجن أزواجهن.

ولم يكن الفيلم يخلو من الرمز كما هو الحال مع المشهد الافتتاحي عندما توضع وردة في فوهة البندقية، للتعبير عن الحلم باليوم الذي تطلق فيه هذه البندقية الورد بدل الرصاص. الوردة استخدمها المخرج أيضا في اللقطة الختامية، حين صورها وهي ملقاة في بحر عاصف، لتكون كناية عن هؤلاء النسوة اللواتي استشهد أزواجهن، وتركوهن في مواجهة عواصف الحياة.

في الضفة الأخرى من فلسطين هناك قصص مأساوية متشابهة لزوجات آلاف المقاومين الذين اعتقلوا أو أبعدوا أو قضوا نحبهم خلال مقارعتهم الاستبداد، سيأتي يوم يتمكن فيه السينمائيون من إجراء أفلام مشابهة عنهم.


إعلان