“برج المراقبة”.. أم جريحة تلجأ إلى الغابة فرارا من عنف الريف

 

شاهدت الفيلم التركي “برج المراقبة” (Gözetleme Kulesi) للمخرجة “بيلين أسمر” في مهرجان روتردام السينمائي، وكان من ضمن أفلام المسابقة الرسمية للمهرجان المخصصة للأفلام الأولى والثانية لمخرجيها.

وكنت قد التقيت بالمخرجة قبل أربع سنوات في روتردام أيضا عندما جاءت لعرض فيلمها الروائي الطويل الأول “من 10 إلى 11” (11’e 10 Kala) الذي تعتبره بعض المصادر السينمائية خطأ فيلما وثائقيا، وهو الفيلم الذي حصل على عدد من الجوائز في مهرجانات السينما العالمية.

“من 10 إلى 11”.. مكتبة ضخمة تواجه الترحيل في إسطنبول

يصور فيلم “من 10 إلى 11” ولع رجل مسن (هو في الحقيقة العم الحقيقي للمخرجة) باقتناء المطبوعات، ويمتلك مكتبة هائلة مليئة بآلاف الكتب والدوريات القديمة التي تعكس تاريخ مدينة إسطنبول، لكنه يصاب بصدمة كبرى عندما يصبح مطلوبا منه مغادرة ذلك المكان الذي يضم مكتبته التي عاش معها منذ شبابه.

كان هذا الفيلم الذي برعت مخرجته في إدارة الممثلين فيه، كما أجادت في الانتقال بين الخاص المتمثل في الحالة النفسية للرجل وتأثره بفاجعة التخلي عن تاريخه، وبين العام المتمثل في مدينة إسطنبول الحديثة وما يحدث لها من تغيرات الآن تلقي بظلالها على البشر بقسوة، وكان تركيزها منصبا على تصوير الشخصية أكثر من اهتمامها بالإدانة الاجتماعية أو السياسية.

“برج المراقبة”.. فتاة تترك الجامعة لكسب رزقها في الريف

تعود المخرجة “بيلين أسمر” في فيلمها الثاني “برج المراقبة” لكي تمد تجربتها الأولى على استقامتها، من خلال موضوع يتميز أولا بالجرأة، لكونه يطرح كيف تعامل المرأة في الريف التركي، وكيف يمكن أن تؤدي المعاملة السيئة والضغوط الاجتماعية القاسية والقمع البطريركي والسيطرة الذكورية داخل العائلة، إلى عكس ما يرمي إليه عادة ذلك التزمت في المعاملة.

لكن هذا الجانب لا يعالج على نحو مباشر ولا يركز عليه كثيرا من جانب المخرجة. إنه قائم هناك طوال الوقت، نلمحه في كثير من المواقف، وأساسا من خلال شخصية العم القهرية الذي تلجأ إليه ابنة أخيه “سهر” حين تركت تعليمها الجامعي، لكي تكسب عيشها بنفسها، بعد أن عجزت أسرتها عن الإنفاق عليها.

تبدأ “سهر” العمل مرشدة للسياح لدى شركة تسيير حافلات سياحية في منطقة جبلية بتركيا، وتقيم عند هذا العم الذي يطلب منها أن تكف عن العمل مرشدة سياحية، بعد أن يلمح تعرضها لمطاردة السائق الذي يبدو أنه يجدها لقمة سائغة، لكونها فتاة وحيدة، لكنه ليس أفضل حالا من السائق، كما سنعرف فيما بعد.

غرفة الطابق السفلي.. مسرح جريمة العم الفاضحة

نحن أمام فتاة تمردت على التقاليد، إنها تخفي عن أسرتها طبيعة عملها، وعندما تعلم أمها يجن جنونها، فالمرأة التقليدية ليست أقل سوءا من الرجل هنا، كما يرغمها عمها على ترك العمل في الحافلات والبقاء لمساعدته في إدارة المطعم الذي يستأجره، ونعرف أيضا أنه متأخر عن سداد قيمة إيجاره لصاحبه.

هذا العم الذي يبدو وكأنه يقدم مساعدة جليلة لابنة أخيه، سرعان ما نعرف أنه وغد حقيقي، فقد استغل وجود الفتاة “سحر” (الممثلة نيلاي أردونميز) في منزله في غرفة تقع في الطابق السفلي تحت الأرض، ثم اغتصبها، مما أدى إلى ما أصبحت عليه الآن.

إنها تختبئ عن العيون بعد أن أصبح حملها ظاهرا للعيان، أمها التي لجأت إليها لا تستطيع تحمل وقع الصدمة، فتلفظها لكي تعود وتضع وليدها الذي تعتبره طفلا حراما غير مرغوب فيه، فتتخلى عنه وتتركه في الغابة ذات ليلة من تلك الليالي المظلمة العاصفة.

“نيهات”.. سلوك يلفت نظر حارس الكوخ اللماح

من جهة أخرى هناك “نيهات” (أولغون سيمسك) الحارس الذي يقيم في كوخ بالغابة لمراقبة الحالة هناك، ورصد أي حريق قد يشتعل فجأة بين الأشجار والإبلاغ عنه. لقد اختار “نيهات” العمل في هذا المكان المنعزل ورضي به، راغبا في اعتزال الحياة والأهل والأصدقاء والصحبة والمدينة، بعد أن تسبب في حادث أثناء قيادة سيارته، مما أودى بحياة زوجته وولده (وهو ما سنعرفه فيما بعد).

إنه يهبط بين الحين والحين إلى ساحة البلدة قرب المحطة، لكي يتناول الطعام أو يشرب الشاي في المطعم الذي تشرف عليه “سهر”، وتلفت الفتاة نظره بسلوكها الغريب، بل إنها تصاب ذات مرة بآلام مفاجئة لا تستطيع إخفاءها، وتهرع إلى حيث تضع مولودها بنفسها في غرفتها السرية.

نيهات الحارس الذي يقيم في كوخ بالغابة لمراقبة الأوضاع

وبعد قليل يراها تتسلل إلى الغابة القريبة، فيتبعها ويرى ما يصيبه بالصدمة. لقد تركت طفلا رضيعا تحت شجرة، ثم هجرته وسارت إلى حيث لا ندري.

“لا أريد له أن يكبر ليعرف أنه طفل الحرام”

يجد “نيهات” نفسه مشدودا إلى تلك الشخصية الحزينة الوحيدة الضائعة، فيلتقط الطفل ويتابع الفتاة، ويقنعها بأن تأتي للإقامة عنده في كوخه، حيث يوفر لها الأمان والدفء، ويتركها مع وليدها الذي تنفر منه وترفض أن تمنحه مشاعر الأم.

تدريجيا وبالدفع المباشر والرجاء والإغراء تقترب “سهر” من وليدها، إلى أن ترضى بمنحه دور الأم، لكن هذا لا يأتي إلا بعد مواجهات عنيفة مع “بيهات”: من أنت؟ ما شأنك؟ ولماذا تصر على ما تفعله؟ إنني لا أريده، ولا أريد له أن يكبر ليعرف أنه طفل الحرام!

تفاصيل تلك العلاقة الغريبة التي تنشأ بين شخصين معزولين يعانيان من الوحدة، كأنهما ولدا اليوم ورمى بهما القدر في تلك البيئة الأولى البدائية، الغابة بأشجارها الباسقة وأجوائها الغامضة؛ هي أكثر ما تبرع في وصفه وتقديمه المخرجة “بيلين أسمر”، اللقطات الصامتة في الغابة الطبيعة هي التي تتكلم، الطيور وأصوات الليل، الريح واهتزازات الأشجار، وهي كما في فيلمها الأول، تنجح في استخراج أفضل ما لدى الممثلين “أولغون سمسك” و”نيلاي أردونمز”.

المخرجة التركية بيلين أسمر

أيام الغابة.. رسائل عميقة خالية من المبالغة والثرثرة

تقترب الشخصيتان الحزينتان تدريجيا من فهم أزمة بعضهما، من التعايش معا بعد أن وحدت الأزمة بينهما، وربما تكون أيضا قد تولدت بعض المشاعر العاطفية، بعد كل تلك المشاجرات والتشنجات من جانب “سهر” التي كانت ترفض القبول بالحقيقة، حقيقة أنها أصبحت أما، وأن عليها واجبا ينبغي القيام به.

ليس هناك صراخ في الفيلم يحوله من مجال بصري للتأمل، إلى ميلودراما مليئة بالمبالغات والثرثرة، بل تأمل من بعيد، من خلال كاميرا تترك دائما مسافة بينها وبين الهدف المقصود في الصورة، وتتركنا كمشاهدين في لحظات تأمل للمأزق الإنساني، لا كمتابعين لتطور الأحداث من الخارج.

فلا توجد هنا أحداث، بل تصوير دقيق لحالة إنسانية ذات طبيعة خاصة، ترتبط بمجتمع لا يزال يرزح تحت عبء قرون من التخلف، لكنه يسعى لتجاوزها بجدية. ولولا أن هناك محاولات للتجاوز لما أمكن أن يجتمع رجل مثل “نيهات” مع امرأة مثل “سهر” في مكان من هذا النوع.

عزلة الجبل.. تظاهر بالزواج في الربوة النائية عن العيون

من الطبيعي أنهما يتظاهران بأنهما قد أصبحا زوجين، خصوصا عندما يأتي أحد زملاء “نيهات” في العمل لتفقد كيفية مسار الأمور في “برج المراقبة”.

يشير عنوان الفيلم إلى ذلك الكوخ الواقع أعلى ربوة جبلية وسط الغابة، حيث يقضي “نيهات” معظم وقته. إن كل صلته بالعالم تتجسد من خلال شيئين، المنظار الذي يتطلع من خلاله إلى الغابة الممتدة إلى ما لا نهاية أمامه، وجهاز الاتصال اللاسلكي الذي يتواصل من خلاله مع رئيسه في العمل، ويوالي تزويده بالتقارير الموجزة عما يراه.

هذه العزلة أعلى الجبل، توازيها عزلة “سهر” أسفل منزل العم، في الطابق تحت الأرضي حيث تخفي حملها المحظور.

أسلوب الإخراج.. دروس إنسانية من قلب الغابة

هناك لقطات شديدة الجمال للغابة، للحظات اللهاث وسط الأشجار، لليال تستيقظ فيها الذئاب لتعوي، ولا يمكن للمرء أن ينام إلا بعد إشعال النار في الحطب من شدة البرد.

ومن معالم أسلوب الإخراج عند “بيلين أسمر” أنها تربط دائما بين المكان بطبيعته الخاصة، وبين الشخصيات، بحيث لا ينحرف المتفرج بعيدا عن تلك الحالة الإنسانية التي يرقبها على خلفية من المكان أو في قلب المكان.

إن الغابة مرادف للمكان الذي يخفي في جوفه الأسرار، مكان يتخفى فيه الإنسان لكي يخفي ما لا يرغب في البوح به، فهل كان من الممكن أن تقوم علاقة بين “نيهات” و”سهر” في مكان آخر مفتوح في المدينة.

في فيلم كهذا تطغى اللقطات المتوسطة والبعيدة مع ندرة اللقطات القريبة، إننا لا نقترب كثيرا من الشخصيات إلا في لقطات معدودة، مثلما نرى في اللقطة التي تقوم فيها “سهر” بإرضاع وليدها للمرة الأولى أمامنا مباشرة. هنا نصل إلى ذروة الإحساس بالجمال، بجمال المشاعر الإنسانية في تبدلها وتغيرها واتساقها مع الطبيعة. وفي فيلم “برج المراقبة” كثير من الدروس الأخرى لكل من يريد أن يرى ويتعلم.


إعلان