“صراع الأبطال”.. فيلم في الريف المصري برائحة الغرب الأمريكي
“صراع الأبطال” هو أقرب أفلام توفيق صالح إلى قلبي لأسباب شخصية وموضوعية. الأسباب الشخصية تعود إلى التأثير الكبير الذي تركه علي عندما شاهدته وأنا طفل في واحدة من دور عرض الدرجة الثانية والثالثة التي كانت تزين حي السيدة زينب بوسط القاهرة.
لا أذكر هل شاهدت الفيلم وحدي أم برفقة أسرتي أو أحد الأصدقاء، ولا أذكر العام الذي شاهدته فيه، لكن أعرف أنه كان واحدا من أوائل الأفلام التي شاهدتها في حياتي، وأن بعضا من مشاهده عالق في نفسيتي منذ ذلك الحين، بالإضافة إلى بعض مشاهد فيلم أمريكي “ويسترن” -أو “كاوبوي” كما كنا نطلق عليه- لم أعد أذكر اسمه، والغريب أن هناك ما يربط بصريا وشعوريا بين هذين الفيلمين مما سيأتي ذكره لاحقا.
الآن، عندما أعيد مشاهدة “صراع الأبطال” أدرك أسباب جاذبيته، مقارنة بأعمال توفيق صالح الأخرى، وعلى رأسها تلك الشحنة الميلودرامية الشيقة والساخنة، كما أدرك اختلافه عن معظم أفلام السينما المصرية الميلودرامية بإيقاعه المبهر وتكثيفه المقطر ونصه السينمائي المحكم.
لمسة الميلودراما الغربية.. تحرر من الإيقاع العربي المترهل
ينتمي “صراع الأبطال” إلى الميلودراما بمعناها الغربي، أي الإفراط في التعبير وغرابة الواقع، والحوادث المثيرة اللاهثة، ومشاهد العنف الشديدة، والإحساس الطاغي بالخطر الذي يسيطر على المشاهد، فهو أقرب إليها من الميلودراما المصرية ذات الإيقاع المترهل، والدراما الفاترة، خفيفة الوطأة، والمخففة إضافيا بجرعات من الكوميديا والفواصل الغنائية ومشاهد المناجاة الغرامية الساذجة.
الآن، يثير دهشتي اكتشاف الشبه بين “صراع الأبطال” وبين أفلام “الويسترن” والمغامرات الأمريكية التي كنت أدمنها في طفولتي. لا أعلم مدى تأثر توفيق صالح بنوع “الويسترن”، ولكن سيناريو “صراع الأبطال” مبني على النموذج النمطي لهذه النوعية؛ راعي البقر الوحيد الغريب الذي يصل بالصدفة إلى قرية نائية تشهد صراعا دمويا بين الخير والشر، فينحاز البطل إلى قوى الخير ليقودها إلى الانتصار، ثم يرحل كما جاء على ظهر جواده مرددا أغنيته الأليفة: “أنا راعي بقر وحيد، قادم من بلاد بعيدة” كما تقول الأغنية الشهيرة التي يرددها “لاكي لوك” بطل القصص المصورة الشهيرة.
هذا البطل الأسطوري الأقرب إلى النموذج التجريدي، قليل الكلام، مقتصد التعبير عن عواطفه، الغامض قليلا، والمحدد الهدف القادر دائما على تحقيقه مهما كانت العقبات والعواقب، الشجاع في مواجهة الأخطار والأعداء مهما كان عددهم.
أساليب الويسترن.. تناص بين الفيلم والغرب الأمريكي
يبدأ الفيلم بمشهد طويل نسبيا للقطار القادم حاملا بطل الفيلم الدكتور شكري (الممثل شكري سرحان)، وينتهي الفيلم داخل المحطة أيضا بمشهد طويل نسبيا للقطار الذي يحمله راحلا عن القرية، بعد أن أدى مهمته على أكمل وجه.
وما بين المشهدين يحتوي الفيلم على عدد من الأفكار والعناصر الروائية من أفلام الويسترن، كما يظهر في المثال الآتي؛ بطل أفلام الويسترن نبيل ومثالي، ولكنه جاف المشاعر عديم الانتماء بالمعنى الوجودي الذي فصله شرحا المفكر “كولن ويلسون” في كتابه الشهير “اللامنتمي”.
في أفلام الويسترن عادة ما نعرف الكثير عن ماضي وحاضر كل الشخصيات باستثناء البطل الذي لا نعرف شيئا عن ماضيه ولا دوافعه، وعادة لا يتورط بطل الويسترن في مغامرات عاطفية حميمة، وإن كان يدخل من حين إلى آخر في مغامرات عاطفية عابرة تنتهي دائما مع نهاية مهمته، إذ يترك محبوبته في قريتها ويرحل وحيدا.

عفاف.. زواج صوري في انتظار المشاعر
في “صراع الأبطال” تبدو علاقة الحب التي تجمع الدكتور شكري بعفاف (الممثلة سميرة أحمد) من هذا النوع، وهو غريب على الميلودراما المصرية التي لا تعرف سوى الحب المشبوه الذي يصبح محور دراما الفيلم ومحور حياة البطلين المحبوبين.
يتزوج شكري من الشابة عفاف إنقاذا لحياتها وسمعتها، ورغم اهتمامه السابق بها فإنه لا يخبرها بحبه، بل يخبرها بأن الزواج بينهما صوري فقط انتظارا لما ستسفر عنه عواطفهما، ورغم أن الحب يواصل النمو بينهما بكل أطيافه، مثل الاهتمام والشغف والخوف على الآخر والغيرة عليه، فإن شكري يصر على الرحيل تاركا حبيبته خلفه.
ويبدو أن توفيق صالح اضطر إلى إضافة عفاف لمشهد رحيل الدكتور شكري، إذ يأتي بها أحدهم ويلقي بها داخل القطار، ولكننا لا نرى بعدها أي لقطة مباشرة لوجه شكري لنعرف رد فعله، بل تظل شخصيته بالنسبة لنا أقرب إلى صورة راعي البقر الوحيد دائما فوق صهوة جواده.
توفيق صالح.. فيلم حركة خالٍ من عناصر المغامرات
بالرغم من أن “صراع الأبطال” يخلو من المعارك والصراعات البطولية البدنية، فإنه فيلم حركة بامتياز، وهو كما ذكرت سابقا يخلو من ترهل الميلودراما التي تصم حتى أفلام الحركة والمغامرات فيها. خذ عندك مثلا فيلم “الرجل الثاني” الذي يعتبر واحدا من علامات نوع الجريمة والتشويق في السينما المصرية، فهو يبدو خفيفا جدا وربما مملا بالنسبة لـ”صراع الأبطال” بالرغم من خلو فيلمنا من عناصر أفلام المغامرات من الجريمة والعساكر والعصابات والقتل والمسدسات والمخدرات والغانيات.
كان من المفترض أن يقوم عز الدين ذو الفقار، مخرج “الرجل الثاني”، بإخراج “صراع الأبطال”، ولكنه اعتذر لشدة مرضه وعهد للشاب توفيق صالح بالفيلم وورقة اقتراحاته على السيناريو الأصلي الذي كتبه عبد الحي أديب.

حين أفكر في الشكل الذي كان يمكن أن يخرج به “صراع الأبطال” على يد عز الدين ذو الفقار، أتخيل فيلما بالغ الاختلاف، لا أقصد أسوأ أو أفضل، ولكن فيلما مختلف الأسلوب والمذاق والتأثير تماما.
بصمة الواقعية.. قسوة الواقع القبيح بدون مساحيق
“صراع الأبطال” فيلم قاسي، وقسوته تنبع من واقعيته المتفردة الخاصة بتوفيق صالح. تظهر ملامح هذه الواقعية مع أول فصول الفيلم، فبعد مشهد وصول شكري يقوم رجل هائج بإلقاء نفسه في الترعة، وأهل القرية والشرطة يحاولون الامساك به.
وعلى عكس ما يشاع من أن الرجل مجنون، يكتشف الدكتور شكري أنه مريض بالبلاجرا، ونعرف من خلال أعراض المرض على جسد الرجل وشرح الطبيب لأسبابه وأعراضه معلومات علمية دقيقة. وقرب نهاية الفيلم يقوم الدكتور شكري بمعالجة طفل وليد شبه ميت لينفخ فيه الحياة مجددا، بالتنفس الصناعي وتدليك قلبه بتفاصيل علمية دقيقة، حتى لو كان المشهد غرائبيا ومروعا بعض الشيء.
لا يتورع توفيق صالح عن تصوير مشهد مقزز بمعايير الميلودراما التقليدية يظهر فيه جندي إنجليزي يتقيأ أمام عربات فضلات طعام المعسكر الإنجليزي، على صدر أحد العمال المصريين، وهو يقوم بمسح القيء بيديه، ثم يواصل جمع فضلات الطعام الذي سيذهب فيما بعد إلى الفلاحين مقابل عملهم، وهو ما يتسبب في تفشي مرض الكوليرا في القرية كلها.
تذكر حين تشاهد هذا المقطع مقولة المخرج محمد كريم الشهيرة حول ضرورة تجميل الواقع في السينما، ضاربا المثل بأنه أمر بغسل الأبقار والحمير في مشهد من أفلامه يدور في الريف.
تطعيم الكوليرا.. خطة الدولة للقضاء على الفلاحين
الريف في “صراع الأبطال” بائس وفقير ومزعج للعين، والريفيون قل أن يوجد بينهم شخص واع سياسيا مثل سويلم (الممثل بدر نوفل)، مع أن مشهد البداية الذي يبدو فيه مجنونا ثم مريضا بفقر الدم الحاد، والمشهد الذي يحاول فيه اغتيال قريبته عفاف بسبب إشاعة تنتشر حول سمعتها، يجعلان سويلم نفسه يبدو شخصا غير عقلاني أحمق لا يختلف كثيرا عن بقية سكان القرية.
واقعية توفيق صالح القاسية تتبدى كأفضل ما يكون في مجموعة المشاهد التي تصور حالة الهياج التي تنتاب الفلاحين، نتيجة الأوامر المتناقضة التي توجه إليهم، ففي البداية يذهبون لتلقي تطعيم مرض الكوليرا خوفا من الوباء المتفشي، ولكن عندما تقوم سيدة القرية جيهان هانم (الممثلة زوزو حمدي الحكيم) بالاحتيال عليهم، ليجنوا لها المحصول قبل الذهاب للتطعيم، وتخبرهم بأن التطعيم وقوات الشرطة التي أتت للقرية هدفهما القضاء على الفلاحين.
يصاب الفلاحون هؤلاء بحالة هلع ويحاولون الفرار خارج أسوار القرية، وتكون النتيجة موت بعضهم تحت الأقدام، ومن هؤلاء جيهان هانم نفسها، وموت عدد آخر أكبر على يد قوات الشرطة التي تمنعهم من الخروج، حتى لا ينقلوا الوباء إلى القرى الأخرى.
همجية الغوغاء.. سد يقف أمام مصالح الوطن
بعد أن ينزع توفيق صالح الرومانتيكية عن الواقع والريف المصري، يطرح بشكل عابر ولكن مقلق ومزعج مشكلة الكيفية التي تتعامل بها الدولة التقدمية العلمية مع الحشود الجاهلة الفقيرة التي تقف ضد مصالحها، وتهدد حياة ومصالح بقية المواطنين، وهو سؤال مطروح بقوة في مصر اليوم، مثلما كان مطروحا في العهد الناصري وفي عهد محمد علي.
أحيانا تغلق كل الأبواب أمام صوت العقل والإقناع مع مجموعة من البشر يتلاعب بعقولها الضحلة عصابة من المنتفعين، ويندفع هؤلاء تحت تأثير رغبة غريزية محمومة لتدمير الذات والعالم من حولهم، وهذه المواجهة الدامية تنتهي عادة بكوارث يروح ضحيتها العشرات والمئات وربما الآلاف.
لا يحكم توفيق صالح أخلاقيا على الموقف، ولا يبرر أو يتعاطف مع أي من الطرفين، فهو يصور فساد الشرطة وخنوعها لأهل السلطة والمال في شخص الضابط عزت (الممثل حسين قنديل) الذي يقول إنه مجرد موظف يخشى على منصبه وعمله، كما أنه يتعامل مع أهل القرية باعتبارهم ضحايا الجهل والمرض حتى في أكثر لحظاتهم غوغائية وخطرا.
لا ينحاز الفيلم إلى طرف تجاه الآخر، ولكنه يلتزم بالطرح العلمي للواقع، واضعا المشاهد أمام مسؤولياته كإنسان ومواطن.
دور المرأة.. شخصيات تسعى إلى الارتقاء بالمجتمع
يسيطر على الفيلم -كما ذكرت- جو كابوسي، خاصة في المشاهد الليلية المتأثرة بأسلوب “الفيلم نوار” أو الطبيعية الألمانية، من استخدام زائد للظلال والمساحات المظلمة، ويبرع في ذلك مدير التصوير كمال كريم في المشاهد الداخلية تحديدا، ومما يزيد الإحساس الكابوسي للفيلم ذلك الطابع الأنثوي للشر الذي يحيق ببطلنا الوسيم البريء مثل ولد مراهق، من زوزو حمدي الحكيم في دور أقوى وأغنى امرأة في القرية التي تتحكم حتى في ابنها عادل بك (الممثل صلاح نظمي)، إلى نجمة إبراهيم في دور “الداية” وحكيمة الصحة والساحرة أم هلال.
تشيع زوزو حمدي الحكيم نوعا من السلطة المسيطرة القادرة على عمل أي شيء، بينما تشيع نجمة إبراهيم بملابسها السوداء وصوتها الأفعواني خوفا ميتافيزيقيا خليقا بهذه البيئة الريفية النائمة فوق مستنقع من الخرافات المفزعة.
وإذا كانت جيهان هانم تستعرض قوتها غالبا في قصرها الشاهق الذي يطلق عليه “السراية” (اسم قصر الملك) على السلالم والأدوار العليا التي تشير لوضعها الطبقي المرتفع، فإن أم هلال تظهر دائما في الأماكن المنخفضة من بيوت وغرف نوم الفلاحين والمقابر التي تتوسط القرية.
في الناحية المقابلة نرى سميرة أحمد في دور عفاف الريفية المتعلمة التي تعمل مدرسة، وتسعى مثل الدكتور شكري لرفع وعي أبناء طبقتها، وليلى طاهر في دور عروس عادل الرقيقة الباحثة عن الحب والمعذبة بفعل صفقات وأطماع طبقتها، وهما تمثلان وجها آخر محببا للأنوثة، يحمي الفيلم من تهمة معاداة المرأة، ويحفظ فكره التقدمي العلمي الذي يعتنقه توفيق صالح وأبطاله.
مهنة الطب.. وجه التقدمية في الميلودراما المصرية
يبقى أن أشير إلى عنصرين، الأول يتعلق بالسيناريو والثاني بالإخراج. بناء الشخصيات يتبع منهجا علميا صارما في تقسيم المجتمع إلى طبقات ووظائف، بداية من الإقطاعيين وضباط الاحتلال الإنجليزي، وصولا إلى حثالة البروليتاريا التي تعمل مقابل فضلات الطعام، مرورا بالشرطي والطبيب والمعلم وعمدة القرية و”الداية”… إلخ.
وإذا عدت إلى ما بدأت به عن الكيفية التي صنع بها فيلمه الأكثر ميلودرامية، فإن مهنة البطل هنا مثل آخر على طريقة عمل صالح الذي كتب السيناريو بجانب الإخراج.
الطب هو المهنة الأولى لأبطال الميلودراما المصرية، منذ فيلم “الدكتور فرحات” لتوجو مزراحي (1935)، ويمكن إرجاع ذلك إلى الارتباط الوثيق بين مشروع الحداثة في مصر ومهنة الطب، بالطريقة التي نجدها مباشرة في فيلم “صراع الأبطال”، أو “قنديل أم هاشم” لكمال عطية (1968).
ولكن في الوقت الذي تجاهلت فيه الميلودراما المصرية تلك العلاقة المباشرة بين مهنة البطل والسؤال الرئيسي للمجتمع المتعلق بقبول أو رفض المدنية والحداثة، والاكتفاء بنسج قصص حب وغيرة وصراعات صغيرة غير مباشرة، فإن “صراع الأبطال” يدخل في لب المشكلة مباشرة، ولا يحاول بأي شكل التخفيف على المشاهد، أو تقديم الأفكار له في قالب ترفيهي غير مقلق له.
إذا كان يمكن اختصار المخرج الراحل توفيق صالح في صفة واحدة، فهي بالتأكيد صفة الصراحة مهما كلفه أمرها من متاعب.