“ثوار الجنة”.. شقراء هولندية تلاحق أبناء بلدها المجاهدين في جبهة النصرة
تَكشف المُخرجة الهولندية “فلور فان دير مولن” إنها تلَقّت، قُبَيْل سفرها إلى تركيا لإنجاز فيلمها الوثائقي “ثُوار الجَنّة”، اتصالا هاتفيا من مَجْهُول ترجح أنه من المُخابرات الهولندية، وقد حاول أن يثنيها بشدة عن مشروعها لإنجاز فيلم عن مجاهدين مسلمين هولنديين يلتحقون بالقتال المتواصل بسوريا.
لم تلتزم المخرجة الشابة بنصيحة المسؤول الأمني، لكنها عندما تتذكر ظروف تصوير الفيلم الآن، تشعر بالرعب، خاصة عندما اكتشفت بعد انقضاء زمن التصوير بأنه كان يُمكن خطفها بسهولة من على الحدود التركية السورية، بل إنها سمعت بعد عودتها قصصا عن سوريين وأجانب اختطفوا في مدن تركية بعيدة عن الحدود، ونقلوا سرا إلى المَجْهُول السوري.
وقد عرض فيلم “ثوار الجنة” (Paradijsbestormers) على شاشة القناة الثالثة الحكومية الهولندية عام 2014، وتبلغ مدة عرضه 46 دقيقة.
أبو غريب.. مجاهد هولندي شاب يوفّر مادة الفيلم
عندما وصلت المخرجة إلى وجهتها النهائية، إلى آخر نقطة على الحدود التركية مع سوريا، بدأت بالتحري عن موضوع الجهاديين الأوروبيين المسلمين في سوريا، وخلال ساعات ستصل إلى “أبو غريب” وهو هولندي مُسْلِم شاب، كان يقضي فترة نقاهة في تركيا بعد إصابته في القتال في سوريا.
هذا الشاب أبو غريب (اسم حَرَكِيّ) سيوفر مُعظم المادة الأولية للفيلم الوثائقي الهولندي، لكنه لم يرغب بالكشف عن وجهه، خوفا من مُلاحقات ومُضايقات يُمكن أن تطال عائلته في هولندا، لكنه وفّر مصدرا شديد الأهمية عن حياة مجاهدي أوروبا في سوريا.
ورغم العنف الذي كان يَتكشف من ثنايا خطابه المُتطرف، فإن المخرجة لم تشعر بلحظة خوف واحدة أثناء التصوير، كما كشفت في مُقابلة تلفزيونية سبقت عرض فيلمها، وقد وصفت الساعات التي قضتها معه قائلة: بالرغم من اختلافي الكبير مع كل الأفكار التي كان يقولها، فإنه كان ممكنا التحاور معه، وأحيانا المزاح معه.
“من الممكن أن خطواتنا تقاطعت يوما ما في المدينة”
تشرح المُخرجة في مُقدمة فيلمها الأسباب التي دفعتها للاهتمام بموضوع الجهاديين الهولنديين في سوريا، فأحد الذين قتلوا في النزاعات المتواصلة هناك، ولد ونشأ في مدينة ديلفت الهولندية، في حَيّ ليس بعيدا عن الحَيّ الذي عاشت فيه المخرجة طفولتها ومراهقتها.
تقول المخرجة وهي تتحدث بألم: “من الممكن أن خطواتنا تقاطعت يوما ما في المدينة”. ثم تبدأ بعدها في التحري عن الموضوع، والظروف التي تدفع شبابا هولنديين ذوي أصول مُسلمة للالتحاق بالتنظيمات والقتال والموت في أراضي بعيدة غريبة عنهم.
لكن كما كان متوقعا، واجهت المخرجة صُعوبات كبيرة في العثور على شخصيات توافق على الحديث للكاميرا، ليغدو خيار الذهاب إلى تركيا هو الوحيد المتوفر للتحقيق في هذه القضية الشائكة الجدليّة.

“لا نعرف ما يدور في عقول هؤلاء الشباب”.. لقاء العائلة والرفاق
يُغلف الحزن الفيلم الوثائقي، ربما لأنه يكشف عن قطيعة كبيرة بين هولنديين مسلمين ولدوا وعاشوا حياتهم كلها في هولندا مع بلدهم، وحتى اللقاء الذي جرى على سطح أحد مباني مدينة دلفت الهولندية مع شباب ذوي أصول مسلمة من الذين وجدوا طريقهم في الحياة دون متاعب، كان مدعاةً للتشاؤم.
فبعضهم تحدث بحذر عن رفاق لهم اختفوا من الحياة العامة يرجح إنهم التحقوا بالقتال في سوريا، دون أن يعلنوا القطيعة معهم أو محاكمتهم أخلاقيا، ويقول أحد الذين قابلهم الفيلم: فنحن لا نعرف ماذا يدور في عقول هؤلاء الشباب.
كذلك ينجح الفيلم بإقناع أُمهات مجاهدين بالحديث للفيلم، لكن من دون أن تظهر صورهن أو أصواتهن، بل قدمت شهاداتهن عبر مُمثلات مغربيات، وسوف تكون شهادات النساء الأقسى في الفيلم، خاصة أنها صورت بفنيّة وبتفانٍ كبيرين للممثلات اللواتي قامن بالدور.
كانت الكاميرا تدور في شقق مهاجرين بأثاثها التقليدي وأحيانا الفقير، مصحوبا بتعليقات الممثلات الصوتية، وسيقدم بحزن كبير شهادات لأمهات فقدن أولادهن في القتال، بينما روت أُخريات عذاب الانتظار وعدم معرفة ماذا حَلّ بأولادهن.
“نحن لا نعذب كما يفعل النظام السوري”
تحتل المُقابلة مع “أبو غريب” مساحة كبيرة من وقت واهتمام الفيلم الوثائقي، لكنها لن تكون أفضل ما في العمل التحقيقي الفنيّ، فالمخرجة كانت سعيدة كثيرا بصيدها الثمين، ولم تشأ أن تغامر بإثارة غضب ضيفها، فجاءت المقابلة بدون تحديات كبيرة لأبو غريب، إلا في مناسبة واحدة، وعندما تحدث قائلا: إن الحكومات الأوروبية تريد التخلص من المسلمين في بلدانها. ردت المخرجة بتعجب: هل تعني ذلك حقا؟
لكن المقابلة توفر رغم ذلك التساهل كثيرا من المعلومات الثمينة عن الحياة اليومية للمجاهدين الأجانب، فيكشف أبو غريب مشاعر اليوم الأول له في سوريا، والهزة النفسية لرؤية الجحيم السوري على الواقع، وكيف تختلف صور الإعلام عن ما يجري على الأرض، والقسوة المضاعفة للواقع.
سيتحدث أبو غريب أيضا عن علاقته مع التنظيمات المُسلحة الأخرى، وحذر المقاتلين غير السوريين من الجميع هناك، كما سيدافع عن ما يقوم به تنظيمه، فيقول: نحن لا نُعذب كما يفعل النظام السوري، نحن نقتل الأعداء مباشرة.

وحين يجد لحظات من السكينة يمازح أبو غريب المخرجة، ويذكرها بأنها أوروبية شقراء تجلس الآن مع مقاتل من تنظيم يرتبط بتنظيم القاعدة، وأن الأمور تسير رغم ذلك على ما يرام.
تحقيقات الحدود.. محاولات لرصد أعشاش التطرف
يُحاول الفيلم أن يحقق من موقعه على الحدود التركية السورية باتجاهات مختلفة، فتمنح المُخرجة كاميرات صغيرة لسوريين ليصورا حياتهما في سوريا، ويعودان إليها بصورة دورية، كما تُقابل المُخرجة سوريين في تركيا يتحدثون بجزع عن قسوة المقاتلين الأجانب وعدم مبالاتهم، وكيف أن علاقة هؤلاء مع المجتمع السوري -التي بدأت مثاليّة- يشوبها اليوم الكثير من التخوين والعداء.
ورغم الطموحات الكبيرة للفيلم، واقترابه الفعلي من مواقع الأحداث، فإن أفضل دقائقه كانت في هولندا، وعنما بحث في التيه الذي يعيشه بعض الشباب المُسلمين، والثمن الذي تدفعه أمهات المجاهدين الهولنديين الذين يُحاربون في حرب شديدة التعقيد والقسوة، والآثار المترتبة على ذلك في حياتهم في البلدان الأوروبية التي يعيشون فيها.
كما أن المخرجة التي كشفت في بداية فيلمها عن أسبابها لإنجاز الفيلم، ستمسك بخيوط المعالجة الفنيّة والفكرية للفيلم باقتدار كبير، كما سيجيب العمل الفنيّ عن أسئلة عدة، طارحا في الوقت نفسه تساؤلات أخرى بقيت بدون إجابات.