“الحرب من حولنا”.. مراسِلان للجزيرة الإنجليزية يروِيان قصة حصارهما في غزة

لعل من المفارقات المحزنة بل المأساوية، أن وثائقي “الحرب من حولنا” عُرض في عام 2014، ويسترجع أحداثا من حرب غزة عام 2008، عبر شهادات مراسلين تلفزيونيين غطّيا الحرب وقتها، أي بعد حوالي 5 سنوات من تاريخ تلك الحرب، ومع أن أحداثه بعيدة نسبيا (بمقاييس عصرنا اللاهث والمُتقلب)، فإن الفيلم يبدو شديد الراهنية والإلحاح، وكأنه يُقدم حرب غزة الماضية (2014) التي فُجّرت وانطفأت بالخواتيم المعتادة ذاتها.

فحروب المدينة الفلسطينية تتشابه بعنفها وضحاياها المدنيين والخراب الذي تخلفه، وإن اختلفت بحجم التغطيات الإعلامية المُسلَّطة عليها، وحرب 2014 ستكون الموضوع الذي تناوله الفيلم.

وجوه الحرب.. حينما يصير المراسل بطل الشاشة

تُركت حرب غزة إعلاميا لمجموعة قليلة من المحطات التلفزيونية الكبرى، منها الجزيرة الإنجليزية التي ينتمي إليها الصحفيان أيمن محي الدين وشيرين تادرس (بطلا الفيلم)، بينما غادر أغلب القنوات الأخرى المدينة قبيل أو في خلال الأيام الأُولَى للحرب.

من أماكن عملهما الجديدة، يقدم المراسلان التلفزيونيان شهادتين طويلتين باللغة الإنجليزية عن حرب غزة 2008، أما أيمن فكان مراسلا دائما للجزيرة الإنجليزية في غزة وقتها، بينما كانت شيرين مراسلة للقناة لكن في مدينة تل أبيب، وقد اضطرت للاستعانة بها بسبب الأحداث المتسارعة.

وهو الأمر الذي أدى لأن تنتقل المراسلة الشابة إلى مدينة، ستتحول خلال أيام إلى مسرح لحرب دموية، وتكون مع زميلها أيمن الوجهين الإعلاميين لقناتها طوال أيام تلك الحرب.

حرب غزة.. ندوب عميقة في نفوس الصحفيين

ستعود شيرين تادرس إلى تجربتها، وهي الآن وبفعل تجارب السنوات الماضية الصحفية، في مكان آخر أكثر نضجاً في حياتها المهنية، مع أنها كشفت أن حرب غزة تركت ندوبا عميقة على روحها، وأنها لن تغطي حروبا أخرى بعد اليوم.

أما زميلها أيمن فكان أكثر هدوء حين استعاد الحرب، متذكرا بعض أهوالها لكن بروح صلبة، متجنبا النقد الصريح للجيش المُسلّح الذي دمّر المدينة وقتها، وهو أمر لم تخرج عنه شهادة شيرين أيضا، فتجنبا النقد الواضح، وحافظا على حياد إعلامي مفهوم، لا سيما أنهما ما زالا يعملان في مؤسسات إعلامية تتوجه للمشاهد الغربي.

شيرين تادرس صحفية الجزيرة الإنجليزية

كما أن الفيلم ذاته صُنع وهو يضع نَصْب عينيه مشاهدا غربيا لا يعرف الكثير عن صراع الشرق الأوسط الأكثر تعقيدا ودموية، لذلك تجنب الفيلم إطلاق الاتهامات المباشرة، فجاءت ضمنية، وأحيانا ضمن توليف مقصود انتقل من مشاهد الضحايا من الفلسطينيين، بكل تفصيلاتها المؤلمة، إلى تصريحات إسرائيلية رسمية من أيام الحرب، وهي تصريحات لم تتغير نبرتها، واتهاماتها لتنظيم “حماس” بأنه سبب كل ما يحصل على أرض غزة.

هذا التناقض بين الصورتين، بين المدني الفلسطيني بدمه والدمار الذي يَلفّه، وبين الإسرائيلي بقسوة عباراته وصورته المحكمة الآتية من أستديو بإضاءة عالية، سيستعدي أسئلة بدا الفيلم حريصا على تهييجها.

صحافة الحرب.. أوضاع إنسانية تنزع هالة النجومية

ليس هذا الفيلم الوثائقي الذي أخرجه الليبي الأمريكي عبد الله عميش، هو الأول الذي يقدم تجارب صحفيين في مناطق حروب ونزاعات، فقد ظهر الكثير منها في السنوات الماضية.

وتحاول هذه الأعمال الاستفادة من شعبية الصحفي أو المراسل، لتكملة رواية القصة التي لم يُكملها الصحفي نفسه لاعتبارات عدة، أهمها ضيق وقت التغطيات الإعلامية، وسياسات المحطات التلفزيونية، وكثيرا ما تجنح هذه الأفلام إلى عرض كواليس العملية الإعلامية. ففيلم “الحرب من حولنا”، يُقدّم مشاهد مهمة كثيرة من أيام حرب غزة، بعضها صادم وعسير على المشاهدة لضحايا فلسطينيين.

هناك أيضا مشاهد أخرى تكشف صعوبة مهنة الإعلام وتحدياتها وتورط العاملين فيها في الحرب، فأيمن وشيرين كانا محاصرين في المدينة، حالهم حال مئات الآلاف من الفلسطينيين من سكان المدينة.

من المشاهد المهمة التي تبين تفاصيل مجهولة ينزع بعضها هالة النجومية عن عمل الإعلام، ذلك المشهد الذي يُظهر شيرين وهي تحاول أن تسجل لقاء مع مدير مستشفى الشفاء في غزة، قبل أن يضرب انفجارٌ المنطقةَ، ثم رغبة الطبيب بمغادرة المكان، وتوسلات شيرين أن يسجل معها دقيقة واحدة فقط.

وهناك أيضا مشاهد متعددة تُظهر خوف فريق التصوير كله من الانفجارات التي كانت تضرب المدينة بلا رحمة، فظروف حرب غزة بالتحديد سَلَبت كل حماية مفترضة لوسائل إعلام، لا سيما أن طائرات إسرائيلية قصفت مدرسة للأمم المتحدة وبنايات عدة، مع علمها بالطبيعة الدولية والإنسانية لها.

مادة الفيلم البصرية.. نبش في أرشيف الجزيرة الإنجليزية

مع أن الأحداث التي يقدمها الفيلم لم يصبها القِدَم، ولم تخفت نارها بعدُ، فإن هناك بعض الحيرة حول الأسباب التي جعلت المخرج يقدمها في هذا الوقت بالذات، وبعد كل هذه السنوات، لا سيما أنه لم يُضِف بصريا أي مشاهد خارجية، واكتفى بمقابلات طويلة من داخل الأستديو مع شخصيتي الفيلم الرئيستين.

لم يحاول المخرج -كما في أفلام مشابهة- العودة مع شخصيتي الفيلم إلى مدينة غزة، وما يمكن أن يفجّره هذا الفعل من مشاعر غير متوقعة، ربما تأخذ العمل برمته إلى وجهات غير مخطط لها، إضافة إلى العاطفية المتوقعة من الانتقال إلى مواقع الأحداث الأصلية، وخاصة لشيرين تادرس التي لم ترجع إلى غزة منذ الحرب.

بالمقابل عاد المُخرج إلى أرشيف قناة الجزيرة الإنجليزية المُهم، لكن الفيلم كان بحاجة إلى تفاعلات أخرى، من خارج مناخه الاستعادي وخطّه الفنيّ.

خطاب المُشاهد الغربي.. نداء إنساني إلى بيئة مشوشة

اختار الفيلم التناول الإنساني منهجا لتقديم حرب غزة عام 2008، ولم يشأ أن يتحدى مُشاهده بمَشاهد مختلفة، بل تركه يواجه تغطيات تلفزيونية بعضها مُفجّر للكثير من المشاعر، لكنها لن تخرج عن إطارها التلفزيوني الإخباري الوقتي.

كما بدا أن الفيلم يتوجه بمجمله إلى مشاهد غربي جدليّ، غافلا عن أن هذا المُشاهد ربما لن يحتاج فيلما محافظا ببنيته ليشكل رأيه الخاص بحرب غزة، أو علاقته بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل عام.

ولعل المشهد الوحيد الذي صُوّر خارج إطار المقابلات المباشرة، وجاء بعد أن نزلت عناوين النهاية للفيلم، يُفصح عن التحدي الذي يواجهه فيلم كـ”الحرب من حولنا” في علاقته مع الجمهور الأمريكي العادي. فالمشهد ينقل حوارا بين أيمن محي الدين وسائق سيارة أجرة أمريكي، ويكشف أن الصور النمطية السيئة عن الفلسطينيين غائرة في الوعي الأمريكي، وما زالت هي الغالبة هناك.


إعلان