“كمين نيوبيرغ”.. فخ تنصبه المباحث الفيدرالية لفقراء المسلمين في المساجد

ذكرتني بداية الفيلم الوثائقيّ “كمين نيوبيرغ” (The Newburgh Sting) بجو المسارح. دائرة ضوئية مُسلطّة على هدف متحرك في وسط الظلمة، مع موسيقى مترقبة مثيرة، تقف سيارات “أف بي آي” وقوات شرطة نيويورك وقوات الأمن القومي الأمريكي بكثافة شديدة مع طائرة هيلوكوبتر تحلق فوق بيوت المتهمين، ثمّ ينكشف الستار عن أبطال المسرحية لاستقبال التصفيق الحاد.

يتبارى الإعلاميون والمتحدثون الرسميون في الانفعالات الدرامية وهم يعلنون القبض على خلية إرهابية، وإحباط عملية تفجيرية ضد معبد يهوديّ وطائرة أمريكية، تتباين الكلمات والرسالة واحدة عن بطولة المباحث الفيدرالية وإنقاذها للمواطنين الأمريكيين.

المشكلة الوحيدة في كل هذا هو أنّ المؤلف والمنتج والمخرج والممثل الرئيسي الذي تلقى الأجر وحيّا الجمهور لا أحد سوى المباحث الفيدراليّة نفسها.

 

“من المؤكد أنك تعرف عن الجهاد”.. فخ في المسجد

في إحدى ضواحي نيويورك، في مدينة صغيرة تسمى نيوبيرغ، في مسجد الإخلاص، ظهر شهيد حسين لأول مرة، وبادر إمام المسجد: “من المؤكد أنّك تعرف عن الجهاد”. ارتاب الإمام، فمن وسط كل أحكام الإسلام لا يهتم هذا الرجل إلا بالجهاد!

وقد حذر الشيخ بعض رواد المسجد منه، لكن من المؤسف أن تحذيره لم يصل إلى “جيمس كروميتي”. ربما لأنه لم يكن من رواد المسجد المعتادين، ففي موقف السيارات لاحظ حذاء شهيد حسين وبادره: هذا حذاء باكستاني. فسأله: أتعرف الأحذية الباكستانية؟ فأجاب: لقد زرت باكستان.

كانت تلك بداية كذبات يدفع “كروميتي” ثمنها في السجن الآن.

الفيلم الوثائقيّ “كمين نيوبيرغ” (2014) يعرض قصة “جيمس كروميتي” و”ديفيد ويليامز” و”بايان لا جير” و”أونتي ويليامز”. وكلهم من الأفارقة الأمريكيين الذين اعتنقوا الإسلام، ومع ذلك ظلّت علاقتهم به سطحية تتخللها صلوات عارضة.

لكن فقرهم وحاجتهم للمال مع ضعف نفوسهم جعلهم فريسة هينة لشهيد حسين الذي عرّف نفسه بأنه ثريّ باكستاني، يبدل سياراته ما بين هامر وبي إم دبليو ومرسيدس، وفي حبكة أشبه بالروايات تورط هؤلاء الأربعة، ولم يكن من ورطهم إلا شهيد حسين جاسوس المباحث الفيدرالية.

اعتناق الإسلام.. أسباب مختلفة لأشخاص بعيدين عن العنف

يعتمد الفيلم على صور وتسجيلات فيديو من كاميرات للمباحث الفيدرالية الأمريكية، دستها للإيقاع بمن أسمتهم بالإرهابيين المحتملين الذين في رأيها أنّها وصلت إليهم وكشفت نواياهم، قبل أن يصل إليهم إرهابيون فعليون.

كل من يعرف هؤلاء الأربعة يشهد بأن لم يكن أحد منهم مع العنف ولا مع جماعات متطرفة، بل إن منهم من كانت نقاط ضعفه المخدرات والنساء كما تصف والدة “ديفيد ويليامز” ابنها، وتقول إنّ على الجميع داخل السجن أن يختار بين حماية العصابات وبين حماية المسلمين، ولم يكن “ديفيد” يريد أن يحتك بالعصابات فدخل الإسلام.

وقد اعتنق “كروميتي” أيضًا الإسلام في السجن حال تنفيذ عقوبة لها علاقة بالمخدرات، وليست له ولا لأي من الآخرين سوابق عنف أو اعتداء، ومشاكلهم مع القانون مشاكل فقر وضعف. فهل يعد ما فعلته المباحث الفيدرالية كشفا أم إيعازا؟

الملصق الخاص بالفيلم

شهيد حسين.. جاسوس نصاب يرقص على وجع المعدمين

يتبنى الفيلم رؤية أن هذه الجرائم لم تكن لتقع لولا تدخل المباحث الفيدرالية، وأن الأموال الطائلة التي تنفق في مثل هذه العمليات كان من الأولى توجيهها إلى وجهة صحيحة تعود على المجتمع بالنفع، وأنّ الجهود المضنية التي تركز على الإيقاع بهؤلاء لو ركزت على الإرهاب الحقيقيّ لكان من الممكن الكشف عن وقائع فعليّة مثل تفجيرات الماراثون ببوسطن، حيث أنّ الحكومة الروسية كانت قد حذرت الحكومة الأمريكية من القائمين بالعملية.

لكن ضمن هذا التشتت والكم الهائل من المعلومات التي تجمعها المباحث الأمريكية بلا داع، لا بد أن يسقط هدف ما له داع. أمّا شهيد حسين الذي تستخدمه “أف بي آي”، فهو يحلل راتبه، ويتنعم بسيارات فارهة، ويسافر من مكان لمكان في فنادق ومنازل مريحة، ولم يكن ليتمتع بها لولا عمله جاسوسا، ولو على حساب من لم ير يومًا من هذا النعيم.

وبالنظر في تاريخ حسين تبين أنّ له سوابق نصب واحتيال، ومع ذلك تدفع له 60 ألف دولار سنويا، مقابل خدماته للحكومة الأمريكية. أمّا من يقع تحت يديه فيدفع باقي عمره.

لقطة من الفيلم تظهر تجسس السلطات

من خلال التسجيلات يتضح عدم رشد “كروميتي” الذي تفاخر أمام حسين بجرائم ارتكبها منها جرائم قتل، وكيف أفلت منها، وأنّه يستطيع أن يقوم بهذه التفجيرات ويفلت منها أيضًا. وكل هذا كان كذبا للحصول على الفرصة الذهبية، فقد عرض عليه حسين مبلغ ربع مليون دولار.

في العادة تعرض المباحث الفيدرالية من خمسة لعشرة آلاف دولار، أمّا هذا المبلغ بالنسبة لمعدمين منهم من وافق لإنقاذ حياة أخيه الذي يحتاج زرع كبد مثل “ديفيد”، فهو لعب على حاجة الناس التي كان يجب على الحكومة أن تقضيها عنهم، لا أن تستغلها نقطة ضعف تدمرهم بها.

“لا نريد أن نحصد أرواحا”

يتضمن الفيلم عددا من اللقاءات مع أهالي المتهمين، وخاصة والدة “ديفيد” التي حولتها المحنة إلى ناشطة ضد الإيقاع بالمواطنين الأمريكيين، وقد أعلنت أنّه من العار أن تكون أمريكيا في الوقت الحالي. كما يتضمن كذلك لقاءات مع مهتمين بملفات حقوق الإنسان، ومنهم ضابط مباحث فيدرالية سابق. أما العاملون الحاليون في “أف بي آي” فقد رفضوا الظهور في الفيلم.

يجسد الفيلم تلاعب العميل شهيد حسين بفريسته، فقد كان يطفئ الكاميرات ويضيؤها كيفما شاء، وربما يفسر هذا غياب التسجيل الأخير بينه وبين المتهمين الأربعة ليلة تنفيذ الخطة، فهل أبدى المتهمون تراجعا أو رفضا للدماء كما حدث من “ديفيد” في تسجيل آخر؟

ففي داخل سيارة حسين، أعلن “ديفيد ويليامز” صراحة: نحن لا نريد أن نؤذي أحدا، نحن نريد تدمير منشآت، لا نريد أن نحصد أرواحا. وفي لقطة أخرى خاطب حسين “كروميتي” قائلا: هذا جهاد في سبيل الله، ومن يقوم به يجب أن يفعله لهذا. وهنا تتغير لهجة “كروميتي” كمن يجاري طفلا أو يمرر شيئا غير مقتنع به، فيجيب: نعم هي لله، لكنهم أيضا يقومون بها من أجل المال.

استهداف الأفارقة الفقراء.. لعبة تشوه صورة الأجهزة الأمنية

لم يكن أحد من هؤلاء الأربعة المتهمين يملك سيارة، لذا وفّر لهم شهيد حسين سيارة تنقلهم من مكانهم إلى مدينة مجاورة، لالتقاط القنبلة المزعومة، ثمّ أخذ يعلمهم كيف تعمل، وكيفية تفعيلها، وبينما هم في طريق العودة كان “لاجير” يتعسر في توصيل الأسلاك، مما جعل حسين يوقف السيارة ويساعده.

والأكثر من ذلك أنّهم في لحظة القبض عليهم لم تكن قنبلتهم مفّعلة بحيث تنفجر، فحتى لو كانت حقيقية لما حدث شيء، لكن الظهور المركز لقوى الأمن الثلاثة والأضواء المسلطة على بطولاتهم الفذة في القبض على إرهابيين يشتركون في كراهيتهم لأمريكا، رسم صورة سيئة لدور “أف بي آي” ومهامها وتقصدها الفقراء الأفارقة الأمريكيين من المسلمين.

ولاستكمال المشهد وإمعانا في التأثير العاطفي على المحكمين جاءت “أف بي آي” بقنبلة حقيقية مماثلة لتلك المصطنعة التي صنعت في معاملها، ووضعوها في مكان خال، وحولها تماثيل من البلاستيك، وفجروها، ثمّ عرضوا الشريط في المحكمة، وقالوا هذا ما يستطيع هؤلاء المتهمون القيام به من تدمير وإزهاق للأرواح، لولا أنّنا سلمناهم قنبلة مصطنعة.

وقد أضعف موقف الأربعة ما تداولوه من محادثات عن كراهية اليهود، وهو ما يعرف في الولايات المتحدة بمعاداة السامية، وقد عرض الفيلم جملة واحدة فقط لـ”كروميتي” يقول فيها: “أنا أكره هؤلاء الأوغاد”. وبيّن فرحته بالخطة.

استغلال الحاجة.. طعنات توجهها الحكومة لمواطنيها

حين شاهدت الفيلم خطر على بالي تساؤل أعرف إجابته مسبقا: هل لو عُرض هذا المبلغ على أيّ أمريكيّ معدم أبيض أو غيره، لا علاقة له بالإسلام من قريب أو بعيد، هل كان سيقع في نفس الفخ؟

الفقر والحاجة من نقاط ضعف الإنسان، والتلاعب بهما خطير، ومحاولة إلصاقهم بالخالق الذي يعبده ربع تعداد العالم أمر دنيء. وهناك تساؤل آخر يتوارد إلى الذهن: ما الفرق بين موقف المتهمين الأربعة الذين قبلوا أو تظاهروا بقبول قتل أبرياء في مقابل مبلغ كبير، وبين كبار سياسيي أمريكا الذين يوافقون على قتل أبرياء في دول إسلامية، في مقابل غاز أو صفقات أسلحة أو مناصب كبيرة؟

يرقب الفيلم بشكل غير مباشر تحور السياسة الأمريكية من توجيه الطعنات لمواطني دول أخرى، إلى تصويبها نحو مواطنيها من المسلمين واليهود، منتهزين ضعف الأفارقة الأمريكيين. هذا العمل يضيف إلى رصيد مخرجيه نجاحا جديدا، من حيث الجرأة في العرض.

لا شك أنّ ما فعله المتهمون الأربعة يفتقد إلى الحس السليم، لكن هذه الاستراتيجية التي تقوم بها الحكومة الأمريكية أيضا يرفضها الحس السليم، فهي تبحث عن نقاط ضعف مواطنين أمريكيين لهم حاجات فتتلاعب بها، وتضغط عليهم بها، وتزين لهم أعمال شر، في مقابل سد حوائجهم، وقد كان من حقها أن تسد، ربما بنفس الأموال التي تستخدم في مثل هذه العمليات. اللعب على حرمان الناس وعوزهم بالشر هو اختصاص الشيطان، والآن تنافسه “أف بي آي” وتلعب دوره.


إعلان