“النداء”.. غربة وحنين للجذور التي اقتلعها الشتات في المضارب الكردية

 

ثمة أفلام وثائقية بسيطة في مواضيعها لكنها عميقة في مقارباتها الفنية. وفيلم “النداء” للمخرج الكردي ريبر دوسكي هو من هذا النمط الذي يفصح عن أشياء كثيرة بكلمات مقتضبة شديدة التركيز.

لابد من الإشارة أولا إلى أن دوسكي هو من أكراد العراق الذين تعرضوا لقمع الأجهزة الأمنية العراقية التابعة للنظام السابق وغادر البلاد، واتخذ من هولندا ملاذا له، حيث أتيحت له في أمستردام فرصة العمل والدراسة في آنٍ معا، فتخرج في أكاديمية الفيلم الهولندية.

وكان فيلم تخرجه “حظي السعيد في أوشفيتز” (Mijn Geluk in Auschwitz) عام 2012. ثم تلاه في 2013 الفيلم الوثائقي الثاني “النداء” (Lokroep) الذي احتفت به الدورة الثامنة لمهرجان لندن للفيلم الكردي، إضافة إلى فيلمه الثالث “أبي” (Mijn Papa) الذي أخرجه عام 2013 أيضا، ناهيك عن مشاريعه الفنية المؤجلة التي تنتظر الدعم المعنوي والمؤازرة المادية.

تهجير الأكراد.. مأساة قومية ممزقة بين أربعة بلدان

يعاني الأكراد منذ سنوات طويلة من عمليات النفي والإبعاد عن مواطِنهم الأصلية، ليس في العراق فحسب، وإنما في سوريا وتركيا وإيران أيضاً، حيث يُقتلعون من جذورهم ويُقْصون إلى مناطق نائية يشعرون فيها بالغربة والاغتراب في آنٍ معا، آخذين بنظر الاعتبار أن الأكراد يشعرون بأنهم ينتمون إلى ما يُطلقون عليه كردستان الكبرى، وليس إلى هذه البلدان الأربعة التي صادرت حقوقهم القومية والثقافية، وقمعتهم على مرّ العقود الماضية.

اشتدت المقاومة الكردية للحكومات الأربع آنفة الذكر في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ولكي تُخمِد شرارة المقاومة فقد لجأ البعض من هذه الدول لبناء السدود العملاقة وإقامة خزانات الماء الطبيعية التي غطت مناطق واسعة من تلك المضارب التي تسكنها الغالبية الكردية ثم شرعت بعمليات تهجير قسرية واسعة النطاق تحت حجج وذرائع واهية أجهزت على أحلام الفلاحين الكرد الذين يعيشون على الزراعة والرعي بشكل رئيس، إضافة إلى مزاولتهم بعض المهن الحياتية البسيطة المتعارف عليها في القرى والقصبات النائية.

غربة الروح.. لعنة تطارد أكراد الشتات في المدائن

لا يخرج فيلم “النداء” عن هذا الإطار المُفجع للتهجير القسري الذي سيخلق غربة روحية لدى المواطنين الكرد المهجّرين. ففي ثمانينيات القرن الماضي هجّر الجيش التركي عوائل كردية من جنوب شرق تركيا، وفرّقهم في وسط البلاد وغربيّها، ومن ضمنهم عائلة حبيب الذي قارب العقد الخامس من عمره، فاستقر به المقام في إسطنبول التي تبعد عن موطنه الأصلي نحو 1600 كم.

وكما هو معروف فإن الإنسان القروي لا يستطيع أن يندمج في حياة العاصمة، ولا يستسيغ عاداتها وتقاليدها ومنظومة قيمها المدنية المتحضرة. وعُقدة العيش في العاصمة موجودة في بلدان العالم الثالث تحديدا، إذ يشعر الإنسان القروي بالغربة المكانية والروحية والاجتماعية، ويشدّه الحنين دائما إلى مضارب أهله وطفولته وصباه وبيئته الخضراء المفتوحة على الجهات الأربع.

بعد خمس وعشرين سنة من الغربة المكانية القاسية يعود حبيب إلى قريته مع زوجته الجديدة التي أنجبت له أربعة أطفال، أما زوجته الأولى فقد رفضت أن تترك إسطنبول وتقفل عائدة هي وأولادها إلى القرية النائية، ويبدو أنها تطبّعت على الحياة المدنية واستلطفتها، بخلاف زوجها الذي لا يستطيع أن يتنفس هواء المدينة الخانق من وجهة نظره.

رمضان.. اتصالات مستمرة بالولد البكر المفضل

رغم أن الوالد حبيب قد عاد إلى قريته واستأنف عمله فيها مزارعا ومربي مواشٍ وصائدا لطيور الحجل، فإن إحساسه بفقد العائلة الأولى لم يتعوّض، وبالذات لابنه الكبير رمضان الذي يتصل به بين أوانٍ وآخر، فيصعد على سطح بيته كي يؤمن الاتصال به عبر هاتفه النقال.

وحينما يشدّه الحنين إليه يسافر إلى إسطنبول، كي يشبع غريزته الأبوية من ابنه الذي يمتلك حظوة كبيرة لديه. فعلى مدار الفيلم لم نسمعه يتحدث إلاّ مع رمضان الذي شبّ عن الطوق، وبدأ يعمل في إحدى مقاهي العاصمة.

يقرر رمضان أن يزور والده في القرية التي غادرها مذ كان عمره خمس سنوات، لكنه لم يقتنع بالبقاء فيها، فقد ألِف حياة العاصمة ولا يستطيع أن يعيش في هذه القرية النائية التي تكاد تخلو من أي عمل يناسبه بوصفه شابا مدنيا تفتح ذهنه في أجواء العاصمة وفضاءاتها المتعددة الثقافات. ومع ذلك فقد طلب منه الأب أن يكرر زيارته للقرية، ولا ينقطع عن والده الذي يمحضه حُبا من نوع خاص.

فضاء القرية.. لحظات جميلة بين جنبات الطبيعة الهادئة

يركز المخرج ريبر دوسكي على الفروق الكبيرة بين الحياة القروية والمدنية، ففي إسطنبول وهي العاصمة الكبيرة لم نرَ رمضان إلاّ مرة واحدة، وهو يستقبل والده في المقهى الذي يعمل فيه، لكننا نكاد نقضي كل مدة الفيلم الوثائقي في القرية.

ولعل أجمل ما في القرية هي اللحظات التي يصيد بها الوالد حبيب طيور الحجل بواسطة الشِباك، أو التي يرعى فيها أغنامه، أو التي يقضيها بين جنبات القرية الهادئة التي لا يحطّم سكونها سوى ضجيج سيارة واحدة، تنقل أفراد هذه القرية إلى القرى والمدن الصغيرة المجاورة لهم.

كما يلفت المخرج عناية المشاهدين إلى طبيعة الحياة الاجتماعية القروية التي لا تخلو من جمالية خاصة قد لا يشعر إنسان المدينة بها، بل إن رمضان الذي جاء إلى القرية زائرا لم يعرف ماذا يفعل بعد أن التقى والده وإخوته الجدد وزوجة أبيه. فالقرية تضيق به ولا تلبّي حاجاته ورغباته اليومية.

المخرج الكردي ريبر دوسكي

وحينما خرج مع والده إلى أرجاء القرية لم يستطع أن يتقافز على الأحجار مثل أبيه، ولم يستطع أن يتخاطب مع الأغنام بذات الأصوات المتقنة التي كانت تنطلق من فم والده، فثمة إحساس بالقطيعة مع هذه الأجواء الجديدة على رمضان، رغم أنّ جذوره قد نبتت في هذا المكان، لكنها أورقت في العاصمة وصار كائنا مدنيا بامتياز، ولا يصلح للعيش في هذه القرية التي تعلّق بها والده.

شتات العائلة.. تمزق الأجيال بين حياة المدينة والقرية

صحيح أن فكرة الفيلم الرئيسة تتمحور على القمع والتهجير القسري والمُصادرة الكلية لحقوق الإنسان الكردي في تركيا فيما يتعلق بحق العيش في المضارب التي وُلد فيها الإنسان الكردي، ونشأ وترعرع في مضاربها، لكن قوة الفيلم تكمن أيضاً في ثنائية القرية والمدينة، وانقسام شخصيات العائلة الواحدة إلى شقّين، إذ يفضل الشق الأول العودة إلى الجذور، بينما يتآلف الشق الثاني من العائلة مع الحياة المدنية المعاصرة.

وكأنّ مخرج الفيلم يريد القول إن المرأة أكثر ميلاً للتطبّع والاندماج في الحياة الجديدة من الرجل. كما أن الأولاد قد خُلقوا لزمان غير زمان الأب، ولمكان غير مكانه، إن هم شاؤوا وقرروا، كما فعل الابن الأكبر رمضان، فقد وجد نفسه في أزقة إسطنبول أكثر مما وجدها في مضارب القرية الكردية النائية في الجنوب الشرقي من البلاد.

إنه فيلم بسيط في موضوعه، وجميل في أداء شخصياته، لكنه عميق في طرحه الفكري ورؤيته الفنية التي تلامس قضايا إنسانية كبيرة مثل حق العيش والمواطنة واشتراطات الحرية الكاملة.

جدير ذكره أنّ المخرج ريبر دوسكي من مواليد محافظة دهوك بإقليم كوردستان عام 1975م، يعيش في هولندا منذ عام 1998م، وتخرج من أكاديمية السينما الهولندية في عام 2013م. أنجز العديد من الأفلام الوثائقية والقصيرة ونال عنها جوائز كثيرة في بعض المهرجانات المحلية والدولية.


إعلان