“القانون في هذه الأجزاء فقط”.. محاكمة صنّاع القوانين العسكرية في جيش الاحتلال

هل المهم أن يطبق المحتل القانون الذي وضعه، أم أن القانون وُضع أصلا ليكون أداة شكلية تحقق الانتقام من “العدو” حتى لو كان هذا العدو مغلوبا على أمره، وجد نفسه ذات يوم تحت الاحتلال؟

هل المحاكمة تؤدي إلى إظهار الحقيقة، أم أنها محاكمة محكوم فيها من قبل أن تبدأ بفعل ثقافة الانتقام التي تسخّر فيها فكرة العدالة لإنزال العقاب بالآخر الفلسطيني، حتى لو لم تكن هناك أدلة على مخالفته القانون سوى شهادات ضباط الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) ضده؟ هل القانون في خدمة العدالة أم في خدمة الاحتلال؟

وهل يمكن أن يضع المحتل نظاما قانونيا ينصف المحتل ويعترف بإنسانيته وبحقه المشروع حسب القانون الدولي في “مقاومة الاحتلال”، أم سيعتبره دائما إرهابيا لا يجوز له ما يجوز لغيره في مكان آخر؟

هذه التساؤلات وغيرها تطرح في سياق الفيلم الوثائقي الإسرائيلي “القانون في هذه الأجزاء” (The Law in These Parts) للمخرج “رعنان ألكسندروفيتش” الذي يتخذ في هذا الفيلم وجهة غير مسبوقة، فهو من خلال أسلوب عقلاني تحليلي استقصائي وبناء جدلي شبه تعليمي؛ يكشف ويُعرّي ويفضح منظومة القهر التي تخضع لها حياة ملايين الفلسطينيين، من خلال تقنين الاحتلال، وتشريع ما يبدو ظاهريا أنه يحقق لهم نوعا من العدالة، لكنه في حقيقة الأمر -كما يكشف هذا الفيلم- ينتهي إلى أن يُضرب بالقانون نفسه عرض الحائط، لكي تعلو فقط شريعة المحتل.

صُنّاع القانون.. محاكمة المخرج للقضاة المتقاعدين

ينتمي الفيلم إلى تلك الموجة من الأفلام الإسرائيلية التي تحاول -من وقت لآخر- طرح تساؤلات جادة حول ديمقراطية إسرائيل المزعومة، وهل هي ديمقراطية للجميع، وهل يمكن أن يوجد نظام قانوني عادل يطبق القوانين التي وضعها خبراء التشريع الإسرائيليون على المحتل، تماما كما يطبقه على المحتلين؟

لكن الفيلم بدلا من التركيز على الضحايا (أي الطرف الفلسطيني وما يتعرض له منذ 1967)، فإنه يركز على صناع القانون ومن يقومون بتطبيقه، إذ يختار المخرج مجموعة من خبراء القانون والقضاة العسكريين، وكلهم كانوا يعملون في القضاء العسكري، وكان مطلوبا منهم من أول يوم لاحتلال الضفة وغزة في 1967 وضع منظومة قوانين تنظم العلاقة بين السلطات العسكرية الإسرائيلية والفلسطينيين الذين أصبحوا الآن واقعين تحت الاحتلال.

فوق منصة يضع المخرج بنفسه في أول مشاهد الفيلم منضدة ومقعدا على خلفية ذات شاشة خضراء، ويتناوب القضاة العسكريون والقانونيون الجلوس واحدا تلو الآخر فوق المقعد، أمام المخرج الذي يطرح الأسئلة عليهم، وقد أصبحوا الآن “خارج الخدمة” بعد أن تقاعدوا.

يترك المخرج لضيوفه المجال للحديث والتبرير ومواجهة أنفسهم، من دون تدخل كبير من جانبه، وعلى الشاشة الموجودة خلفهم يعرض لقطات معظمها مصور بالأبيض والأسود لكثير من الأحداث والوقائع والقضايا التي تعرض لها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة بعد 1967، منها بعض الحالات التي يناقشها مع هؤلاء القانونيين الإسرائيليين الذين يتخذون مقعد الشاهد.

ويستخدم أيضا الوثائق والأوراق التي تتضمن وقائع كثير من الدعاوى القانونية والأحكام القضائية، يقرأ منها ونراها مصورة أمامنا على الشاشة، ويقتبس من الأحكام ومبرراتها، ويناول الأوراق للشخصية التي تجلس أمامه لكي ينعش ذاكرتها.

مصداقية الوثائقي.. تشكيك في وثائق الاحتلال

يقسم المخرج فيلمه الوثائقي الطويل (98 دقيقة) إلى خمسة أقسام، يكتب عنوان كل منها على الشاشة، وبعد أن يضع الطاولة والمقعد، تظهر على الشاشة لقطات لقوات الاحتلال، تحرس عشرات المعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية بعد احتلالها عام 1967.

يستخدم المخرج التعليق الصوتي بصوته، وباستخدام ضمير الأنا، فيقول إن الفرق بين الوثائقي والروائي أن الأول يتناول الحقائق، بينما يعبر الثاني عن الخيال، ويستطرد قائلا: قد يكون هذا صحيحا، لكنه ليس دقيقا تماما.

الطاولة والمقعد التي يجلس عليها المخرج مستجوبا قاعدة عسكريين متقاعدين من الجيش الإسرائيلي

والمقصود كما سنعرف فيما بعد هو التشكيك في صدق كثير من الوثائق التي يعرضها، وهو يقدم فيلمه بقوله إن القانون يفترض أن ينظم الحياة بين الأفراد أنفسهم، وبينهم وبين السلطات، وإنه سيستعرض في فيلمه النظام القضائي الذي أنشئ بعد الاحتلال من خلال الذين أنشأوه وطبقوه وطوروه وحافظوا عليه.

“الأوامر والبلاغات”.. قانون عبثي بأمر الحاكم العسكري

القسم الأول من الفيلم بعنوان “الأوامر والبلاغات”، حيث يمسك أحد القضاة العسكريين بوثيقة يقدمها له المخرج مكتوبة بالعبرية والعربية. إنها الوثيقة الأولى التي أُعلنت على شكل بلاغ رسمي بعد الاحتلال مباشرة في يونيو 67، لكنه يفجر مفاجأة حينما يقول إن هذا البلاغ العسكري كان قد أُعدّ قبل سنوات من الاحتلال الإسرائيلي في 67، وقد طبع منها عشرات الآلاف من النسخ، ووضعت في صناديق تابعة للجيش، إلى أن يأتي موعد استخدامها.

تتضمن الوثيقة أن الأراضي الفلسطينية أصبحت الآن تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي، وأن كل ما يصدر عن الحاكم العسكري هو قانون يجب الانصياع له. ثم نرى لقطات توضح كيف فرض الجيش على الفلسطينيين إصدار بطاقات جديدة للهوية، ثم يأتي تنظيم جمع الضرائب وإعادة تنظيم البريد والاتصالات ونظم التأمين وقانون المرور وتحويل التعامل النقدي إلى العملة الاسرائيلية.

يوجه المخرج سؤالا إلى أحد الخبراء القانونيين حول السبب الذي جعلهم يسنّون قوانين خاصة للأراضي الفلسطينية، في حين كان يمكن تطبيق القوانين الإسرائيلية، فيقول الرجل إنهم إذا فعلوا ذلك أصبح الفلسطينيون في الضفة والقطاع مواطنين إسرائيليين بالضرورة، فليس من الممكن تطبيق القانون على الأرض دون البشر.

“إرهابيون ومجرمون”.. شيطنة الآخر المقاوم ضد الاحتلال

الفصل الثاني يحمل عنوان “إرهابيون ومجرمون”، وفيه نرى لقطات من الجريدة الإخبارية العسكرية الإسرائيلية التي تصف زيارة “موشيه ديان” إلى الفلسطينيين المصطافين على شاطئ البحر في يافا، ثم جانبا من المحكمات العسكرية التي تجري يوميا للفلسطينيين، ولقطات من داخل ساحات المحاكم وقاعاتها.

جوناثن ليفني مُقدَم متقاعد في الجيش الإسرائيلي يشارك في الفيلم ويحكي روايته

ويناقش المخرج مع أحد المدعين العسكريين قضية تعود إلى عام 1969، كان يمثل الادعاء فيها ضد 8 من الفلسطينيين من أعضاء منظمة فتح، وقد اتهموا بمحاولة تفجير مطار بن غوريون، ويركز على قائد المجموعة الذي يقول إنه وُلد في القدس، لكنه اضطر للمغادرة إلى الأردن، وإنه كان يقاوم الاحتلال، لكنه حوكم كإرهابي، ويتساءل المخرج لماذا لا يطبق عليه القانون الدولي الذي يبيح المقاومة للواقعين تحت الاحتلال؟

فيكون رد الخبير القانوني الإسرائيلي: ليس من الممكن اعتبار أمثال هؤلاء أسرى حرب حسب اتفاقية جنيف لأنهم يقتلون المدنيين.

يتوقف الفيلم أيضا أمام قضية امرأة فلسطينية تدعى عريفة إبراهيم (من عام 1976)، فقد اعتُقلت بتهمة الاشتراك في أعمال إرهابية، في حين أن كل ما فعلته هو أنها كانت تقدم الطعام والشراب إلى مجموعة من الفدائيين تسلّلوا من الأردن، وكانوا يختبئون قرب قريتها.

القضاء العسكري.. فرقة من الجيش مارقة على العدالة

يتحدث القاضي “دوف شيفي” عما يُطلق عليه “الحيطان لها آذان”، أي كيف يعتمد الجيش على عملاء وسط الفلسطينيين، ويناقشه المخرج حول ما يدلي به هؤلاء العملاء من شهادات، ولماذا يجب تصديقها دائما، وهل كان القضاة يناقشون مثل هؤلاء الشهود، وكيف يأخذ القضاة بأقوال شهود لم تتح لهم فرصة مناقشتهم، لكن الرد يكون دائما أن هذه السرية مقصودة لحماية للعملاء، بوصفهم مصدرا مهما للمعلومات عند الجيش.

في أحد المشاهد يعترف أحد القانونيين منفعلا بعد أن يحاصره المخرج بالأسئلة، بأن القضاء العسكري في النهاية يعمل عند الجيش الاسرائيلي، وأن هناك فارقا بين العدالة وبين النظام، وليس شرطا أن يتفق الاثنان دائما.

في القسم الثالث يصور الفيلم بدايات تطبيق سياسة الاستيطان في الضفة والقطاع، وكيف تلقّف “آرييل شارون” نصيحة من أحد القضاة العسكريين (يظهر في الفيلم ويتحدث عن التجربة) تعيد استخدام مادة في القانون العثماني تتعلق بما يطلق عليه “أرض ميتة”، أي اعتبار كل أرض مهملة لا يزرعها أصحابها أرضا ميتة، ويجوز للجيش الاستيلاء عليها، وتشجيع المستوطنين على البناء فوقها، وهو ما نراه عمليا في الفيلم من خلال الوثائق المصورة.

“حلول مناسبة”.. خرق التشريعات لكبح انتفاضة الحجارة

في الجزء الرابع بعنوان “حلول مناسبة”، يصور الفيلم الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987، وكيف كانت السلطات الإسرائيلية تطور في التشريعات والتطبيقات، وتتجاوز الكثير لكي تواجهها وتقضي عليها.

الكولونيل إلكسندر راماتي أحد العسكريين المتقاعدين خلال مشاركته في استجواب من طرف مخرج الفيلم

وفي أحد أهم المشاهد الوثائقية في الفيلم تدور الكاميرا في لقطات بالألوان على عدد من السجناء الفلسطينيين داخل زنازين مختلفة من وراء القضبان، ويسألهم المصور واحدا وراء الآخر: لماذا أنت هنا؟ فتأتي إجاباتهم جميعا متطابقة: لقد كانوا ضمن الانتفاضة.

يقول الأول إنه كان يلقي بالأحجار، وعندما يسأله المخرج عن الحكم الذي صدر عليه، يقول: 14 شهرا. والثاني كان يوزع منشورات ويكتب على الجدران شعارات مناهضة للاحتلال، وقد نال حكما بالسجن لمدة سنتين ونصف، والثالث قام بإلقاء الأحجار وتوصيل أحد الفلسطينيين بسيارته، وقد نال حكما بالسجن لستة أشهر ونصف، وغرامة 500 شيكل.

غزارة بصرية وحصار خانق للشخصيات.. بصمة الإخراج

في مونتاج جدلي مثير، مع مزج على مقاطع من مقابلات القانونيين العسكريين، وعلى خلفية من موسيقى البيانو التي تبدو كالنذير بإيقاعاتها الرتيبة؛ يصور الفيلم نسف البيوت الفلسطينية، ومواجهة المظاهرات بأقصى درجات العنف، وعمليات الترحيل الجماعي عبر الحدود، وإقامة حواجز التفتيش، وقطع الصلات بين المناطق والمدن الفلسطينية، وكلها إجراءات يراها القانونيون “ضرورية”، أي أنهم يقرون بسياسة العقاب الجماعي للسكان.

من الواضح أن المخرج “رعنان ألكسندروفيتش” بذل جهدا هائلا مع فريق عمله، من أجل توفير كل ما يلزم من وثائق ولقطات تدعم رؤيته التي لا يشوبها أي غموض من البداية، فهو يتخذ وجهة نظر المحقق الذي يبحث ويحاسب ويُدقّق ويوجه الأسئلة الموجعة لهؤلاء الذين يتحدثون بلغة القانون، في حين أنهم يتجاوزون كل القوانين الإنسانية المعروفة، ويُبررون ما لا يمكن تبريره من ممارسات.

ليس في الفيلم ما هو زائد، كما لا ينقصه شيء، بل يبدو متماسكا من ناحية الإيقاع رغم غزارة المادة البصرية وكثافة المقابلات المصورة التي تقطّع على مسار الفيلم وفصوله المختلة بذكاء، بحيث ينجذب المشاهد إلى الفيلم ويظلّ يتابع ما يكشف عنه كل مشهد من معلومة جديدة أو وثيقة مصورة نادرة، وينجح في توصيل فكرة الفيلم الأساسية التي تتلخص في سؤال: كيف تطبخ القوانين من أجل تكريس سلطة الاحتلال؟ وهي قضية أخلاقية كما هي سياسية بالطبع.

ورغم الثبات الراسخ لدى قضاة الجيش الإسرائيلي وخبرائه القانونيين الذين يظهرون غير نادمين بتاتا في الفيلم، فإن بعضهم يستسلم أمام إلحاح المخرج بأسئلته القاسية الباردة تماما التي تأتي من خارج الإطار، لتحاصر الشخصية التي يحاورها، فلا يملك سوى الإقرار بأن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه ليس من الممكن دائما الحديث عن العدالة، بينما تكون أنت قاضيا تعمل لدى جيش احتلال. وهذه هي خلاصة رسالة الفيلم التي تصل إلى الملايين عبر العالم.


إعلان