“المرأة ذات السوار”.. غريقة النهر التي تقاذفتها أمواج الغربة والخطر والتجاهل

 

في فيلمه الأول “عودة إلى لامبيدوزا” يذهب المخرج “كريستيان كاتوميرس” إلى الجزيرة الإيطالية، ليسجل طبيعة العلاقة بين سكانها وبين المهاجرين الواصلين إليها، ومعرفة الأسباب القاهرة التي تدفع الناس في الضفة المقابلة لها لركوب البحر والمغامرة بأرواحهم، من أجل الوصول إلى برّها.

أما في وثائقيه الجديد “المرأة ذات السوار” (Woman with Bracelet)، فيقتفي أثر شابة أفريقية ماتت متجمدة أثناء عبورها نهر إيفروس الفاصل بين تركيا واليونان.

موضوع الهجرة في فيلميه طاغٍ، ويكاد الفيلم الثاني أن يكون مكملاً للأول، بفارق أنه يذهب خلاله في رحلة بحث طويلة تقارب رحلة المرأة الأفريقية من بلدها نحو الغرب، لكنها انتهت قبل تحقيق غايتها، ولم تترك دليلاً خلفها يثبت هويتها سوى سوار معدني وتعويذات صغيرة وجدها رجال الشرطة، بعد أن رست جثتها على ساحل النهر في الجانب اليوناني.

غرقى نهر إيفروس.. جثث مجهولة على الحدود

بنفس الأسلوب الجمالي الأخاذ الذي اتخذّه لنفسه يعالج “كاتوميرس” موضوع وثائقيّه، معتمدا على تصوير المشاهد الواسعة واللقطات المأخوذة من بُعد للأمكنة التي يرصدها، ويغور عميقا في تفاصيلها، لينقل عبرها الحالة النفسية للشخصيات التي يبحث عن مصيرها المجهول، معتمدا -كما في عمله الأول- على حسّه السينمائي المرهف، لخوض مغامرة تناول موضوعات آنية ذات طابع صحفي وتأطيرها بإطار وثائقي شديد الوضوح في انتمائه للفن السابع.

وقد جاء مشروع البحث عن هوية المرأة الأفريقية بعد زيارة قام بها صاحب الوثائقي إلى المنطقة الحدودية الفاصلة بين تركيا واليونان قبل ثلاث سنوات، إثر تسرُّب معلومات حول غرق عدد كبير من المهاجرين، أثناء عبورهم نهر إيفروس الشديد التيارات، وقد تكتم الطرفان التركي واليوناني عنها.

وقتها قابل “كاتوميرس” طبيبا شرعيا يونانيا تطوّع لحفظ جثث المهاجرين الغرقى أو المتجمدة في مياه النهر الباردة في فصل الشتاء، في ثلاجات خاصة، وجمع ما تركوه وراءهم من أدلة ووثائق قد تساعد أهاليهم في التعرُّف عليهم ودفنهم فيما بعد بما يليق بآدميتهم. لكن صورة السوار لم تفارق خياله، فقرر البحث عن صاحبته وتوثيقها سينمائيا.

مونولوج الفيلم.. رغبة الخلاص من البؤس تغلب مشاعر الخوف

على ثنائية العلاقة بين الموت والحياة، البحر واليابسة، المهجر والوطن، اشتغل فيلم “المرأة ذات السوار”، ولتجسيدها فتح أكثر من نافذة، ودعا مُشاهده للنظر عبرها لرؤية مشاهد لن تكتمل إلا بجمعها سوية.

وقد ترك المخرج من أجل ذلك مساحة لمونولوج داخلي، وتسرده بشاعرية فتاةٌ اسمها “جوي”، مصحوبا على الدوام بلقطات لمساحات مائية بحرية مخيفة بعمقها وسعتها، وتوحي بقوة أنها قد طوت تحت سطحها بشرا، رغبتهم في التخلُّص من بؤسهم كانت أقوى بكثير من مشاعر الخوف التي اعترتهم لحظة مواجهة أمواجه العاتية والباردة.

يحيلنا كلامها بطريقة غير مباشرة إلى تجربة الشابة المجهولة، بل ربما قد تكون هي نفسها، أليست مصائر البشرية في أحايين كثيرة تكاد تكون متشابهة ويصعب الفصل بينها؟

هكذا أراد الفيلم أن نتصور لكي يُسهل علينا الانتقال إلى النافذة الأخرى، حيث صانع الوثائقي يلعب هذه المرة دور السارد للحكاية، وأما فهو يطل علينا في نافذة مشرعة تالية يطل علينا كبطل مستقل.

سينما الطريق.. بحث وثائقي لا يلقى ترحيبا من السكان

يوسع الوثائقي من مساحة تحركه، حين يتحول إلى فيلم طريق يتنقل بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، وعبرها يوسع نظرته المعمقة إلى ظاهرة غدت اليوم الأبرز في اهتمامات البشرية، فمن تجربة بحث عن شخصية واحدة راح يتفحص تجارب أخرى تلخص عذاب المهاجرين ومعاناتهم خلال رحلاتهم المحفوفة بالخطر واحتمالات الموت.

في اليونان لم يتعرف على هوية ضالته، فكل ما حصل عليه بعض نسخ من صورتها وهي ميتة، مع صورة للسوار الوحيد والتعويذات الصغيرة التي لم تفلح في إبعاد الشر عنها. في المنطقة التي وجدوا جثتها فيها لم يلقَ بحثه ترحيبا من سكانها، بل كان هناك غضب من وجودهم، وحين يئس من السؤال توجه إلى أثينا العاصمة، ليلتقي بمهاجرين أفارقة ربما يتعرفون عليها.

الزوارق التي يستعملها المهاجرون لقطع البحر

حياة المهاجرين.. ظلال المشهد التركي الثقيلة

كانت المدينة تعج بالمتظاهرين المطالبين بمعاملة أحسن للمهاجرين، وخاصة النساء اللواتي اضطررن للعمل في البيوت، وكان استغلال المهاجرات وضغوط الحركات العنصرية يدفعهن لركوب البحر رغم أخطاره.

ففرص البقاء هناك معدومة تقريبا في ظل أزمة مالية تعيشها البلاد، وزخم كبير للمهاجرين من كل مكان، وبشكل خاص من تركيا التي عاد إليها الوثائقي، بعد أن فشل في معرفة المزيد عن الفتاة المجهولة. انحصر التخمين على موطنها الأصلي بين بنين والسنغال، فراح يبحث بين الجالية المهاجرة من البلدين، عسى أن يصل إلى نتيجة تهديه إلى أهلها.

المشهد التركي معقد ويعكس ظلاله الثقيلة على حياة الأفارقة والمهاجرين غير الشرعيين عموما، وفي ظل غياب رعاية الدولة للواصلين إليها يواجه المهاجرون مصيرهم بأنفسهم، ولا يجدون غير التوجه إلى النقاط الحدودية مع اليونان حلا آخر، فالطرق البرية يستحيل للفقير الوصول إليها في ظل سيطرة المهربين وطمعهم في استغلال سالكيها لأقصى درجة ممكنة.

جرائم القتل.. تواطؤ ضد إنسان الهجرة الحالم

يتوقف الوثائقي عند ظاهرة تحول مناطق حدودية وقرى كاملة إلى مناطق مهربة للبشر، وبالتالي يستحيل خرقها أو منعها من تعريض حياة آلاف من البشر إلى خطر الموت غرقا، وفي الجانب الثاني من النهر شديد البرودة يتكتم رجال الشرطة عن عمليات القتل، فالمهم بالنسبة إليهم أن لا يصل المهاجر.

تواطؤ مخيف يقع ضحيته بشر قادتهم ظروفهم الاقتصادية والسياسية الصعبة إلى ركوب البحر الهائج والبارد برفقة مهربين لا ضمائر عندهم، وقبل ذهابه إلى أفريقيا يجري الوثائقي مسحا استقصائيا لأحوال المهاجرين في اليونان وتركيا، فيقدم صورة بانورامية عنهم تدمي القلب سُجّلت بعدسة حساسة تعرف جيدا كيف تلتقط الأكثر تأثيرا والأشد إقناعا.

آلام الوطن.. أنين البلاد التي تقذف أبناءها إلى المهجر

في السنغال وبنين لم يتعرّفوا على الفتاة، فاستثمر وجوده هناك لمقابلة عوائل فقدت بعض أحبتها خلال رحلات الهروب إلى أوروبا، وكانت البطالة والفقر سببين رئيسين للهجرة، إلى جانب المعلومات المضخمة عن رفاهية حياة لا تستند إلى واقع.

تجارب مريرة وأحزان تركها المهاجرون في موطنهم الأول الذي لم يوفِّر قادته شروطا إنسانية تبعد شبح التفكير بالهجرة عن مواطنيه، وبهذا قدّم الوثائقي بعدا تحليليا، إلى جانب بحثه في الظاهرة من منظور إنساني انطلق من شريحة صغيرة تحرّكت على مساحة ضيقة، ثم راحت تتمدد إلى آفاق أكبر، فازداد متنه السردي غنى، وغدا شديد المصداقية والعمق.

لم يكتفِ الفيلم بكل ذلك، فظل إلى جانب حرصه على تسطير الحكايات وتنويعها جغرافيا وثقافيا ملتزما بتصويرها بطريقة مدهشة، وأيضا الانتقال بينها بخفة ورشاقة، لكنه لم يعثر رغم جهده المضني على أهل الفتاة، فعاد إلى إسطنبول ليرى أين وصل الأمر بالمهاجرين الجدد القادمين إلى نفس النهر الذي تجمدّت فيه المرأة الأفريقية وهي في مقتبل العمر.

لم يتغير في المشهد التراجيدي شيء، فما زال الطامحون بمستقبل أفضل يغامرون بحياتهم، ويعرضون أنفسهم لخطر الموت.

سور قرآنية على قبور المجهولين.. ثنائية الحياة والموت

يوثِّق الفيلم موجات الهجرة الجارية بأسلوب مذهل، مشتغلاً لتجسيدها على ثنائية الموت والحياة، فبالقرب من الأحراش الكثيفة التي تحيط بالنهر تطوّع شيخ مسلم لدفن الموتى في مقبرة صغيرة، بغض النظر عن جنسياتهم ودياناتهم، فكلهم بالنسبة إليه يستحقون مقابلة وجه ربهم بكرامة، وأن يدفنوا بما يليق بهم كبشر.

ينتهي زمن الوثائقي في مشهد مدهش لناجين نجحوا في الوصول إلى الطرف الثاني من القارة الأوروبية عبر النهر، وبين مشهد ملتقط من الأعلى لشيخ يقرأ سورا قرآنية على قبور المهاجرين المجهولين، وبين تحرك الكاميرا نحو البحر، لتصور أكبر مساحة فيه، وقد عرف صاحب الوثائقي كيف يعالج موضوعا مهما ومؤلما بكاميرا ذكية ورؤية سينمائية عميقة.


إعلان