“الخيول البرية”.. شغف وجموح وفاجعة في مجتمع تركي يضطهد بناته
حين عُرض فيلم”الخيول البرية” (Mustang) للمخرجة “دنيز إيرغوفين” في أسبوعي المخرجين في مهرجان “كان” 2015، شُبّه بالفيلم الأول للأمريكية “صوفيا كوبولا” فيلم “انتحار العذارى” (The Virgin Suicides)، وقيل إنه نسخة تركية عن هذا الفيلم الأمريكي الشهير الذي عرض في نهاية التسعينيات.
وعند مشاهدته لا يمكن إلا أن نلحظ أوجه الشبه الكثيرة بين القصتين والحبكتين، وبين مجتمعات تتشابه في طُهراها ومحافَظَتها كما ضحاياها.
كسر القيود.. لحظة جموح لا تحمد عقباها
في فيلم “انتحار العذارى” للمخرجة “صوفيا كوبولا”، تدور الأحداث في مدينة أمريكية هادئة ومحافظة، حيث تحاول فتاة في عامها الثالث عشر الانتحار، لديها أربع أخوات مراهقات وجميلات، تدريجيا يحظر الوالدان عليهن الخروج ليعشن حياة غريبة تثير اهتمام فتية الحي.
في الفيلم التركي أيضا خمس أخوات يتيمات، لكن شهيتهن للحياة تتعارض وتصطدم مع مفاهيم وتقاليد العائلة التي تجسدها هنا الجدة والعم، فالأبوان قضيا نحبهما في حادث. إنها بداية الصيف وآخر يوم في العام الدراسي، وها هن الفتيات قبل العودة للبيت تحدوهن رغبة بشيء من التسكع واللهو مع زملائهن الصبيان بالماء.
كانت نتائج الفضيحة غير متوقعة لهن، ومثلت منعطفا في حياتهن، فجدران المنزل تحولت تدريجيا إلى سجن، وملابسهن باتت عند الخروج فضفاضة طويلة، أما النشاط المسموح به فاقتصر على دروس التدبير المنزلي وتجهيزهن للزواج برغم أعمارهن الصغيرة، لكن هذه الإجراءات تؤدي إلى عكس المراد، وتشعل رغبة هؤلاء الصغيرات والمراهقات بالانطلاق، وتزيد من نزعتهن للحرية وسعيهن لتجاوز محظورات غبر مبررة من وجهة نظرهن. وكما في فيلم “كوبولا” ثمة انتحار هنا أيضا لإحداهن انتحرت يأسا وهربا.
شغف الحرية.. سعي دؤوب يصنع إيقاع الفيلم
يسير الفيلم على إيقاع حركة بطلاته بحيويتهن الطاغية، وسعيهن المستمر لتجاوز الممنوعات دون كلل، بمقالبهن وخدعهن التي لا تتوقف، وكأن حبسهن أطلق لخيالهن العنان في ابتكار أساليب تخرجهن من العزلة.
لقد نجحن في جذب المشاهد وإقناعه بمطالبهن الحقة، مطالب أخوات تتفاوت أعمارهن بين 8-16 سنة تقريبا. لقد كن كالخيول البرية بانطلاقهن الشغف نحو الحرية وسعيهن الدؤوب لنيلها، وكانت حركتهن الدائمة كأنهن جسد واحد بخمسة رؤوس تعطي إيقاعا حيويا للفيلم.
سرد كلاسيكي وناجح للفيلم، وتصوير التقط حرارة الصغيرات وطزاجتهن، ففاضت بهما الشاشة، وخفةٌ في أسلوب الإخراج رغم معالجة موضوع حساس، فالمخرجة ابتعدت مثلا عن التهويل حتى بعد حادثة الانتحار، لكن في نفس الوقت ثمة هِنات في السيناريو، وتوقع الأحداث في كثير من الأحيان لم يكن نقطة ضعفه الوحيدة.

غياب المبررات في الحبكة السينمائية.. عيوب الفيلم
لم يكن سلوك الفتيات وملابسهن (وهذه مسؤولية المدير الفني) يتناسبان مع سكان ضيعة منعزلة هكذا، فقد بَدون فتيات مدينة بالملابس القصيرة والأحذية الرياضية الأنيقة، ربما عشن قبلا مع والديهن فيها، لكن هذا بقي غامضا في الفيلم، فلم نعرف سوى أنهن بقين مع جدتهن وعمهن بسبب وفاة الوالدين في حادث سير.
بدا السيناريو واهنا حين لم يبرر تمسك العم -الذي يشرب الخمرة ويعتدي جنسيا على ابنة أخيه- بمنع البنات من حضور مباراة في المدينة المجاورة، رغم أن كل فتيات القرية سُمح لهن بالذهاب، ونُظّمت رحلة جماعية لهن لهذا الغرض.
كذلك لا مبرر درامي لمنع من بقي من الفتيات الحبيسات من الذهاب إلى المدرسة عند افتتاحها بعد العطلة، بينما كل فتيات القرية يذهبن إليها، فإن كانت خطة العائلة التخلص من البنات واحدة تلو أخرى عبر تزويجهن، فما مبرر منع فتاة في العاشرة من الدراسة وهي ما زالت أمامها عدة سنوات قبل إدخالها القفص الزوجي؟
أجواء القرية التي ظهرت في الفيلم وسلوك ساكنيها والمستوى الاجتماعي للعائلة لا تبيح تصرفات كهذه. والمبررات الدرامية لأكثر من سلوك في الفيلم لم تكن مقنعة، حتى أن السيناريو لم يكلف نفسه تبريرها عبر الحوار مثلا.
مأساة أن تكون امرأة في تركيا المعاصرة.. عودة إلى الوراء
الفيلم إنتاج مشترك تركي فرنسي، وقد درست المخرجة “دنيز إرغيفين” السينما في فرنسا، وحصد فيلم تخرجها جائزة في مهرجان لوكارنو. وبما أنها تعيش بين بلدين يشكلان هويتها، فيمكن اعتبار وجهة نظرها عن وضع المرأة في تركيا داخلية وخارجية.
لقد سعت بوضوح للتنديد بالأجواء المحافظة التي ترى الجسد والرغبات الجنسية في كل شيء، كي تبين ما معنى أن تكون امرأة في تركيا المعاصرة، حيث مكانها مثار جدالات ونقاشات في هذه الفترة، وحيث ثمة عودة إلى الوراء برأي فئات من المجتمع التركي، بعد أن كانت تركيا سباقة في منح المرأة حق الانتخاب في الثلاثينيات.
جزء من الفيلم هو سيرة ذاتية حسب ما صرحت به المخرجة، ولا سيما المشهد الذي سبب الفضيحة لبطلاتها، حين ركوبهن على أكتاف الصبيان، ولو أنها لم تنل عقاب الصغيرات المجحف.
“كم أنا سعيدة لكوني امرأة في بلد كفرنسا”
شاركت المخرجة في كتابة السيناريو مع كاتبة فرنسية، وقد صرحت قائلة “لا نعمل فيلم خطاب سياسي”، ثم تحدثت عن وضعية المرأة والفتاة في تركيا واتهمت المجتمع التركي بأنه لا يأخذ بعين الاعتبار رأي النساء والفتيات، وأنها ترغب بجعل شخصياتها بطلات وأمثلة للشجاعة والذكاء والعزيمة وكل الصفات التي نادرا ما تنسبها السينما للنساء.
لكنها في لهفة حديثها عن كل ذلك قد بالغت برمي كل ما في جعبتها من سلوك شائن للمجتمع بحق المرأة، من حبس في المنزل ومنع من التعلم، مرورا بفرض الزواج والدفع للانتحار، وانتهاء بزنا المحارم.
قد تحصل كل هذه المصائب معا، ولكن ليس في أجواء كالتي ظهرت في الفيلم، فالمخرجة لم تنجح في الإيحاء بعزلة المكان وبعده عن المدن الكبرى، ففتيات القرية يتجولن بحرية بدون غطاء على رؤوسهن، وأولاد الآخرين الذين هم من طبقة العم وأصدقاء له لا يسلكون سلوكه.
ما هو مثير أن الحكايتين المتشابهتين لفيلم “صوفيا كوبولا” وفيلم “دنيز إيرغيفين” لم تهما كثيرا النقاد، فالفيلم عن قمع المرأة الشرقية، وهذا يحوّل الاهتمام تماما نحو هذه الفكرة الجاذبة أكثر من أي شيء آخر. فهو يؤكد صورة ويحثّ على الشعور بالابتهاج للعيش في مجتمع غربي، وليس شرقيا بغيضا مع نسائه.
وقد كتبت إحدى المشاهدات: “الفيلم لا يدع المرء لا مباليا، كم أنا سعيدة لكوني امرأة في بلد كفرنسا”.
بالضبط، وهذا أحد أهم أسباب نجاح الفيلم غربا.