“ديبان”.. هاربون من الحرب يقعون في فخ الفردوس الفرنسي العنيف

 

في فيلمه “ديبان” (Dheepan) الذي شارك عام 2015 ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” السينمائي وفاز بالسعفة الذهبية، قدّم لنا المخرج الفرنسي المتميز “جاك أوديار”، عبر بطله الذي يحمل الفيلم اسمه، واحدة من أهم القضايا التي تقض مضجع المجتمع الفرنسي منذ فترة طويلة، وكذلك كثير من البلدان الأوروبية التي تعاني من مشكلة المهاجرين أو الوافدين إليها، والتي تتوالى تبعاتها منذ نهاية العام الماضي، وبلغت ذروتها في أحداث باريس الماضية.

يتناول “أوديار” القضية في فيلمه من منظور إنساني أكثر اتساعًا بعض الشيء، فلا يدين بقدر ما يُعرِّي التجربة في صميمها، وذلك في ابتعاد تام عن أي تورُّط سياسي.

 

مقاتل نمور التاميل.. عائلة جديدة في سبيل الهجرة إلى فرنسا

يلامس “أوديار” سريعا قضية بطل الفيلم “ديبان” أو خلفيته السياسية، وهو أحد مقاتلي نمور التاميل بسريلانكا، لكنه يُقرِّر منذ مطلع الفيلم الابتعاد عن الحرب الدائرة هناك، والفرار من البلاد إلى فرنسا أملا في مستقبل أفضل وأكثر أمنًا.

وبمساعدة امرأة ليست زوجته وطفلة ليست طفلتها ولا طفلته، يصلون إلى باريس بوصفهم أسرة فرّت من أهوال الحرب الدائرة بسريلانكا، وهناك يتنقلون من مأوى لآخر حتى يحصل “ديبان” على العمل حارسا لأحد العقارات النائية بمنطقة ما معزولة بفرنسا.

تدخل الفتاة الصغيرة المدرسة وتعاني من مشاكل في التعامل والتأقلم مع غيرها من الأطفال هناك بسبب انعزالها تارة، وبسبب بشرتها تارة أخرى، وكذلك أيضًا لبعض العدوانية من جانبها، وهي ناجمة بالأساس عن الأهوال التي كابدتها كطفلة، إلى جانب حالة الفقد والحرمان من الأبوين والأسرة.

أما المرأة “ياليني” فقد بدأت تعمل عند أحد العجائز نظير مقابل مادي سخي، وهي تحاول تحقيق هدفها الرئيسي من تلك الرحلة، وهو الرحيل من فرنسا، والتوجّه إلى أهلها وأقاربها المقيمين ببريطانيا، لكن محاولاتها تفشل. تلك هي الشخصيات الثلاث التي يتناولها سيناريو فيلم “ديبان”، ويرصدها “جاك أوديار” في فيلمه عن كثب.

ما بعد الهجرة.. تحديات الحياة في الفردوس المنشود

من الوهلة الأولى، يتبين لنا أن تلك الشخصيات نجحت في تحقيق هدفها إلى حد كبير، وربما تكون محظوظة أيضا بأن كتبت لها النجاة، وأتيحت أمامها سبل حياة أخرى مغايرة ومستقبل قد يكون واعدا، مقارنة بغيرها.

لكنها في النهاية، تظل تدور في فلك الشخصيات العادية التي تهاجر أو تفرّ أو تنزح إلى أوروبا لأي أسباب كانت. وكما هو واضح، لم يعد هناك ما هو مأساوي في حياتها، لا سيما بعد الانتقال والعيش في الفردوس الأوروبي، لكن هل هذا صحيح حقا، وهل هو فردوس منشود بالفعل؟

هذا ما يحاول المخرج “أوديار” الإجابة عنه أو على الأقل إلقاء الضوء عليه، وذلك عبر المأزق الجديد الذي يضع شخصياته البسيطة المسالمة فيه.

عصابات المراهقين.. نيران تهدد سكان الحي وتدفع للنزوح

مع تطور أحداث الفيلم يكتشف “ديبان” أن تلك المنطقة التي يعيش فيها يسيطر عليها مجموعة من الشباب المراهق الذي أفلح في تشكيل عصابات باتت تتاجر في الممنوعات، وتتشاجر فيما بينها، وتزعج الأهالي والسكان، ويتطور الأمر بينها إلى حمل السلاح وإطلاق النيران، الأمر الذي بات يُهدِّد حياة السكان في المنطقة.

وفي إحدى المرات علقت الفتاة والمرأة أثناء تبادل للنيران، فأصابهما ذعر شديد، وكادتا تفقدان حياتيهما لولا اختباؤهما. تلك اللحظة المميتة هزت “ياليني”، ودفعتها للذهاب إلى محطة القطار من أجل الفرار إلى بريطانيا دون أن تلوي على شيء، خوفا من المصير الذي هربت منه بسريلانكا، وبات يلاحقها الآن في فرنسا.

يتدخل “ديبان” ويلحق بها عند محطة القطار ويوقفها، ثم يجبرها على العودة معه عنوة بعدما أخذ منها جواز سفرها.

حمل السلاح لحماية الأسرة المزيفة.. معارك المهجر

شعر “ديبان” أن تلك المرأة والطفلة هما فعلا أسرته، وأنها بديل عن تلك التي فقدها بسريلانكا بسبب الحرب، رغم تنبيه “ياليني” له بأن لا يصدق كذبة أنهم يشكلون أسرة حقيقية، لذا كان يحاول توفير الأمان النفسي لهما من ناحية، ومن ناحية أخرى إشاعة أجواء السلام والأمان بالمنطقة، والابتعاد قدر الإمكان عن اللجوء إلى العنف أو غيره لتحقيق ذلك.

الملصق الرسمي للفيلم بمهرجان كان نسخة 2015

لكن الأمور تتطوّر على نحو لم يكن راغبا فيه، فيضطر “ديبان” في النهاية إلى التدخل العنيف، وإلى حمل السلاح، وحتى اللجوء للقتل بكل السبل، دفاعا عن نفسه وعن المرأة والفتاة اللتين أحبهما واعتبرهما تعويضا له عن أسرته.

وللمزيد من إلقاء الضوء على هذا العنف وتعميق أثره وتلمُّس جذوره، يضيف المخرج “أوديار” خيطا آخر مهما، بأن جعل على رأس إحدى تلك العصابات شابا يدعى إبراهيم خرج لتوه من السجن، وسيُقتل من جانب الفريق الآخر في نهاية الفيلم، وهو حفيد لرجل عربي مريض يدعى السيد حبيب.

جموح الأجيال الناشئة.. ظاهرة تفتك بالجاليات العربية في أوروبا

تعمل “ياليني” على خدمة السيد حبيب ورعايته في شقته، وفي الوقت نفسه تساعد في خدمة ابنه الشاب الذي تبدو ملامحه ولغته فرنسية صرفة.

قام بالدور الممثل الفرنسي الشاب “فينسنت روتير”، مما يعني أنه من أبناء الجيل الثاني الذين ولدوا وتربوا في فرنسا ولم يعيشوا خارجها، ومع ذلك فهم ليسوا كغيرهم من بقية أبناء ذلك المجتمع الذين يعانون أيضا من بعض مشاكل المراهقة والمتاعب الاقتصادية والاجتماعية والجموح، لأنهم في النهاية لا يصلون عادة إلى مثل هذا التطرف.

وبتسليط “أوديار” الضوء على مثل هذا النموذج، فإنه لا يدينه بصفة خاصة، أو يودّ أن يحصره في جنسية أو لون أو دين بعينه، بقدر ما يرغب في الإشارة إلى تلك الظاهرة الآخذة في التنامي في فرنسا بصفة خاصة وأوروبا بصفة عامة، لا سيما في أوساط الجاليات العربية التي تعاني من الفقر والجهل والبطالة.

شذوذ السلوكيات.. مجتمع ممزق يكوي نفسه بنفسه

باتت مشكلة الانجراف إلى المشاكل والعنف واضحة بالفعل لدى الأجيال الجديدة التي ولدت وعاشت ولا تزال تعيش في هذه المجتمعات، لكنها ممزقة لا تستطيع العيش على نحو طبيعي كغيرها، وتعاني من التطرف في كل شيء، وانحراف السلوك وفقدان البوصلة.

أما الأسباب الكثيرة التي دفعت أفراد هذه الأجيال إلى الميل باتجاه التطرُّف والإجرام، فلم يشر إليها “أوديار”، فهو كما أسلفنا يشير في “ديبان” إلى أعراض لأمراض بات يراها بارزة، بل مستفحلة في المجتمع الفرنسي، ولا بد من معالجتها من جذورها.

ومن بين الأمور اللافتة التي يلمح إليها فيلم “أوديار”، سواء عن قصد أو غير قصد، أن أكبر المتضررين من تبعات ما تمارسه هذه الأجيال من شذوذ في السلوكيات، هي أسر وعائلات مماثلة فرّت أو هربت من ظروف قاسية، بحثًا عن حياة جديد هانئة مستقرة، فإذ بأبناء أو أحفاد أو حتى من عانوا مثل تلك الويلات من قبل، يقلبون حياة هؤلاء المسالمين إلى جحيم، وبذلك يكونون هم أول المتضررين، كما نشاهد في الفيلم. وحتى إن لم يتضرروا بشكل مباشر، فإنهم يجدون أنفسهم دائما في مواقف يضطرون فيها للدفاع عن أنفسهم كمهاجرين أو محاولة إثبات أنهم منخرطون ومندمجون في المجتمع وأنهم ليسوا مثل الباقين.

عنف المهجر.. ضرورات عودة اللاجئ إلى ما هرب منه

من بين الجديد الذي يلامسه “أوديار” ويطرحه بقوة، أن اللاجئ أو الوافد الذي قدم إلى مثل هذه المجتمعات الراسخة المستقرة، بحثا عن الأمن والأمان المادي والنفسي والاجتماعي، والتطلع لحياة جديدة ومستقبل مشرق؛ قد يجد نفسه مضطرا للدفاع عن حياته وأمنه، وإلى حمل السلاح والقتل، وإلى تبني كل ما كان يرفضه ويتجنبه ويهرب منه.

هذا بالضبط هو ما وقع لبطل الفيلم “ديبان”، فالأمر إذن لا ينتهي أبدا بمجرد وصول المهاجر أو الوافد وإقامته ببلد من البلدان التي يرى أنها آمنة، وهذا ما يطرح تساؤلا كبيرا حول معنى الهجرة والغرض منها بالأساس.

أبطال الفيلم.. أداء مبهر لممثلين غير محترفين

استعان “أوديار” في فيلمه، الذي كتب له السيناريو والحوار بالاشتراك مع “توماس بيدجان” و”نوي دوبريه”، بممثلين سريلانكيين غير محترفين، ليقوموا ببطولة فيلمه الجديد، وقد كان موفقا في هذا، لأنه أكسب الفيلم كثيرا من المصداقية والإقناع.

وقد قام بدور بطل الفيلم “ديبان” على نحو جيد الكاتب “أنتونيتازان جيزوتازان” في أول دور تمثيلي له، وشخصية “ديبان” تتقاطع بعض الشيء مع تجربته الحياتية الخاصة. أما البطولة النسائية فأدتها الممثلة المسرحية الناشئة “كالياسواري سرينيفازان” في دور “ياليني”، وهو أيضا أول دور سينمائي لها، وقد برعت في أدائه، وكانت تستحق عنه جائزة أفضل ممثلة بكل تأكيد، لولا فوز الفيلم بالسعفة الذهبية.