“في الهاوية”.. أحاديث الجناة وأهالي الضحايا حول فلسفة الإعدام

 

المخرج الألماني المرموق “فيرنر هيرتزوغ” معروف بنزعته الإنسانية، أي اهتمامه بالمصير الإنساني، فهو يتوقف كثيرا في أفلامه الروائية والوثائقية أمام فكرة الوجود ومغزى ما نقوم به وعواقبه، كما أنه مهموم باكتشاف الجوانب الخفية في النفس البشرية عموما، ومحاولة فهم الدوافع الإنسانية وتعقيداتها وتناقضاتها.

هذا البحث المستمر قاد “هيرتزوغ” في فيلمه “في الهاوية” (Into the Abyss) إلى التوقف أمام جريمة بعينها وقعت في منطقة ريفية من ولاية تكساس عام 2001، ليس بغرض البحث فيما يتعلق بدوافع مرتكبيها وما تلا القبض عليهم، ثم محاكمتهم والحكم عليهم، بل لمناقشة فكرة الحكم بإعدام إنسان من جانب إنسان آخر.

هذه المسألة المركبّة التي تضع قرار الموت في أيدي البشر، وإذا كان جميع الأطراف من القتلة وأقاربهم وأقارب الضحايا والشرطة ومنفذي الإعدام، يتفقون على إرجاع كل شيء -كما نرى في الفيلم- إلى المشيئة الإلهية، فما هو دور الإنسان هنا في تقرير ما يجب أن يكون؟

جريمة القتل.. سعي حثيث للحصول على السيارة الفاخرة

يسرد “هيرتزوغ” في بداية فيلمه وقائع جريمة القتل التي اشترك فيها شابان كانا في عامهما التاسع عشر، وهما “مايكل بيري” و”جيسون بيركت”، وقد قتلا امرأة وحيدة كانت تعد الطعام في مطبخ منزلها، ثم تخلصا من جثتها بإلقائها في بحيرة قريبة، بهدف الاستيلاء على سيارتها الفاخرة، ثم عادا فقتلا ابنها وصديقه لكي يحصلا على مفتاح شيفرة بوابة الدخول إلى حيث توجد السيارة.

وقد حُكم على المتهم الأول بالإعدام، وعلى الثاني بالسجن خمسة عشر عاما، وهو ما يتوقف أمامه “هيرتزوغ” في سياق فيلمه لمعرفة السبب، لكن اهتمامه الرئيسي ليس مُنصبا على الجانب البوليسي في الموضوع، فلا تساؤلات هنا حول ما إذا كان المتهم مذنبا أم بريئا، فلا شك أنهما مدانان، وقد اعترفا بذلك، والأدلة موجودة وواضحة، وما يسرده الشرطي في الفيلم من تفاصيل مدعومة بفيلم فيديو صورّته الشرطة لمنزل الضحية وما وقع داخله وفي المنطقة المحيطة به ليلة وقوع الجريمة الثلاثية، كافٍ تماما ودامغ.

لكن اهتمام “هيرتزوغ” هنا يتركّز على محاولة فهم عقلية مرتكبي الجريمة، فيمَ كانا يفكران وقتها، وكيف ينظران إلى ما حدث الآن بعد مرور سنوات؟ أي بعد أن كبرا وعاشا تجربة السجن، وخصوصا أن أولهما “مايكل”، يظهر أمام الكاميرا في الفيلم ليتحدث قبل ثمانية أيام فقط من تنفيذ الحكم بإعدامه.

يصور “هيرتزوغ” غرفة الإعدام من الداخل، والسرير الذي سيرقد فوقه “مايكل” ثم يقيد بالأحزمة قبل حقنه بحقنة سامة، ويوجه كثيرا من الأسئلة إلى “مايكل” الذي يبدو مبتسما قانعا بمصيره، لا يخالجه أدنى أمل بتغييره، قانعا بأنها مشيئة الله، مكررا أنه أدرك وتعلم الكثير خلال فترة سجنه التي تجاوزت تسع سنوات.

الشاب مايكل بيري يحكي عن جريمته من خلف القضبان

شهادة الأب.. توسل للمحكمة وتحمل لمسؤولية الانحراف

يلتقي “هيرتزوغ” بالجاني الثاني “جيسون” الذي لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وقد تعلم داخل السجن، وهو يلوم والده الذي أهمل تربيته منذ الصغر على ما انتهى إليه، ووالده نفسه محكوم حاليا بالسجن لمدة أربعين عاما وليس أمامه أي أمل في الخروج حيا، وهو يعترف بالتقصير في تربية ابنه وتوفير الرعاية له، بسبب إدمانه المخدرات والخمر، وارتكاب عدد من الجرائم.

يعرب الرجل عن حزنه الشديد على إعدام “مايكل” صديق ابنه الحميم كما يقول، ويشرح للمخرج أنه قدّم شهادة أمام المحكمة لصالح ابنه، وقال للمحلفِّين إنه يتحمل مسؤولية انحراف الابن، وأنه يشعر بأنه رجل فاشل لم يُكمل تعليمه وتخلّى عن رعاية ابنه مبكرا، وطالب المحلَّفين بأن لا يحكموا على “جيسون” بالإعدام، وقد تعاطف معه عضوان في هيئة المحلفين، فحصل “جيسون” على حكم بالسجن فقط، الأمر الذي يضع نظام العدالة الأمريكية محل تساؤل.

إعدام الجاني.. حين يواجه الإنسان مصيره قانعا به

نتعرّف أيضا على المرأة التي فقدت أختها في الحادثة، وهي تتحدث عن الفترة الصعبة التي عاشتها بعد فقدانهما، وتقول إنها بقيت أربع سنوات لا تستطيع مغادرة منزلها، وتقول أيضا إنها لا تزال من مؤيدي الحكم بالإعدام بشكل عام، كما تروي أنها حضرت تنفيذ الإعدام في “مايكل”، وأنه نظر إليها وهو في طريقه للموت، وقال لها إنه يسامحهم جميعا.

في حوار المخرج مع “مايكل” قبل أن يُعدم، يقول له من وراء الكاميرا، إنه ربما لا يحبه، ولكنه يرفض فكرة أن يأخذ أي إنسان حياة إنسان آخر، أي يُحدِّد موقفه بوضوح في الفيلم بأنه ضد الحكم بالإعدام. ولكن فيلمه ليس مجرد بيان احتجاج على عقوبة الإعدام، بل تأمُّل مشاعر الضحايا والمجرمين خلال تلك اللحظة الفارقة في مسار حياتهم، واختبار كيف تُلقي الأحداث الاستثنائية بظلالها على مصائر البشر.

هناك نوع من العبث يتعلق بالدافع لارتكاب الجريمة، أي سرقة سيارة للاستمتاع بقيادتها، وهو ما أدّى إلى إراقة كل هذه الدماء، ثم الوقوع في أيدي الشرطة، في عمر مبكر. وهناك فكرة الموت المعلن المحدد سلفا باليوم والساعة، وكيف يواجه الإنسان مصيره هكذا قانعا بعدم قدرته على تغييره، وكيف تعمل آلية الإعدام نفسها في الولايات المتحدة، وما شعور القائمين على تنفيذ الإعدام.

“جيسون”.. تحايل على القانون يزرع بصيص أمل

هذا فيلم حزين يفيض بالألم والشقاء، يجعل الضحايا مثل المذنبين، فكلهم تعساء. تقول أخت القتيلة إن حياتها كلها كانت سلسلة من الأحداث المؤسفة، فقد انتحر أخوها وتوفي والدها قبل أسبوع من زفافها، وقتلت أختها وفقدت أقارب آخرين لها في جرائم قتل أخرى، وكأن المنطقة التي تعيش فيها أصبحت منطقة للقتل فقط.

ملصق الفيلم

الشخصية الوحيدة التي لديها قبس من الأمل هي زوجة القاتل الثاني “جيسون”، تظهر مبتسمة طول الوقت أمام الكاميرا، فهي سعيدة أنها أصبحت حاملا من “جيسون”. ويسألها “هيرتزوغ” كيف حدث الحمل بينما يقبع زوجها وراء القضبان منذ سنوات، وأن الزيارات المرتبة التي تقوم بها له في السجن، غير مسموح فيها بأكثر من التلامس بالأيدي.

فتجيب بأنها قد حملت فقط، أي أنها لا تريد أن تكشف كيف استطاعت التحايل لكي يحدث الحمل. وهي الآن تنتظر مولودها في ترقُّب، كما أن لديها أملا في أن يخرج “جيسون” بعد فترة من السجن ليستأنف الاثنان حياتهما معا.

“فريد أمين”.. تجربة بث الحياة بعد زراعة الموت

تتوقف كاميرا “هيرتزوغ” طويلا أمام الشخصيات التي يحاورها، تحصر الوجوه في لقطات قريبة، تريد أن تتسلل إلى داخل العيون، وأن تقرأ ما في الصدور، وتلتقط كل إيماءة أو ارتجافة أو ارتعاشة جفن أو عين، ولعل المقابلة الأهم والأكثر تأثيرا في الفيلم كله، هي المقابلة مع “فريد ألين”، مسؤول غرفة الإعدام بالحقن السامة في إحدى مدن ولاية ألاباما، وقد أشرف لسنوات على ما يقرب من 125 عملية إعدام.

يصف “فريد” في حديث تلقائي مسترسل مشاعره وهو يتطلع إلى عيني الضحية الراقدة في استسلام، قبل أن تواجه مصيرها، ويروي بوجه خاص تأثير تنفيذ إعدام امرأة وقسوة التجربة عليه، وهو الأمر الذي دفعه بعد ذلك إلى رفض عقوبة الإعدام، ثم استقال من عمله وقبِل التضحية بمعاشه التقاعدي، لكي يحصل على راحة البال، وأصبح يكتفي حاليا بتربية الحيوانات الأليفة ورعايتها والتطلع إليها وهي تكبر، أي أنه يعيش تجربة بثّ الحياة بعد أن كان يزرع الموت.

فيلم “في الهاوية” محاولة هادئة للتغلغل في جنبات موضوع ذهني، فلسفي ونفسي مثير، رغم ثقل حواراته وتدفقها أحيانا خارج السياق، فالمخرج “هيرتزوغ” يترك الكاميرا ترصد كل ما تعبر عنه الشخصية التي يحاورها، من دون مقاطعة أو تدخل بالرأي، بل يكتفي فقط بالإنصات. ويترك للمشاهدين حرية الوصول إلى رأي وموقف.


إعلان