“سواق الأتوبيس”.. كفاح آخر المؤمنين بالأسرة في المجتمع المصري المنهار

 

“اندلع هذا الفيلم كالشرارة في حياتنا السينمائية الباردة”. هكذا وصفه الناقد السينمائي سامي السلاموني، كما اعتبره أفضل أفلام عام 1983 على الإطلاق، مُؤكدا أننا لو أحصينا أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية، فسوف يكون من بينها “سواق الأتوبيس”.

لكن الجميل أنه في عام 1996، أي بعد مرور ثلاثة عشر عاما على ما كتبه السلاموني؛ جاء الفيلم في الترتيب الثامن في قائمة أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، ضمن استفتاء مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لعام 1996 – بمناسبة مئة عام سينما – وحصل فيلم “سواق الأتوبيس” على 87 درجة متساويا مع فيلم “شباب امرأة” صاحب المركز السادس و”بداية ونهاية” صاحب المركز السابع.

أما في قائمة أهم مئة فيلم في تاريخ السينما العربية التي أجراها مهرجان دبي السينمائي العاشر 2013 فجاء “سواق الأتوبيس” في المرتبة 33 بعدد أصوات بلغ 31، متقدما على فيلم “الحرام” بفارق صوتين.

مغامرة بعد الفشل.. مفاجأة النجاح المبهر لمخرج مغمور

كان الفيلم مفاجأة للمصريين قبل المجتمع الدولي المتمثل في مهرجانات السينما التي شارك فيها، فمخرجه عاطف الطيب كان قد عمل مساعدا للإخراج، ولم يكن لافتا للأنظار على حدّ قول كثيرين، وهو نفسه ذات مرة أعلنها دون خجل.

قرر عاطف الطيب أن يخرج فيلمه الأول “الغيرة القاتلة” عن مسرحية “عطيل” لـ”شكسبير”، وقد أنتجه بنفسه بمساعدة بطله نور الشريف، وتأخر العرض التجاري للفيلم، لكن أقيمت بعض العروض للصحفيين الذين هاجموه بقسوة، ثم قرر خوض تجربة ثانية يكتنفه الإيمان القوي بها، لكنه الإيمان الممزوج بالخوف الشديد، فلو فشلت هذه التجربة فلن يتمكن من العمل مرة ثالثة في السينما.

عُرض “سواق الأتوبيس” في مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي، وفجأة سُلِّطت الأضواء المبهرة على هذا السينمائي المجتهد، كما لفت الأنظار إليه في مهرجان أيام قرطاج السينمائية بتونس، وحصل على جائزة العمل الأول لمخرجه.

كذلك عُرض في المسابقة الرسمية بمهرجان نيودلهي في الهند، فحصد الفنان الراحل نور الشريف جائزة أفضل ممثل، وكان بذلك أول ممثل مصري يتوَّج في مسابقة دولية، ثم عرض في مهرجان مانيلا السينمائي في الفلبين خارج المسابقة الرسمية، وأحاطت به موجة ملحوظة من اهتمام نقاد السينما ومراقبيها.

نور الشريف.. أول جائزة مصرية في مسابقة دولية

جسّد نور الشريف في هذا الفيلم شخصية حسن، وهو إنسان بسيط يكتشف -أثناء سعيه اليائس لإنقاذ ورشة أبيه من البيع- الأخلاقيات الاجتماعية الجديدة والتفكك العائلي والأنانيات التي أصبحت سائدة في مصر أثناء عصر الانفتاح.

فاز نور الشريف بأول جائزة تمثيل لممثل مصري في مهرجان دولي على الإطلاق في مهرجان نيودلهي عام 1983 عن دوره في هذا الفيلم، ولم يكن حاضرا في المهرجان ولا عاطف الطيب أيضا، لم يكن هناك أحد مع الفيلم، ومع ذلك فاز بالجائزة، وكان من بين أعضاء لجنة التحكيم “ساتياجيت راي” أعظم المخرجين الهنود، و”ليندسي أندرسون” المخرج البريطاني العالمي الكبير من مؤسِّسي السينما الحرة البريطانية.

مشاهد من فيلم سواق الأتوبيس

يتحدث الناقد السينمائي سامي السلاموني في مقاله عن الفيلم قائلا: جائزة نور الشريف في نيودلهي هي الأولى من نوعها التي يحصل عليها ممثل مصري من مهرجان دولي حقيقي. واصفا نور الشريف بالممثل العظيم.

أما سمير فريد فيقول: هذا الفوز يجب أن تحتفل به الهيئات السينمائية المختلفة الاحتفالات اللائقة بموهبة نور الشريف وقدرته الفنية بالطبع، ولكن ما يميز نور الشريف عن غيره من الموهبين والمقتدرين أنه تحول من تصنيع العمل تحت قيادة مخرج إلى التجمُّع حول معنى الفيلم، بهدف إتقان التعبير عن هذا المعنى، وليس بهدف الانتهاء من الفيلم أيا كان الأمر، فتحية إلى نور الشريف وإلى السينما المصرية.

قبل أن أنجح في الوصول لتأكيد السلاموني السابق، وبعد أن قرأت ما كتبه سمير فريد اتصلت بالمونتير والمؤرخ السينمائي د. مجدي عبد الرحمن للتأكد من أن جائزة نور الشريف هي حقا الأولى من نوعها لممثل مصري من مهرجان دولي، فأكد المعلومة وقال إنه يعتبر الفيلم هو “العزيمة” رقم 2 في أهميته.

وفي حوار لاحق لي مع الفنان نور الشريف أيدّ رأي د. عبد الرحمن قائلا: نعم تأثرنا في “سواق الأتوبيس” بفيلم “العزيمة” وهناك مشاهد تكاد تكون متقاربة.

تشريح الخلية العائلية.. لوحة بانورامية لحقبة عنيفة

أما الناقد والسيناريست اللبناني سمير نصري، فيقول: يُشرِّح الفيلمُ بقساوة كبيرة الخليةَ العائلية، وهذا ليس معتادا في الإنتاج السينمائي المصري. كما يقدم لوحة بانورامية هائلة للمجتمع الذي عاش التقلُّبات السياسية والاقتصادية العنيفة خلال عقد واحد من الزمن.

تكمن قوة الفيلم في أن الفكرة إنسانية بالمعنى الواسع، ولها ترديدات في الفنون العالمية، فهي قصة أسرة بسيطة يصاب عائلها بانكسار، مما يُهدِّد بنهايته ونهاية الأسرة كلها، وكان سلوك الأبناء تجاه هذا الموقف بكل التمزُّق والانهيار الذي أصاب الأسرة مؤديا إلى تفككها وأنانيتها، لولا صمود فرد واحد ما زال يحمل قيم الأسرة القديمة، ويحاول مقاومة هذا الانهيار.

ويُفسِّر البعض هذا الانهيار بأن السياق الاجتماعي في “سواق الأتوبيس” هو الذي أفضى إلى أزمة الطبقة المتوسطة، إنه السير في طريق البحث عن الخلاص، حتى لو كان ذلك على أشلاء الآخرين. فقد كانت “شلة القروانة” تبحث عن روح الجماعة في تأكيد على أن نزعة الخلاص الفردي هي الخطر الحقيقي الذي يهدد حاضر ومستقبل الطبقة المتوسطة، بينما كانت الدعوة الصريحة في “العزيمة” هي الخلاص الفردي.

عودة من الجبهة إلى معارك الحياة.. حروب البطل

يقول مخرج الفيلم عاطف الطيب: كان عنوان السيناريو “حطمت قيودي”، لكن أثناء التصوير شعرنا أن العنوان لا يلائم قيمته، فاقترح نور الشريف أن نسميه “سائق الأتوبيس”، واقترحت نبيلة السيد أن نسميه “سواق الأتوبيس”، ومن هنا جاء العنوان.

حسن بطل الفيلم شاب مصري تخطى الأربعين، وأخ لخمس بنات، وعندما شعر بأنه سيدخل حربا مع والده الحاج سلطان بسب دسائس زوج أخته الذي يخطط للاستيلاء على ورشة الأب، قرر حسن أن يتطوع في الجيش ليخوض حروبا عدة، بدءا من حرب اليمن، وحرب 67، وحرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر.

عندما تنتهي الحرب يقرر أن “يترك الجمل بما حمل” ويستقلّ بحياته، ثم يتزوج حبيبته ميرفت رغم أنف والدتها، فقد وضعتها الابنة المغرمة تحت الأمر الواقع، لكنها بعنادها وحسمها لم تنجح في تذويب جبال الثلج والشعور بالكره المتبادل بين الأم والحبيب، حتى بعد الإنجاب.

ظلّت الأم تنتهز أي فرصة لإشعال نار الخلاف بينهما وتفريقهما، خصوصاً أن مرتب حسن من عمله في قيادة الحافلة قليل، ولذلك يعمل أيضا بعد الظهر سائقا لسيارة أجرة اشتراها بمساندة زوجته التي باعت مصوغاتها لأجله.

“يا أولاد الكلب”.. انتقام عنيف من حياة يجسدها النشال

كثير من ما سبق نعرفه من كلمات وجمل متفرقة على لسان الأبطال على مدار الفيلم الذي يفتتح مشاهده في الفجر، حين يستيقظ حسن ليستعد للخروج إلى عمله، وفي المشهد التالي أثناء قيادته للأتوبيس تحدث واقعة سرقة.

تصرخ المرأة بينما يسرع النشال للهرب من الباب الخلفي، فيغلق حسن الباب، لكن النشال يقفز من النافذة، وحينها يتأمّله حسن ونظرة عينيه تكشف تردده في أن يلاحقه، لكنه يحسم أمره ويقرر التخلي عن مطاردته بعد توالي أصوات أبواق السيارات المعطلة خلفه.

يتكرر مشهد السرقة في ختام الفيلم، لكن تصرفه يختلف كليا، إذ يختفي التردد وعدم المبالاة، ويقفز من الشباك خلف النشال حتى يلحق به، وعندما يُخرج النشال السكين لتهديده لا يعبأ به، ويُصرّ على ضربه ضربا مبرحا، كأنه ينتقم من كل ما مرّ به في شخص هذا النشال الذي أصبحت الدماء تلطخ وجهه بالكامل، وأثناء ذلك يأتي صوت حسن صارخا من خارج الإطار: “يا أولاد الكلب، يا أولاد الكلب”. فما الذي حدث بين البداية والنهاية التي جعلت من حسن شخصا آخر؟

إنقاذ الورشة.. كفاح آخر ضمير حي في العائلة

ما بين مشهد البداية والنهاية يعرف حسن أن ورشة والده التي بناها بعرقه وجهده مهددة بالبيع في مزاد علني، بسبب تراكم الضرائب عليها منذ عشر سنوات، حتى بلغت عشرين ألف جنيه. هذه الورشة تصلح أن تكون رمزا لمصر التي نهبت وسرقت وخرّبت.

كما أن الأسرة بأكملها هي أيضا رمز أكبر وأقوى للحال المتردِّي الذي وصلت إليه مصر في أعقاب سياسة الانفتاح وقوانينه. فمعظم أفراد الأسرة تخلّوا عن الأب، خصوصا تحت تأثير أزواجهن باستثناء وفاء وأخته الصغيرة كوثر التي لاتزال طالبة.

يحاول حسن منع البيع خشية أن يموت والده، فقد كان لا يزال هو ضمير هذه الأسرة، ويتمكن المحامي من إقناع الضرائب بتقسيط المبلغ شريطة دفع نصفه أولاً، أي عشرة آلاف جنيه، فيبدأ حسن مساعيه لجمع المبلغ من أخواته البنات. يزور أولاً أخته سميحة زوجة البرنس التي تعيش في محافظة بورسعيد، ثم يزور أخته الحاجة فوزية وزوجها في محافظة دمياط.

تنكر الأصهار.. مؤامرات الاستيلاء على الثروة

نجح بشير الديك في صياغة الحوار بوعي شديد، وفي رسم تفاصيل ثرية للشخصيات على تنوعها، ويكشف لنا في تضافره مع المشاهد البصرية أن أزواج شقيقاته أصبحوا أثرياء بعد أن كانوا يعيشون في فقر مدقع، وذلك بعد أن ساندهم الحاج سلطان، سواء طوال سنوات التهجير، أو في بداية حياتهم عندما كانوا يعانون من البطالة أو فساد السوق.

لكنهم بعد أن تحولوا إلى تجار كبار يتنكرون له الآن، والأسوأ أنهم عندما يعلمون بأزمة الورشة يبدأ كل منهم في التخطيط للاستحواذ عليها، وأما عوني زوج الأخت الثالثة خديجة الذي أوقع بين الأب وابنه فهو لص آخر كبير، وهو السبب الجوهري لهذا المأزق الذي يكشف حالة الانهيار والأنانية التي أصابت أفراد هذه العائلة.

نور الشريف في دور حسن سواق الأتوبيس

كان حسن يعلم أن عوني ليس مخلصاً لأبيه لكنه قرّر أن ينفض يده ويبدأ حياته بعيدا عن كل تلك المشاكل، ليُحقِّق خلاصه الفردي، لذلك فإن شخصية هذا اللصّ عوني تعادل شخصية نشال الأتوبيس الذي لم يطارده حسن في بداية الفيلم وتركه يهرب.

ضرب النشال.. رمزية اللصوص الذين أفسدوا المجتمع

يحدث التحول الدرامي في شخصية حسن عندما يُصبح الأب مهدّدا بالموت، لذا فبعد ذلك الخبر نرى حسن يواجه عوني بفساده، وينذره بالابتعاد عن الورشة، مثلما لا يتردد بمشهد الختام في ملاحقة النشال وضربه بكل قوته حتى ينزف دما بينما يصرخ: “يا أولاد الكلب، يا أولاد الكلب” وكأنه رمز لكل اللصوص الذين سرقوا البلد ونهبوا خيراتها، ونشروا فيها الفساد فقلبوا موازينها ودمروا أخلاقياتها.

كان النشال رمزا لكل اللصوص الذين عرفهم حسن، بدءا من أزواج أخواته، مرورا بالطلاب الذين سرقوا منه سيارة الأجرة وضربوه بعنف دون رحمة، وصولا إلى حماته وابن أختها ماهر الذين هدّدا استقرار حياته الزوجية، وسرقا منه زوجته وابنه.

رغم ما سبق لا يُنهي عاطف الطيب فيلمه بمقتل النشال أو سقوطه أرضاً عندما يوسعه حسن ضرباً، لكنه يكتفي بتثبيت الكادر عليه وهو لا يزال يقف في حركة تراجع للوراء عقب قبضات وضربات حسن المتتالية له، فهي نهاية تبتعد عن التفاؤل وتشي بوضوح بأن هذا النشال -الذي يُرمز به للنهابين الكبار- لم يُقضَ عليه بعد.