“أرض الصَّيد”.. وباء الاغتصاب المسكوت عنه يجتاح الجامعات الأمريكية
في تناوله لنفس الموضوع الذي عالج جزءا منه في فيلم “الحرب الخفية” (The Invisible War)، يبدو المخرج الأمريكي “كيربي ديك” كمن يكرس نفسه لفضح ظاهرة الاغتصاب المسكوت عنها في مجتمعه وفي بعض أخطر مؤسساته؛ الجيش والجامعة.
ولا يبتعد في فيلمه الوثائقي الجديد “أرض الصَّيْد” (The Hunting Ground) عن أسلوبه السينمائي الذي كتب به النص الأول، وعمّده بشهادات الضحايا والإحصائيات الداعمة لصدقيتها، إلى جانب الصورة المعبرة عن آلام الأطراف المتضررة من جرائم تجري داخل مؤسسات “رصينة”، يعد مجردُ المساس بها في نظر رعاتها محاولةً غير مقبولة، لزعزعة الأعمدة الأخلاقية التي بُنيت عليها سمعتها، وتحصنت بها الدولة.
ومن هنا يتجاوز منجز “كيربي” الكشف عن الظواهر السلبية، إلى محاولة معرفة آليات عمل مفاصل مهمة في المجتمع الأمريكي ومعاينتها بعين سينمائية حساسة.
الجامعة الأمريكية.. حرم الصمت على الجرائم الجنسية
حاول الوثائقي “أرض الصَّيْد” الولوج إلى مؤسسة محصنة -وهي الجامعة الأمريكية- لفضح الانتهاكات المهينة لحرمتها، وسط صمت مديريها ودون علم الناس خارجها، ولهذا جاء الفيلم -بكل ما يحمل من فضح وتحليل واستقراء- قويا وجريئا في إعلان حقيقة ما يتعرض له الكثير من طلابها إناثا وذكورا، من عمليات اغتصاب واعتداءات جنسية.
بمقاربتها سينمائيا، حاول “كيربي ديك” إكمال مشروع رسم صورة بانورامية للجرائم الجنسية الخفيّة، بنفس أسلوبه السينمائي الماكر الذي يسحب به المشاهد من الجرف إلى الأعماق، دون إخافته.
فلحظات السعادة وردود الأفعال القوية للطلاب المقبولين حديثا في الجامعات الأمريكية -كما قدمها الوثائقي في مفتتحه- تحمل في طياتها تعابير نجاح لا تخص الطلاب وحدهم، بل تتعداهم إلى عوائلهم، فدخول الجامعة في الولايات المتحدة الأمريكية يعني أن المرء قد وضع قدمه على الطريق الصحيح وضَمِن لنفسه مستقبلا جيدا.
ولم يتوقف الوثائقي عند المعاني الطبقية والاجتماعية لمرحلة الانتقال من الثانوية إلى الجامعة، بسبب اهتمامه بشأن آخر مختلف، لهذا حاول استغلال إيجابيات اللقطات المتفرقة، للعمل على فرش الرمال الناعمة التي سيغوي بها مشاهده للمضي معه إلى الأعماق.
وبالتدريج، ينتقل حديث الفتيات المشاركات في صنع نسيج الوثائقي المهم، من الفرح بقبولهن في الجامعة، إلى الكوارث التي سقطت على رؤوسهن داخلها، حين تعرضن بعد وقت قصير للاغتصاب من قبل زملاء لهن، ومن شدة صدمتهن وخوفهن من الفضيحة فضَّلن الصمت. ولكن بعد معرفة كل واحدة منهن بحقيقة أن الأمر لم يقتصر عليها وحدها فحسب، بل تجاوزها إلى عدد كبير من الطالبات؛ فقد تجرأن على البوح بمرارة التجربة وما خلفته من آلام كبيرة في نفوسهن.
نفي الجريمة.. نبرة متعالية تكذّب الواقع ويكذبها
حكاية كل مغتصبة ومغتصب لها خصوصيتها، لكنها في النهاية تجتمع على قواسم كبيرة مع غيرها، لهذا حاول الوثائقي التأسيس عليها، وكشف صلاتها المباشرة بهيكلية “الحرم الجامعي”، ليتسنى له الانتقال بعدها إلى أطراف أخرى ستُسهم في تعميق النظرة إلى الموضوع الذي سيلامس بالضرورة جوانب أبعد من الفعل الهمجي، ويفضي لتبيان العلائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بهذه الظاهرة المسكوت عنها عمدا.
ستلعب الإحصائيات والأرقام عنصرا توضيحيا في كل منعطف حاد يمر به الفيلم، فأرقامه تفضح بقوة أكاذيب إدارات الجامعات التي تميل إلى نفي أخبار الاغتصاب التي تجري داخلها وتكذبها باستمرار، في حين تُظهر الأرقام أن حجم الاغتصاب في تصاعد خلال العقود الثلاثة الماضية، فحوالي ربع مجموع الطالبات الجامعيات تعرضن للاغتصاب أو الاعتداء الجنسي، والمغتصِبون والمتحرِّشون لا يأتون من خارج أسوارها، بل هم من طلابها وفي كل المراحل.
ستدفع هذه الحقائق الوثائقي للسؤال عن سبب عدم تدخل إدارة الجامعات والكليات لوقف هذا السلوك؟ فشهادات بعض المُغتَصَبات تشدد على أن الإدارات كانت تتبع سياسية ثابتة، تحيل بموجبها الذنب عليهن وعلى سلوكهن وملبسهن، وبالتالي لا تقبل شكواهن، وينتهي الأمر عند هذا الحد. وأما مسؤولو الجامعات فقالوا نفس الكلام، بنبرة متعالية لا تخلو من إساءة للطالبات، وبتبجح فاقع بعراقة مؤسساتهم التعليمية ونظافتها من أي شائبة. وهكذا تطابقت شهادات الطرفين، فتوضحت الصورة.
ستفضح الأرقام تلك السياسة، فأكثر من 80% من حالات الاغتصاب لا تأخذ طريقها إلى الإدارات العليا للجامعات.
سمعة الجامعة.. ستار مظلم يخفي ظاهرة متفاحشة
يذهب الوثائقي وبحوزته الكثير من الوثائق والتسجيلات مصحوبة بآراء أطباء وعلماء اجتماع، إلى عمق أشد تظهر فيه المصلحة الحقيقية للسكوت عن الظاهرة، من أجل الحفاظ على المراكز وامتيازاتها، فسمعة الجامعات عند عمدائها أهم بكثير من سمعة الطلاب، والجملة التي قدمها الوثائقي بعد الانتهاء من هذا الفصل تلخص الكثير، إذ يقول: لو اعترفت جامعة هارفارد بكمّ جرائم الاغتصابات التي تجري في أروقتها، لأغلقت أبوابها وانتحر عمداؤها.
لكن لن يقتل عمداء الجامعات أنفسهم من أجل طالب. وعليه سيبرز سؤال منطقي جديد: لماذا لا يرفع المغتصبون دعواتهم إلى أجهزة الشرطة؟
يتخذ الوثائقيُّ الأمريكي الأسئلةَ مفاتيحَ موضوعات (كودات) يدخل من خلالها إلى مستويات أعمق من البحث، فموقف الشرطة من الشكاوى المقدمة إليها له علاقة بالنظام الداخلي للجامعات التي تريد حسم القضايا أولا داخلها، ثم القيام برفعها بعد التحقيق فيها إلى أجهزة الشرطة التي قلما تهتم بها. لهذا فإن أكثر من 45% من الشكاوى لا تأخذ طريقها إلى القضاء، وتسجل غالبا ضد مجهول.
الحفلات الداخلية.. قد يأتي الأذى من حيث لا يتوقع
ظلت حتى النصف الأول من الوثائقي صورة المُغتصِب ضبابية، ثم أخذت في النصف الثاني بالتبلور وخضعت لتحليل معمق، شارك فيه أطباء نفسيون وعلماء اجتماع وحقوقيون.
وكنسق درامي واحد، ظل الفيلم يعج بالوثائق والإحصائيات والتسجيلات الحية التي جعلته عملا متماسكا يبعث على الحزن والغضب في آن، فعنصر المفاجأة الذي يصيب الضحية نابع من عدم التحوط وقلة الحذر، لاعتقادهن بأنهن يلازمن طلبة من مستوى اجتماعي جيد، ولا يتوقعن أن يتعرضن من قبلهم لأذى قد يصل إلى درجة الاغتصاب.
وعلى هذا العنصر يبني الوثائقي جزءا من مستواه التحليلي لأسباب حدوث الفعل المُشين، ثم يضيف إليه عنصرا آخر يتمثل في الإكثار من تناول المشروبات الكحولية في الحفلات الداخلية، وعنده يتوقف الوثائقي لقوة علاقته بجمعيات ما يسمى بـ”الأخوة” التي تشرف على مجموعة نواد وحانات ضمن حدود الجامعة.
ويكشف الميل العدائي الجنسي بين الطلبة إلى ميل عام بين الشباب الأمريكيين للعنف الذي يجد انعكاسه الواضح في داخل الجامعة، وأن التساهل مع أفعالهم يشجعهم على المضي فيها، إلى جانب العقوبات المخففة التي تنص عليها الدساتير والأنظمة الداخلية للجامعات، فنسبة المطرودين من الجامعة بسبب الاغتصاب لا تصل إلى 10%، والمفارقة الصارخة أن نسبة الشكاوى المهملة بحجة “الادعاء الكاذب” تتجاوز 90% من مجموع الشكاوى المقدمة إلى إدارة الجامعات.
أندية “الأخوة”.. وكر النفوس الضعيفة ومصدر التمويل
ثمة تواطؤ ظاهر بين المسؤولين والمُغتَصِبين، مردُّه تبادل المصالح غير المعلن، فالحفاظ على سمعة الجامعة يدفع مدراءها لتكذيب الشكاوى، ويشجع على الاغتصاب، ما دامت العقوبات شبه معدومة أو شكلية في أحسن الأحوال.
واقع كان يزيد آلام المغتصَبات وعوائلهن، ويكاد يلغي في نفس الوقت فرص الشباب المتعرضين للاغتصاب في تحقيق عادل في شكاواهم، بسبب التعقيد الشديد الصلة بموقف المجتمع الأمريكي من الشذوذ الجنسي، وفي كل الأحوال ظل هذا الجانب هامشيا في المتن الحكائي للفيديو.
كلما أوغل الفيلم في بحثه، أدركنا الجهد التقني المبذول فيه وبشكل خاص عملية المونتاج المحكمة، فقد اعتمدت كثيرا على المراوحة الزمنية بين الشهادات الحية للطالبات وبين العناصر المضافة إليها، مثل ارتباط الجامعات بنوادي “الأخوة” التي تضيف أرباحا كبيرة إلى خزائن الجامعات، ويبذل الوثائقي جهدا كبيرا في عرضها.
فالحانات الطلابية -من جهة- صارت جزءا من الدعم المالي المستخدم في الحملات الانتخابية لبعض الناخبين، مقابل تأمين دعمهم السياسي والاقتصادي عند وصولهم إلى مراكز القرار، ومن جهة ثانية أصبحت أوكارا لذوي النفوس الضعيفة، إذ يشتركون مع أمثالهم في استغلال حالات السُّكْر الشديد التي تجري فيها، للهجوم على الفتيات وتحطيم حياتهن بفعل همجي، وهن في شبه غيبوبة.
كليات الرياضة.. مؤامرة بين المشاهير وأباطرة الجامعات
سفرُ الآلام يسطره الوثائقي بكل تجلياته ليغني به لب موضوعه الجريء، ويوسع آفاقه لتصل إلى علاقة الرياضة والرياضيين بالاغتصاب وبمنافع المؤسسات الجامعية منهم، ويندهش المرء من عزيمة الوثائقي على الإلمام بتفاصيل موضوعه، حتى لو أدى إلى إطالة زمنه (104 دقيقة) وتعقيد دروبه، لأن النتيجة ستأتي في النهاية لصالحه.
وهذا ما نجح فيه حين جاء بسلسلة شهادات وأبحاث خرجت بنتيجة أن حالات الاغتصاب بين طلاب الكليات الرياضية الأمريكية التي تضم مشاهير اللاعبين -حتى قبل إكمال مدة دراستهم- غالبا ما تكون في صالح الجامعات، لسبب يحيله الوثائقي إلى الفوائد المالية الكبيرة التي يستفيد منها كبار مسؤولي الجامعات والأندية الرياضية. فمن الجامعة تنطلق الشهرة وتُبرم العقود، ويعود مردودها المالي من نسب الأرباح والعقود والإعلانات إلى خزائنها وإلى جيوب مديريها.
فالفيلم يوثق حالات عدة للاعبين اغتصبوا طالبات، ولكنهم خرجوا منها كأنهم لم يرتكبوا جرما، بل على العكس من ذلك، فقد واجه ضحاياهم كراهية وغضب مشجعيهم، مما دفع بعضهم للتحرك خارج كل المؤسسات وحتى أجهزة الشرطة، للاعتماد على أنفسهم.
تجاوز الصدمة.. اختبار الحياة الذي يسقط فيه بعض الضحايا
حرص المخرج “كيربي ديك” على تسجيل تطور هذه السلوكيات بصبر وحماسة تشبه حماسة الفتيات اللواتي قمن بتأسيس “شبكة عمل” على صفحات الإنترنت، جمعن فيها عددا ليس بالقليل من المغتصَبات، ونشرن شهادتهن بكل صدق، فكسبن دعم الكثير من الناس.
ترك الوثائقي أمر تطور مجريات عملهن يجري كما هو في الواقع؛ بطيء لكنه فعال، وركز في القسم الأخير من فيلمه أكثر على مراجعة الحالات التي تناولها أثناء غوره في أعماق القضية، فسجل بدقة الآثارَ النفسية التدميرية للضحايا ولعوائلهم، وصعوبة تكيفهم مجددا مع المجتمع، رغم إنهاء قسم كبير منهم دراسته، لكن البعض الآخر لم يتحمل الضغوط الهائلة عليه فقرر الانتحار، فما هدمه المغتصِبون لا يمكن للدهر إصلاحه.
نعم يمكن للضحايا العيش مع آلامهم طويلا، وقد تخفف بعض المبادرات الطيبة والأفعال الشجاعة أحزانهم، ويقينا سيكون فيلم “أرض الصيد” من بينها.