أفريقيا.. كما رآها “كابوتشينسكي”

حين سألها أحد الصحفيين بعد عرض فيلمها “أفريقيا كابوتشينسكي” لماذا تجاهلت تقريباً تجاربه المهمة الأخرى وكتاباته عن آسيا وأمريكا اللاتينية؟ أجابت المخرجة الفرنسية “أولغا برودهوم فارغيس”: “لأنه وفي كل مقابلاته، وآخرها التي أجريتها معه قبل وفاته بأشهر قليلة، كان يتحدث دائماً بإسهاب عن أفريقيا، أما إجاباته عن بقية المواضيع وتجاربه في مناطق أخرى من العالم فكانت مقتضبة وسريعة. كان يتحدث عن أفريقيا كعاشق لها وليس ككاتب ومراسل صحافي غطّى أكثر أحداثها درامية خلال نصف قرن تقريباً”.

هذا التوضيح الخارج عن الفيلم ربما يفسر سبب تركيزها على القارة الأفريقية كما رآها كابوتشينسكي وعاينها من منظور معرفي وفلسفي لا يخلو من “ازدواجية” ثقافية، لكنها مختلفة  تماماً عن تلك “الاستشراقية”. رؤيته لها كانت واعية متصالحة مع نفسها لا تلغي الآخر وهذا ما حاولت تثبيته “فارغيس” في مفتتح شريطها Kapuscinski’s Africa  حين قاربت مشهدين “متنافرين”؛ الأول تظهر فيه امرأة كانت تقوم بإزاحة طبقات ثلج متراكمة فوق قبر بسيط توسّط مقبرة واسعة، وبين لقطة ثانية يظهر فيها رجل بملامح أوروبية يمشي على رمال ناعمة وقرص الشمس الحارقة فوق رأسه. بروز الاسم المحفور على الشاهدة الرخامية بعد ثوانٍ قصيرة؛ (ريزارد كابوتشينسكي 1932 ـ 2007) يزيح بعض الالتباس والتنافر لكنه يُثَبت بدوره سؤالاً فضولياً عما سيقدِّمه لنا وثائقيها ويضيفه إلى رجل كرّس كل حياته تقريباً للقارة وربما كتب عنها أكثر من أي شخص آخر من خارجها.

يبدو أن الوثائقي الفرنسي كان يدرك حقيقة التحدي الكبير الذي يواجهه وقد استعد له بما يستحق من أدوات، تُعزِّز من قوة بنائه وتحيله إلى شريط يعتمد الصورة لغة، يميز نفسه بها عن بقية الأدوات التي برع فيها بطله: الكتابة. فاجأنا بوثائق مصورة وأشرطة فيديو كانت بحوزة الكاتب والمراسل الصحفي لم تُنشر من قبل إلى جانب اعتماد مخرجته على شريطين كتب نصيهما بنفسه للسينما؛ “الأبنوس” و”80 يوماً عن لومومبا” للمخرج تاديوز يافورسكي وعلى مقابلتها الطويلة معه والتي استغرقت أكثر من ثماني ساعات، كانت كافية للتأسيس عليها سردياً.
على ذخيرتها الغنية وعلى كل ما تملك من مهارة إخراجية وقدرة رائعة على السرد حاولت “فارغيس” استثمارها لجعل شريطها يجري انسيابياً في كتابة “السيرة الذاتية” ولكي يحافظ في الوقت نفسه على فرادته في توثيق تاريخ رجل نادر، شديد التواضع، يستحق بجدارة الاحتفاء به سينمائياً، وبهذا المعنى فشريط “أفريقيا كابوتشينسكي” تكريماً وتعويضاً عن إهمال وطنه له و”نكاية” بتجاهل جائزة نوبل للآداب أهمية منجزه، بعد عدة مرات متتالية رُشح فيها لنيلها.

مع عمقها وغناها يصف تجربته الأفريقية بالناقصة! فالجغرافيا التي نطلق عليها اسم أفريقيا بالنسبة إليه أكبر من قارة هي كوكب واسع لما فيها من حضارات وثقافات وتنوع جغرافي ومعارف وشعوب وتجارب سياسية نختصرها نحن للسهولة بكلمة: أفريقيا.
بالنسبة إليه هذا العالم لا يمكن لأحد أن يفهمه دون الاقتراب من دواخله، ولهذا قرر منذ البداية أن “يضيع” في جغرافيته ويندمج بشعوبه ويتعرف عليه بنفسه وخارج نطاق وظيفته كمراسل لوكالة أنباء أوروبية لا يهمها سوى نقل أهم الأحداث التي تقع فيها بأقل عدد من الكلمات. أبهره نورها والشمس الساطعة فوقها فقرر العيش فيها بعيداً عن كآبة أوروبا وبرودتها الشديدة والأهم بالنسبة إليه استغلال وجوده هناك لقراءة حاضرها عبر المعاينة والمعايشة والكتابة بطريقة مختلفة عن تلك التي كانت المؤسسات السياسية والأكاديمية الغربية تشجعها.

دوافعه وراء ذلك؛ كراهيته العميقة لكل أشكال السيطرة والاحتلال، التي أحسّ بمرارتها عبر معاناة شعبه منها منذ الغزو الروسي والاحتلال الألماني. لربط أفكاره ونقل تجربته الشخصية بصرياً لجأت صاحبة الوثائقي إلى أسلوب التنقُّل بين المقابلة المصورّة سينمائياً وبين التسجيلات الوثائقية الجاهزة، التي توحي وعلى طول زمن الشريط لمشاهدها بأنها جاءت عقب كلامه، فأزاحت بذلك حاجز”الانقطاع الزمني”؛ بين الحديث (الحاضر) وبين الأحداث التي يتناولها (الماضي).

على المستوى المهني تزامن وصول المراسل الصحفي مع ظهور حركات التحرُّر الوطني الأفريقية أواخر خمسينيات القرن الماضي وبسببها. فبولندا كانت تدور ضمن الفلك الاشتراكي الذي دعم تلك الحركات وأراد الترويج لها إعلامياً فكلف بعض الصحفيين بالذهاب إلى تلك المناطق وتغطية أخبار نجاحات ثوراتها التحررية. المفارقة البارزة في هذا التوجه هو شُحّ نفقاته. كانوا يجبرون الصحفي على تقليل مصروفاته إلى أقصى حد ممكن لدرجة أنهم كانوا يحددون له عدد كلمات الخبر الذي يريد إرساله إلى وكالته أو صحيفته عبر جهاز “التيكرز” تقليلاً للتكاليف.

هذا الوضع دفعه للعمل على مستويين: الأول مهني يراعي فيه شروط مؤسسته الصحفية ومقتضيات الكتابة الخبرية، لكنه على مستوى آخر سيسجل لنفسه انطباعاته ومشاهداته بحرية وبلا قيود. لقد جمع مادة غنية سيحولها فيما بعد إلى كتب وأعمال أدبية تحكي عن القارة التي غطّى أحداثها وقابل أهم الشخصيات المؤثرة فيها من زاوية أدبية لم تخلُ من الروح الصحفية وموثقّة دوماً بالصورة الفوتوغرافية.
قابل وكتب عن القائد السياسي كوامي نكروما ووجد فيه رجلاً مستقبلياً قادراً على إنجاز مرحلة التحرُّر وتوحيد القارة الأفريقية بما يتمتع به من كاريزما وطموح ورغبة صادقة في تطوير قارته. تأثر كابوتشينسكي بروحه المتحمسة للوحدة واعتبر الدعوة إليها ثورة وتمنى في قرارة نفسه أن تحدث واحدة مثلها في أوروبا بعد أن تتخلص بلاده وغيرها من الهيمنة الخارجية.

عن هذا التأثير وعودته إلى وارسو مشاركاً في الحركة الطلابية الصاعدة يقدم الوثائقي معطيات مدهشة كُتبت بالصور النادرة والتسجيلات الشخصية التي تُكتشف لأول مرة، وبذلك يضيف الشريط صفحات جديدة إلى التاريخ البصري للشعب البولندي  ولتُلقي بدورها ضوءاً على التحولات الفكرية عند أحد أبنائها التواقين لانعتاقها.
يعاين المراسل الصحفي تجارب حركة التحرر ويقوم بعملية تقويم عامة، لسلبياتها وإيجابياتها دون نسيان العوامل الخارجية المؤثرة فيها. فالفوضى التي عمّت الكونغو بعد أيام على نيل استقلالها كانت نتيجة التحرك المخابراتي البلجيكي الذي لم يرغب بترك البلاد نهائياً دون أن يفتح لنفسه أبوابا أخرى يستطيع العودة منها.

يؤكد بحكم تجربته قوة تأثير الحرب الباردة على القارة الأفريقية ووقوعها تحت ضغط العملاقين: الروسي والأمريكي. يقدم تجربة القائد باتريس لومومبا مثالاً. والذي تمت تصفيته بخطة دبرتها المخابرات الغربية خوفاً من انتشار أفكاره وعزيمته على التخلُّص من بقايا الاستعمار وبناء دول مستقلة اقتصادياً وقادرة على مواكبة التطور العلمي. كان قائداً حداثياً.. هكذا وصفه كابوتشينسكي، وعن مقتله كتب سيناريو الوثائقي المدهش “80 يوماً عن لومومبا”. قام أيضاً بمراجعة انطباعاته وأحكامه الخاصة بالأشخاص والدول.
ففي الوقت الذي مثّل له “هيلا سيلاسي” مثالاً أفريقياً نادراً يجمع بين الموروث التاريخي “المسيحي” وبين النزعة الحداثوية في مرحلة معينة، وجده بعد سنوات منقلباً على كل ما كان يدّعيه مستغلاً بشراهة امتيازات “الإمبراطورية الحبشية” التي شيدها بدماء الفقراء.

سيسخر منه لاحقاً في كتابه “القيصر” الذي صدر أواسط الثمانينيات وقُدم كعمل مسرحي على مسارح لندن. يتوقف الكاتب المتأمل طويلاً في تاريخ القارة وموروثها الحضاري عند منعطفاتها الحادة، فيجد فيها على الدوام ساحة مفتوحة لتصادم طبيعتها مع سكانها. فمن المجاعات كانت تنبثق حضارات ومن الموجات البشرية الهاربة من الفيضانات والأوبئة تكونّت لغات ولهجات ظل انتشارها بين الشعوب لغزاً يحير الدارسين لتطور الإنسان وثقافته.
اهتم بتاريخ لغاتها وبتداخل جغرافيتها وكرّس وقته لكتابة دراسات عنها صارت لأهميتها فيما بعد مرجعاً للباحثين في القارة الأفريقية، كما ساهم كتابه “رحلة مع هيرودوت” في التنبيه إلى أهمية وعظمة المؤرِّخ اليوناني صاحب كتاب “التاريخ” الذي أخذه معه في كل أسفاره، رغم أنه كان محظوراً على الناس في بلاده.

عنه كتب “رحلة مع هيرودوت” عام 2006. لم يكتفِ بالمشاهد الخارجية والانطباعات السريعة بل مال في كتاباته إلى التفسير والتحليل ولهذا فما كتبه عن أفريقيا يعتبر أقرب إلى البحث الأنثربولوجي منه إلى الكتابة الأدبية وهذا ما ثبتّه الوثائقي بذكاء.
أثرّت الانقلابات السياسية في حركة التحرُّر الوطني وما بعدها على “كابوتشينسكي” كثيراً ونقلت عمله إلى مستويات فكرية جديدة توقف الوثائقي عندها كثيراً. سمى الشريط تأملاته بـ “تحليل الفساد” التى وصلت إلى درجة من العمق والشمول بحيث يمكن إسقاطها على تجارب سياسية حديثة.

المخرجة أولغا فارغيس

من وصول “عيدي أمين” إلى السلطة في أوغندا انطلق في تحليل السياسة الاستعمارية الجديدة وآلياتها: يبدأون أول الأمر البحث عن أسوأ العناصر وأقلّها ثقافة في المؤسسة العسكرية الوطنية.
يجندونهم ويدربونهم على تنفيذ انقلاب عسكري يوصلهم إلى الحكم بعدها يطلقون لهم العنان ليمارسوا ما يحلو لهم. يتركون المُفسَد ينهب ويسحق ويقمع بهمجية إلى درجة يتمنى الناس فيها عودة المستعمر ثانية ليخلصهم من “الشرّ الوطني” الذي حل لعنة عليهم.
اختيار الفساد كوسيلة سياسية متعمدة أرجعت القارة عقوداً إلى الوراء ورغم فهمه لها إلا أنه تأثر كثيراً بنتائجها الوخيمة فقرر تركها فترة من الزمن، راح يغطي أحداثاً في آسيا وأمريكا اللاتينية.

عن وجوده في بعض بلدانها كتب مؤلفات قيّمة من بينها “شاهنشاه إيران” عام 1986 و”حرب الكرة” صدر سنة 1998عن الحرب بين الهندوراس والسلفادور، لكنه لم يصمد طويلاً فعاد إلى أفريقيا ثانية ليُسجِّل مراحل طويلة من صراعاتها السياسية التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي حتى بداية الألفية الجديدة.
في الفصل الخارج عن أفريقيا ورغم قصره نجد أنفسنا أمام عمل وثائقي ممتع يجمع الرسوم المتحركة بالتخطيطات الرشيقة التي تضفي جواً “شرقياً” في آسيا ومناخاً غرائبياً في أمريكا اللاتينية وينبهنا إلى الفوارق الواضحة بين الذاكرتين البصريتين.

ففي الأولى شحيح فيما يزداد ويغتني في الجهة الثانية من الكرة الأرضية وهذا يدعونا للتفكير في قلة ما يتوفر في القسم الآسيوي من أرشيف بصري. في النهاية سيرة الكاتب والمراسل الصحفي البارع سُجلت كلها بأسلوب سينمائي بارع اعتمد كثيراً على اللغة التعبيرية المضافة.
كان يضيف بين فواصله مقاطع من أفلام عن الحياة البرية وصراع الكائنات فيها ليمهد عبرها الدخول إلى عوالم “كابوتشينسكي” وينقل رؤاه للقارة الأفريقية التي أحبّها بلغة سينمائية شديدة الحساسية والحلاوة.


إعلان