“نيوتاون”.. مجزرة مدرسية في أرض سائبة باسم القانون

الحديث بإعجاب كبير عن فيلم “نيوتاون” (Newtown) الذي أخرجته “كيم سنايدر” منذ عرضه في مهرجان صندانس السينمائي، له مبرراته وكل من سيشاهده سيخرج ربما بنفس الانطباعات الإيجابية عنه، ذلك أنه فيلم مختلف، لا يشبه أغلبية تلك الوثائقيات التي تناولت أحداثا دراماتيكية جرت في الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد.
وذلك لذهاب الفيلم إلى أعماق شخصياته، بدلا من الاكتفاء بتسجيل الحدث وملاحقته، وعبرها راح يفكّك طبيعة المجتمع الأمريكي، مستندا إلى قوة فعل البوح والأحاسيس الشخصية لمرحلة ما بعد “الصدمة”، وإلى عزلة الإنسان الأمريكي وعدم مبالاة المؤسسات السياسية إزاءه، خاصة في اللحظة التي يكون فيها بأمسّ الحاجة إلى التضامن معه.
وتأسيسا على ذلك يمكن تفسير بروز معارضة ومناهضة ذات طابع فردي للقوانين السارية الخالية من الإنسانية، التي ما زالت سببا في قتل المواطن الأمريكي، كما في حالة مجزرة مدرسة “ساندي هاوك” الابتدائية في مدينة “نيوتاون” الصغيرة.
اعتبرت هذه الجريمة الأبشع من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، لكون معظم ضحاياها من الأطفال، والأرجح أن ذلك ما شجع المخرجة على البقاء قرابة ثلاث سنوات تسجل فيها، وتستمع إلى الصوت الهامس الداخلي في أعماق نفوس أهالي الضحايا والناجين، وتثبت بكاميراتها خوفهم من المكان المسكون بالوحوش الآدمية التي ما ظنوا وجودها بينهم، فكانت صدمتهم بها بين ظهرانيهم قاسية.

مدينة نيوتاون.. مكان مسالم يلتحق بركب المدن العنيفة
سيدرك مُشاهد الفيلم سبب تكرار كلمة “الصدمة” على لسان من وقفوا أمام كاميرته، وسبب شعورهم العالي بالخديعة إزاء مواقف السياسيين من تشريع بيع السلاح وامتلاكه، بينما يستطيعون الحد من انتشاره لو غلَّبوا ضمائرهم على مصالحهم.
فبآلات الموت المجازة قُتل أطفالهم، وبها دمرت حياتهم، وما عادت مدينتهم نيوتاون مكانا مسالما هادئا كما ظنوا، بل هي في حقيقتها مدينة تشبه بقية المدن الأمريكية، يسكن العنف تحت سطحها، وفي أي لحظة من الزمن يمكن أن يخرج منه وحش بشري، ويرتكب جرائم وفظاعات.
وقد سعى الوثائقي إلى تقديم آثار تلك الجرائم النفسية، وميَّز نفسه من الناحية الأسلوبية والمعالجة عن الأسلوب الهوليودي السائد، وحتى عن بعض الأفلام المستقلة، لكونه راهن على الأعماق، تاركا الظاهر للسينما التجارية ولوسائل الإعلام.
كما أنه أيضا ترك الموقف من موضوع السلاح والعنف الاجتماعي المنتشر في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الضمائر الحية، فربما ترى في الفيلم ما لم تره من قبل، وستترك في أغلب الظن حواراته أثرا عميقا فيها، مع أن صانعته حرصت على الميل أكثر إلى ما يدعو منها للتأمل، لا إلى الانفعال السريع المحتمل زواله بسرعة.

تغميض العيون.. محاولة إخفاء الجريمة عن زملاء المدرسة
مفتتح يوميات ما بعد مجزرة مدرسة “ساندي هوك” الابتدائية ينطلق من لحظة حدوثها وصدمة الشرطة ورجال الإطفاء بها، ومن الذهول الذي ساد داخل المدرسة، وحرص معلميها على منع بقية التلاميذ من رؤية ما جرى لزملائهم، وكيف مزق الرصاص أجسادهم الصغيرة وفتتها.
إغلاق العيون عن الحقائق أولى التعابير التي حرص الوثائقي على تحليلها، قبل وصوله إلى نقاط أعمق مثل فكرة الموت والغياب، وقبل كل شيء أيضا لا بد من تثبيت انطباع استنتاجي حول الجانب الفلسفي في نيوتاون، واعتماد منهج بحثه السينمائي بدرجات كبيرة على فلسفة الفرد، وجزء منه على التحليل النفسي.
شهادات الناجين من المجزرة أو من كان قريبا منها، مثل الجيران ورجال الشرطة؛ تؤكد رؤيتهم لما جرى، وتثبت حقيقة أن الأطفال مثلهم قد شاهدوا كثيرا من تفاصيلها، وبالتالي فمحاولة إغلاق العيون عنها لن تجدي نفعا.
يوسع الوثائقي بحثه في فكرة التغاضي البائسة، حين يقترب من الطلاب الناجين بعد ثلاث سنوات، ويعرف منهم حقيقة اكتشافهم لمدينتهم وكرههم لها، ليس بسبب ما جرى فيها فحسب، بل لأنهم ظلوا سنوات وحتى وقت قريب سبق الحدث عميانا.
بيوت المدينة المنكوبة.. ضحايا لن يغفروا للقاتل ولا المشرّع
يتشارك الجميع تقريبا في فكرة أن مدينتهم مثل بقية مدن أمريكا، سَكينتها كاذبة، وسلامها غير دائم، فما دام السلاح موجودا ويُباع بطرق شرعية في الأسواق كما تباع بقية البضائع، فإن احتمال استخدامه ضد البشر في أي لحظة ممكنا.

يصور الوثائقي بطريقة مذهلة وبمعونة الحاسوب مشهدا تمر فيه الكاميرا على بيوت شارع في المدينة الصغيرة، فيظهر اسم سكان كل بيت فيه على الشاشة، دون ذكر اسم القاتل. مشهد يقول إنه في كل بيت يحتمل وجود شخص يفكر بالخروج منه الآن، ويطلق النار على الناس، ويقتلهم كما قتل “آدم لانزا” عشرين طفلا وستة معلمين خلال دقائق قليلة بدم بارد.
قبل بلورة موقف واعٍ شبه جماعي من السلاح وترخيص بيعه يتوقف الوثائقي عند فكرة التسامح، وهل يقدر من خسر ولده العفو عن قاتله؟ الجواب سيكون واضحا: لا لن يغفروا، لا للجلاد، ولا حتى لوالدته التي ساعدته على اقتناء السلاح والتدرب عليه في منزلها، لن يغفروا للساسة والمنتفعين بتجارة بيع السلاح موقفهم، حتى وإن لم يفلحوا في تغييره.
وفرة السلاح.. وحش سفاح يعجز الجميع عن إيقافه
سرعان ما يعود إلى الذاتي الداخلي المهتم به أكثر من غيره من الجوانب، ولكن لقوة ارتباط موضوع السلاح به يقبل بتسجيل وقائع التحرك الشعبي في المدينة وموقف أحزاب وشخصيات مهمة لم تفلح في الحد من تجارة السلاح.