“لا مكان للاختباء”.. أين المفر من الوجع العراقي المستمر؟

يمكن اعتبار فيلم المخرج الكردي المقيم في النرويج زرادشت أحمد “لا مكان للاختباء”، من بين أفضل الأفلام التي تناولت الواقع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي على الإطلاق. ولم يكن فوزه بجائزة أفضل وثائقي طويل في مهرجان “إدفا” الهولندي سوى مؤشر مهم على قوة صنعته وعلى وصوله بكامل بهائه إلى متلق خارج دائرة الهم العراقي المباشر خوطب بلغة سينمائية مرهفة وعالية ومتراصة جعلت من الفيلم تحفة بصرية.. صحيح أنها مؤلمة، لكنها تعكس واقعاً لطالما تمنّينا أن ينقله معايشوه ويسردون من خلاله حيواتهم وتجاربهم ليكونوا هم الذات المنعكسة على الشاشة وهم نواتها.

نوري شريف.. عندما يصبح بطل القصة مخرجها

وحين يلعب “القدر” السينمائي لعبته فيحول بطله إلى سارد الحكاية ومصور الواقع الذي تتحرك فيه، فعندها تتجلى الفرادة ويهيمن الصدق على نص كُتب بعفوية لافتة تتمنى حقا وأنت تقرأه أن يشاهده العالم كله وبخاصة العراقيين، فهو عن آلامهم وأوجاعهم جراء حرب مشوشة لا تتيح للضحية فهم أسباب تدميره أو موته فيها، حرب فيها من الغرابة أكثر من الفظاعة، فيغدو حينها أسى الضحية أشد، وحيرته مدعاة للتأمل وطرح الأسئلة الملتاعة.

يصْدم فيلم “لا مكان للاختباء” المُشاهد في أول مَشهد له حين يظهر فيه رجل عراقي يرتدي الزي التقليدي (دشداشة) يسير وسط أراض مقفرة صحراوية والعَرق يتصبب منه لشدة حرارة الجو. وبينما تقترب الكاميرا لنقل ملامح وجهه والحيرة التي تنطق بها عيناه، فجأة يُجمد المخرج الصورة ليعود بنا إلى الوراء، إلى اللحظة التي أعلنت فيها الولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتها من العراق.

سنُصدم ونحن في عام 2011 بصورة الرجل وهو منهمك بأداء عمله داخل سيارة إسعاف وكله حماسة. لقد تَغيّر كثيراً وهرِم خلال خمس سنوات سجّل فيها بنفسه حياته وكل ما أحاطها بكاميرا ديجيتال صغيرة، أعطاها له المخرج وطلب منه وقتها تسجيل كل ما يجري حوله. ودون أن يدرك تحول الممرض الطبي “نوري شريف” في مستشفى “جلولاء” إلى موضوع وشاهد في آن.

مثلث الموت.. حاجز صمت تكسره الكاميرا

انتقالة ذكية شديدة الإيجاز أذابت الزمن المتجمد وحرّكته بواسطة رجل وقع في حب الكاميرا، وهذا الحب هو ما أعطى للفيلم مصداقية شديدة وشحنَه بالمشاعر الإنسانية.

بهذا المعنى؛ الفيلم من صنع بطله، بيديه وثّق لسنوات تفاصيل منطقة جغرافية سميت “مثلث الموت” أحاطتها الأسرار وتضاربت حولها الروايات وظلت تحمل في طياتها بُعداً طائفياً. ومع كل تعقيداتها واحتمال اختلاط المواقف والآراء حولها، لم يتقدم أحد لتوثيقها.

وبالتالي فمنجز “زرادشت” و”نوري” يحمل بُعداً استقصائياً، أبعد كثيراً من محاولة تسجيل حياة منطقة معارضة للوجود الأجنبي التصقت بأهلها صفة “الإرهاب”، فهو يقترب من الأفلام السجالية التي تطرح أسئلة عن غموض التسميات والأحكام العامة القادرة على تدمير حياة الناس وكل ما يحيط بهم بسببها.

ولعل سؤال الممرض الأول لعدسة معشوقته الجديدة؛ الكاميرا، يوجز بعضاً من ذلك الالتباس: هل نحن حقاً إرهابيون؟

وحده سلوك الممرض يكفي لنفي التهمة المطلقة. فنوري مثال الرجل السوي المتسامح الخدوم، القادر على الفصل بين عمله وحياته الخاصة، يتفانى في سبيل المرضى بوقته وجهده، وعلاقته بالعاملين والناس طيبة حيث يخفف من معاناتهم بتعاطف، ولا يتردد في تقديم العون لمحتاجيه. باختصار فيه كل خصال الرجل الطيب بالمعنى الدقيق للكلمة.

والجزء الثاني من حياته يعزز التوصيف. فهو في المنزل الزوج المحب، والراعي المثالي لأربعة أطفال، فكل ما يملكه يوفرّه لهم، وعلاقته بأطفاله نادرة في بلد يمرّ بظروف صعبة جدا، وقساوة العمل وما يشاهده من مناظر مؤلمة فيه لا يعكسها على أولاده، فتراهم -الفتيات قبل الفتيان- يعبرون عن مشاعرهم بحرية ويتحركون بوجوده دون خوف.

صورة مبهجة لأب عراقي متوازن السلوك. فهل من المنطق أن يُحكم على هذه الشخصية من خارج “مثلث الموت” بأنها إرهابية؟!

واقع مرير.. “إذا كانت هذه إصابتك الأولى فأنت لست عراقيا”!

مشكلة نوري الوحيدة أنه مثل بقية الشعب العراقي لا يعرف لماذا يحدث كل هذا الخراب والموت. تفاصيل الواقع وتمزقاته يلتمسها في كل دقيقة، لكنه يجهل دلالاتها ودوافعها. وقد عَبّر عنها مرة لجريح جاء إلى المستشفى.

سأله مجاملاً: هل هذه إصابتك الأولى؟ إذا كانت الأولى فأنت لست عراقيا!

حلاوة لسانه، مع دموية المشهد العام، أضفت على تسجيلاته المصورة بُعداً شعريا وفلسفيا كانت تتوقف كلها عند سؤال ملتاع: إلى متى تستمر هذه الحرب الأهلية ولماذا يَقتل العراقيون بعضهم بعضا؟

لم يُقدّم نفسه على أنه سني ولا شيعي ولا كردي، كان نوري عراقيا بامتياز، وظيفته ساعدته على معاملة المرضى والمصابين بمساواة. وما حبه للمستشفى سوى تعبير مكثف عن حبه لدوره في تقديم مساعدة يحب هو تقديمها دون تردد. رسم نوري شخصيته بنفسه دون تدخل سينمائي، هو من كتبها، ودون أن يدري كتب مراحل تدميرها!

تعددت الطوائف.. والموت واحد

لا يفصل فيلم “لا مكان للاختباء” الظرف الشخصي عن العام، وحتى لو أراد ففي حالة الممرض المشغول ليل نهار بنتاجات الخارج الكارثية، ما على صانعه سوى الجمع بينهما.

قبل خروج الأمريكان جرى فرز طائفي أخذ أبعاداً سياسية وجغرافية وضعت المناطق الوسطى من العراق في صف المعارضين للوجود الأجنبي وحتى التغيير الداخلي المرافق له.

لم يعتنِ الوثائقي بالبحث عن المصيب أو المخطئ في موقفه، بل بحث في النتيجة النهائية للصراع: موت وقتل منفلت، ودخول أطراف كثيرة على الساحة الواحدة. فمدينة جلولاء مثلاً يقطنها السنة العرب والأكراد، وفي مرحلة متأخرة دخل “تنظيم الدولة الإسلامية” عليها فاختلط الحابل بالنابل.

لا أحد يعرف مَن يقتل مَن، ولماذا. وإذا كنت اليوم في منطقة “آمنة” بسبب حماية ما، فغداً قد تجد نفسك خارجها يهددك الموت من طرف لم تحسب أنه عدوك.

مع كل ذلك صبر نوري وظل يعمل في المستشفى. وحتى خارجه ظل يقابل أصدقاء أصابتهم مفخخات وراجمات وظلوا بحاجة إلى رعاية ومشورة.

علاقته مع الأكراد وبقية المكونات طيبة يسودها احترام متبادل، ويفهم الطرف الثاني دوافع رجل كل ما يحركه هو الطيبة المتأصلة فيه وحب الآخرين. كل القصص الجانبية كانت تصب في خدمة بناء شخصيته. في الوقت نفسه كان تصعيد الصراع والاقتتال الداخلي يقرب النار من بيته.

رحلة لن تتوقف.. هروب من الوطن نحو الوطن

بعد اجتياح تنظيم الدولة لنينوى وبعض المناطق الأخرى ودخوله في مجابهات مباشرة مع الأكراد، شعر الرجل بمسؤوليته فقرر الخروج من بيته إلى قرية قريبة. وكعادة الحروب الأهلية سرعان ما تصل نيرانها إلى كل مكان، فكان عليه أن يرحل ثانية وثالثة. لقد صار نوري وعائلته مهاجراً في وطنه.

وبشكل ما، يسلط الوثائقي على جانب مسكوت عنه من التراجيديا العراقية؛ الهجرة الداخلية. ففي ظروف يأخذ الصراع الطائفي عنواناً لها؛ يصعب على المرء التزام الحياد، ويصعب حتى تصديق من يدّعيه. ومع هذا ظل نوري محايداً وصار أيضاً ضحية، لم يعد كما في السابق الشاهد والمعين للمحترقين بنارها. وقد سجل حياة التشرد مع أطفاله بروح مسؤولة قل نظيرها عراقيا على الأقل.

العيش في الأوحال وتحت رحمة الطبيعة القاسية وانعدام أدنى شروط العيش؛ قدمها الفيلم بجلال لا يضاهى. فكل لقطة فيها مصداقية وقوة، وكل فصل صغير من حكاية الممرض يمكن توسيعها لتكون فيلماً منفصلاً، وكثافته لم تُضعف منطقه السينمائي الواسع المتماسك، فالرجل/المصور لم يبخل على الكاميرا بالوقت ولا بالتعليق، وكأنه خُلق لها.

لن تصدق وأنت تشاهد بعض اللقطات أن مصورها إنسان عادي، فقد أعطت شجاعته الفيلم قوة نادرة فسجل كل شيء حتى التفجيرات، وغاص عميقاً ليجسد معاناة وأحاسيس العراقيين المكتوين بنار الحرب.

فليس مصادفة أن يفوز الفيلم بعديد الجوائز مع أنه ليس احترافيا بالمعنى التقني الضيق، لكنه إنساني يحكي بالصورة تفاصيل حيوات عاشت في مثلث الموت. عرفته جيداً ونقلت للعالم من داخله فصلاً مؤلماً من فصوله.

مشهده الأخير وهو يهيم في الصحراء بحثا عن وقود أو حطب يدفئ أجساد أفراد عائلته المشردة، يقول فيه الكثير ويفسر لماذا تغير حال “نوري شريف” كثيرا خلال أعوام قصيرة، وهو ما يحيلنا لنتصور أن أكثر من ضعف ذلك الزمن عاشه أهل العراق منذ احتلال الأمريكان أرضهم، وما زالوا يعيشونه في اقتتال وخراب وموت متعدد الأشكال لا مكان آمنا لتجنبه والاختباء بعيداً عنه.

صار معايشة الموت والتشبث بالحياة واجباً عليهم، وإيجاد أسباب العيش حتى لو كان وسط الصحراء تحت شمس حارقة، حيث تركنا الممرض الطيب وحيدا.


إعلان