“اصطياد أشباح”.. سجناء يستعيدون أحداث السجون الإسرائيلية في عالم موازٍ

فيلمان وثائقيان عربيان يستعيدان بأسلوبية إعادة تمثيل الواقع محن الحبس لسجناء سياسيين عرب. الأول هو فيلم “تدمر” للمخرج اللبناني لقمان سليم والألمانية “مونيكا بورغمان”، وهو يفتح ملف السجناء اللبنانيين في السجون السورية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
أما الآخر فهو “اصطياد أشباح” للمخرج الفلسطيني رائد أنضوني، ويدور حول السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وقد عُرض ضمن برنامج “بانوراما” في مهرجان برلين السينمائي، وفاز بجائزة “غلاسهوتة” لأفضل فيلم وثائقي في المهرجان، وحلَّ في المرتبة الثالثة في جوائز الجمهور ضمن البرنامج السينمائي الذي عُرض فيه.
ذكريات السجن.. سجناء حقيقيون يعيدون رسم الماضي
يشترك الفيلمان في استعانتهما بسجناء حقيقيين لإعادة تجسيد يوميات السجون، ففيلم “تدمر” يعود مع سجناء لبنانيين من السجن السوري الشهير إلى سنوات حبسهم، وينتقي ذكريات مروعة عن وحشية ذلك السجن وقسوة سجانيه.
وكذا الحال في فيلم “اصطياد أشباح” الذي يجمع سجناء سابقين من سجون إسرائيلية مختلفة، ويجعلهم يروون نتفاً من تجارب السجن، لتعبر بشكل عام عن المعاملة التي يتلقاها العرب في السجون الإسرائيلية.

وقد اختار الفيلمان التصوير في أماكن مهجورة أو معزولة، فكانت مدرسة متروكة في لبنان هي الموقع الذي صُوِّر فيه فيلم “تدمر”، وقبو إحدى البنايات الفلسطينية هو المكان الذي يشيد فيه المخرج أنضوني عالم السجن، ويطارد فيه أشباحه، ولن يفارق الفيلم عتمة ذلك القبو على طوال زمنه.
رجال السجون.. كواليس التجربة واستعادة الألم
يسجل فيلم “اصطياد أشباح” بدايات التجربة الفيلمية والنفسية الجريئة، ويتواصل إلى أن تبلغ تلك التجربة آفاقا ناضجة شديدة الغنى والكشف، بينما يمنح الوقت الطويل للفيلم (94 دقيقة) الفرصة لتجارب الشخصيات بالتراكم، ولتكمل بتفصيليتها صورة رصينة عن كابوس السجن، وتداعياته المتواصلة على السجناء السابقين.

يبدأ الفيلم من مشاهد اختيارات الممثلين في الفيلم، وقد قضى معظمهم عقوبات في السجون الإسرائيلية، وسيساعد سجناء سابقون المخرجَ في رسم معالم الزنزانات التي أعاد الفيلم بناء بعضها فعليّاً داخل قبو البناية. كما سيعيد الفيلم تمثيل مواقف مهمة حصلت لسجناء، وسيتطور بعضها إلى تصادمات وعنف غير متوقعين.
يسجل النصف الأول من الفيلم كواليس التجربة النفسية/ السينمائية التي بدأها، ثم يتجه الفيلم في نصفه الآخر إلى استعادة الألم الذاتي لشخصياته والتركيز على قصص فردية، بعضها شديد التأثير لسجناء سابقين قضوا سنوات شبابهم داخل زنزانات صغيرة عفنة.
شخصية المخرج.. مدير التجربة ومحرك الأحداث
يربط المخرج نفسه بين نصفي الفيلم، ليشكل إحدى شخصيات الفيلم المهمة، كما كان عليه أن يديم سير التجربة على الأرض، ويمنعها من السقوط في العاطفية أو الابتذال أو المبالغة. في حين ساعدت التقاطعات بين الشخصيات والمخرج، وتساؤلات الشخصيات عن جدوى التجربة برمتها، أو ردود أفعالهم على ما أخذته التجربة من انعطافات، وما فتحت من جروح ما تزال مؤلمة؛ في ترسيخ الهوية الإشكاليّة للعمل الوثائقي، وأهمية العالم الموازي الذي أعاد خلقه، للوصول إلى لحظات الفيلم الأشد كشفا.

يربط بين نصفي الفيلم المخرج نفسه، والذي شكل إحدى شخصيات الفيلم المهمة، كما كان عليه أن يديم سير التجربة على الأرض، ويمنعها من السقوط في العاطفية أو الابتذال أو المبالغة. في حين ساعدت التقاطعات بين الشخصيات والمخرج، وتساؤلات الشخصيات عن جدوى التجربة برمتها، أو ردود أفعالهم على ما أخذته التجربة من انعطافات، وفتحت أحياناً جروحاً مازالت مؤلمة، في ترسيخ الهوية الإشكاليّة للعمل التسجيلي وأهمية العالم الموازي الذي أعاد خلقه للوصول إلى لحظات الفيلم الأشد كشفاً.

لم يزل المخرج يبحث عن مداخل للوصول إلى شخصياته ونيل ثقتها، وهو يبدأ ذلك في بدايات التجربة، عندما كان يشيد مع شخصياته عالم السجن بألواح من خشب، ويتواصل في مسعاه ذاك إلى نهاية زمن التجربة.
وقد منحت التحضيراتُ للفيلم السجناءَ السابقين حريةً، لاستعادة تجارب السجن، دون ضغوطات الزمن المحدود والحديث المباشر المتطلب للكاميرا، ووفرت الحركةُ ضمن قبو البناية ومن بعده ديكور السجن، الفضاءَ للشخصيات لتجد إيقاعها الخاص غير المتكلف أمام الكاميرا.
كما كان تفاعلُ الشخصيات مع عمليات البناء التي كانت تجري أمامهم وشاركوا بها أحيانا، بوتقةً ستخرج منها مشاهد مهمة، مثل ذلك الذي يُظهر سجينا سابقا داخل زنزانة لم يكتمل بناؤها بعد، ويبين المساحة الصغيرة للغاية ولحدود الاختناق، في تلك الغرفة التي قضى فيها ذلك السجين سنوات عدة.
بناء السجن.. رحلة إلى قلب كوابيس الماضي الأليم
بعد أن يكتمل بناء السجن، يأخذ الفيلم انعطافا أكثر قتامة، ويذهب مع شخصياته من السجناء السابقين إلى قلب الكابوس الذي مثله الاعتقال والتعذيب في السجون الإسرائيلية.
تأخذ مشاهد تمثيل التعذيب الجسدي حصة كبيرة من هذا الجزء، منها واحد متقن عن تهديد محقق إسرائيلي لسجين فلسطيني بالاغتصاب الذي ينتظره إذا لم يتعاون، لكنه سيترك آثاره على الفلسطيني الذي مثّل الدور، فقد كشف لرفاقه في اليوم التالي عن أنه عجز عن النوم بسبب الأثر النفسي الذي تركه تمثيل ذلك المشهد.

وهناك المشهد المقزز الآخر الذي يُظهر جلسة تعذيب طويلة لفلسطيني حُرِم من قضاء حاجته لينتهي به الأمر وهو يتبول في سرواله، وليجبر بعدها على لعق أرضية غرفة السجن القذرة بلسانه.
في موازاة قسوة مشاهد التعذيب، تلهم التجربة النفسية للفيلم سجناء آخرين، للحديث بشكل حميمي عن حياتهم في السجن، على نحو قد لا يتحقق عبر المقابلات التقليدية، ومن تلك الشخصيات رجل فقد أخا له في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقضى هو نفسه سنوات طويلة في السجن في زنزانة عُلقت على جدرانها لوحات لأطفال صغار.
وستكون التجربة هي الشرارة التي ستفك خجله وتحفظه، ليبدأ بشهادة مؤثرة للغاية وصف بها شوقه لأطفاله الصغار عندما كان في السجن، وكيف كان يتخيل أيديهم وأرجلهم الصغيرة، ويتذكر حتى روائح أجسادهم.
إحياء الأحداث.. أسلوب فني يكسر الجمود التقليدي
تشكل مُقاربة الوقائع والأحداث التاريخية عبر إعادة تمثيل أحداثها خيارا أسلوبيا للمخرجين الوثائقيين الذين يطلبون بديلا عن محدودية وجمود المقابلات التقليدية السائدة في السينما الوثائقية، أو الخشية من تعثر هذه المقابلات، ولاعتبارات نفسية ولغوية في نقل هواجس وعواطف حميمية للبعض.
كما يبدو أن هذا الخيار أكثر ملاءمة في نقل تجارب جماعية مثل السجن، أو أحداث مشتركة عامة، عندما لا يكون الهدف استعادة تجارب فردية ذاتية فقط، بل محاولة لوصف واستحضار الديناميكية التي كانت موجودة وقتها أيضا.
كما أن من شأنها أيضا أن تفتح هذه التجارب على آفاق جديدة، تتجاوز أهميتها المشاريع السينمائية التي انطلقت تحت مظلتها، إذ ستلعب تجربة إعادة تمثيل الواقع دورا أحيانا في دفع أبطال تلك الأحداث (ضحاياها في الغالب) إلى مراجعات نفسية، يزعم كثيرون أنها مُهمة في رحلة الشفاء الطويلة مما تركته تلك الأحداث من آثار عليهم.
رائد أنضوني.. نقلة في التجارب الوثائقية العربية
يأخذ المخرج الفلسطيني رائد أنضوني بفيلمه “اصطياد أشباح”، التجارب الوثائقية العربية إلى حدود لم تعرفها هذه الفئة من قبل، ويستخلص منها ذكريات وقصصا شديدة القسوة والقوة، ويقدمها ضمن لغة سينمائية فنيّة متقدمة، وإطارات تتفاعل مع خصوصية المكان وضيقه، وحركة كاميرا حساسة واعية بحدودها وعلاقتها بالمحيط من حولها.
كما يصل الفيلم بين ماضي السجناء وحاضرهم، تأكيدا على دورة العنف التي لا تتوقف في فلسطين، فيخبرنا في نهايته أن إحدى شخصياته اعتقلت مرة أخرى بعد نهاية تصوير الفيلم. وللنساء حصة في العمل وإن كانت ضئيلة كثيرا، إذ تمرّ على القبو سجينة فلسطينية سياسية سابقة، ليذكر حضورها بسجينات رأي فلسطينيات منسّيات.
