“من تحت الأنقاض”.. شهادات أطفال ترسم أهوال الحرب في غزة

بعد زيارتها لمدينة غزة عقب مجازر عام 2014 بمدة قصيرة، وبعد رؤيتها الخراب الذي حلّ بها، وبعد سماعها قصص ما تعرض له سكانها من مذابح وفظاعات إثر الهجوم الاسرائيلي عليها؛ قررت المخرجة الأسترالية “آن سوليس” توثيق جانب منها.

أرادت المخرجة أن يكون منجزها مؤثرا متمتعا بمصداقية كبيرة، فكان خيارَها الأول شهاداتُ الأطفال الذين عاشوا تجارب الحرب المريرة وذاقوا مراراتها، وعليها أسست مادتها السينمائية، ومن عمق نظرتها لموضوعها وانفتاحها على تجارب غيرها من متناولي جحيم غزة قبلها.

“شارع السموني”.. أهوال حرب غزة برسومات أبنائها

وجدت المخرجة في فيلم التحريك القصير “شارع السموني” (Samouni Street) للإسبانية “تيلدي دي ونديل” عام 2011 مرجعا وخامة جيدة يمكن إدخالها على متن فيلمها، لكونه اعتمد في الأساس على رسومات أطفال من غزة، نقلوا على الورق ما شاهدوه بأم أعينهم من فظاعات وأهوال، خلال اجتياح الجيش الإسرائيلي لمدينتهم نهاية عام 2008 وبداية 2009، وقامت مخرجته بتحريكها سينمائيا معيدة إليها روحا حية كامنة فيها.

كان من بين الرسامين الذين اعتمد عليهم الفيلم أطفال عائلة السّموني الفلسطينية التي تعرضت لمجزرة مروعة أوائل عام 2009، وسميت لاحقا باسمهم لخسارة عدد غير قليل من أفرادها خلال الاجتياح الهمجي، وبسببها يبدو فيلم “من تحت الأنقاض.. قصة من غزة” (From Under the Rubble: A Story from Gaza) وكأنه نص قديم داخل نص سينمائي جديد.

“شهادات أطفال غزة في زمن الحرب”.. عمق إنساني متوهج

أرادت المخرجة الأسترالية للمقاطع المأخوذة من فيلم التحريك الإسباني أن تلعب دور الموثق الذي يصادق على شهادات عائلة السّموني الجديدة ببعديها التوثيقي والتحريكي، فقد أرادت للشهادات الجديدة أن تسير مع القديمة جنبا إلى جنب، في تناغم يجعل نصها على بساطته نصا مركبا مذهلا، يمكن عنونته اختصارا بـ”شهادات أطفال غزة في زمن الحرب”.

لا يتعارض ذلك التوصيف المقترح مع بقية مفردات متنه السردي، ولا يقلل من قيمتها، فشهادات من عاشوا أتون الحروب الإسرائيلية على غزة من رجال ونساء ومسعفين وأطباء ومتطوعين من الأجانب وأبناء المدن الفلسطينية الأخرى؛ لن تفقد قيمتها، بل ستُعزز شهادات الأطفال من قوتها، وتمنحها عمقا إنسانيا كان يهم صانعته أن يبقى متوهجا طيلة زمن وثائقيها الموجع، وليس عنوانه المعبر “من تحت الأنقاض.. قصة من غزة” إلا دليلا على رغبة قوية في سردها.

أمل السموني.. قسوة وحيوية تصنعان دور البطولة

حيوية وقسوة ما عانت الصبية أمل السموني ستُعطيانها الحق للعب دور البطولة، وستُبرر بتمسكها بوحدة الزمن في مرحلتين من حياتها، وقد اعتمدت مساحة كبيرة من الوثائقي على تجربتها.

فهي من بين الشهود الأكثر تعبيرا عن حالها وحال مدينتها، والأشد حرصا على التحرك أمام الكاميرا بحرية وعفوية لا تقل عن قوة تعبيرها التشكيلية، يوم رسمت قبل أكثر من سبع سنوات تفاصيل الهجوم الهمجي على غزة التي ينطلق الوثائقي لوصفها من مشاهد واسعة منه.

رغم تكرار العدوان يبقي أطفال غزة صامدون

يترافق اقتراب الكاميرا التدريجي من سواحل غزة، دخولا إلى شوارعها وحاراتها مع جُمَل وعبارات قالتها الطفلة أمل بصيغة سؤال حول سبب عيشها وأهلها عذاب الحروب والاحتلال.مشهد الإعدام..

يوم تحولت حياة اللعب إلى جحيم

كل الكلمات التي تصف بها أمل السموني حياتها قالتها رسما يوم وصفت حي الزيتون، وتجمُّع آل السموني في شارع منه، وغلبة اللون الأخضر على مساحات كبيرة محيطة به، لأن أهلها امتهنوا الزراعة واعتمدت حياتهم عليها، ثمة لحظة في ذلك العام المشؤوم غيرت حياتها، فتحولت من لعب إلى جحيم.

تتذكر أمل جيدا -كما تخبرنا في مفتتح الوثائقي- اللحظة التي سمعت فيها دوي القنابل وأصوات الطائرات المُغيرة على حيّهم، ورؤيتها أجساد البشر تتشظى في الهواء، وصولا لوصفها مشهد إعدام الجنود الإسرائيليين لوالدها وأخيها الرضيع داخل بيتهم بدم بارد أمام أعينهم، غير عابئين بصراخهم وتوسلاتهم.

إلى جانب شهادتها تضفي شهادات إخوتها ووالدتها عمقا على مشهد الاجتياح الهمجي للمدينة وسكانها العزل.

غارات الطائرات.. وعود كاذبة تحيل الملاذ إلى أنقاض

بما أن مخرجة الفيلم أرادت سرد قصة محددة من بين آلاف القصص، فإنها ركزت على العائلة المنكوبة وعلى تفاصيل تجربتها، ثم أكملتها بتجارب فرعية أخرى شديدة الصلة بها، لتوفير المناخ العام وعرض تاريخ حافل بالآلام، مثل شهادات رجال الإسعاف المدني الفلسطيني وأطباء المستشفيات، وبعض من كان قريبا من الحدث الذي يتكرر بعد عام 2009 أكثر من مرة، وبالتالي يصبح الحديث عنه وكأنه حديث عن حروب متوالية لن تنتهي، وضحاياها الثابتون هم الفلسطينيون وأبناء غزة أطفالا وشيوخا.

الطفلة أمل التي أعدم الاحتلال أباها وأخاها في الحرب

في خضم سرد تفاصيل ما مرت به عائلة السّموني، ثمة دلالات مهمة فيها حرص الوثائقي على توصيلها لمتلقيه، ولعل أشدها وقعا عليه وصف الصبية أمل خداع الجيش الغازي لأقاربها يوم لجأت إليهم هربا من بيتها، وذلك حين صدقوا وعودهم بتجنيبهم القصف بعد الانتقال إلى بيت في طرف الحي، لكن بعد مدة وجيزة أغارت الطائرات على ذلك البيت لتحيله إلى أنقاض.

لم ينجُ من أهل البيت المتطرف في الحي إلا أمل وحدها، وقد بقيت ثلاثة أيام تحت الركام والرماد، وقد خرجت من تحتها حية، لكنها كانت مصابة بجروح شظايا استقرت في رأسها وجسدها، وما زالت حتى اليوم باقية فيه.

تشير الشهادات إلى مدنية الضحايا، وعدم اكتراث الجيش الإسرائيلي بهذا التوصيف، فقد اعتبر كل فلسطيني من أهل غزة هدفا، وهذا ما بينته شهادات أطباء متطوعين أجانب غضبوا لكثرة ما شاهدوه من ضحايا ومصابين، وقد سجلوا غضبهم أمام الكاميرا، وقدم بعضهم تقارير سترتقي إلى شهادات عالمية تدين الاحتلال وممارساته.

بوح الضحايا الحر للكاميرا.. وثيقة إدانة الاحتلال

يغوص الوثائقي عميقا في رسم أهوال حروب غزة، عبر إعادته مشاهد أرشيفية مسجلة أضفت عليه بعض الآنية، وقد أكملتها مخرجته باستدعائها المشاركين فيها، إضافة إلى الرسوم المتحركة، فظهرت كلها كما لو أنها تسجيل واحد لأزمان حروب متصلة.

قد يكون الجمع البصري بين كل تلك المشاهد والشهادات والرسوم في فيلم واحد أهم تفردات الوثائقي الأسترالي، لكون موضوع غزة ودمارها وحصارها قد عولج في أفلام كثيرة قبله، غير أن طريقة معالجته لها فيها شيء من الخصوصية، وأبرز ذلك سلاسته السردية.

عائلة السموني التي فقدت كثيرا من أفرادها في الحرب على غزة

فعلى الرغم من قساوة مشاهده فإن توثيق شهادات الضحايا وعفوية حديث الأطفال عن تجاربهم ودقة وصفهم المقرون بإعادة تسجيلات سابقة؛ كلها جعلت مسار قصته الرئيسة سهلة الوصول إلى متلقيها، وجعلته وثيقة إدانة للاحتلال ومحاكمة للجناة، بينما تركت للضحايا فرصة التعبير عن أنفسهم بحرية،

يغوص الوثائقي عميقا في رسم أهوال حروب غزة، عبر إعادته مشاهد أرشيفية مسجلة أضفت عليه بعض الآنية، وقد أكملتها مخرجته باستدعائها المشاركين فيها، إضافة إلى الرسوم المتحركة، فظهرت كلها كما لو أنها تسجيل واحد لأزمان حروب متصلة.

قد يكون الجمع البصري بين كل تلك المشاهد والشهادات والرسوم في فيلم واحد أهم تفردات الوثائقي الأسترالي، لكون موضوع غزة ودمارها وحصارها قد عولج في أفلام كثيرة قبله، غير أن طريقة معالجته لها فيها شيء من الخصوصية، وأبرز ذلك سلاسته السردية.

فعلى الرغم من قسوة مشاهده، فإن توثيق شهادات الضحايا وعفوية حديث الأطفال عن تجاربهم ودقة وصفهم المقرون بإعادة تسجيلات سابقة؛ كلها جعلت مسار قصته الرئيسة سهلة الوصول إلى متلقيها، وجعلته وثيقة إدانة للاحتلال ومحاكمة للجناة، بينما تركت للضحايا فرصة التعبير عن أنفسهم بحرية.

مشاهد الثكلى والناجين من الدمار.. حيوية الوثائقي

أعطت المخرجة كل شخص من الضحايا مساحة جيدة، مكنته من التحرك وسطها والتكامل مع غيره من الشخصيات، وسط مناخ منسجم لعبت فيه موسيقى “مايكل دارين” المخصصة له دورا مهما، ويتضح ذلك جيدا في كلام الأم وحرقة قلبها على ولدها وزوجها.

كما يظهر ذلك أيضا في كلام المسعفين الذين حضروا إلى ذات الأمكنة المنكوبة، ومخاطبتهم المباشرة للناجين من دمارها في مقاطع مصورة بأيادي مصورين محليين هما فادي حنونة وأشرف مشهراوي. كل ذلك الجمع والحرية أعطى للوثائقي عمقا وحيوية، ومنح قصصه مصداقية نادرة لا يمكن لأحد التغاضي عنها أو نكرانها.

ثمة أمر يخص الجانب النظري ويفرض نفسه على المتابع، ويتمثل في قوة الوثائقي وقدرته على تكرار سرد تجارب وقصص كانت قد سُجلت بطرق مختلفة، لكنها لم تزل قابلة للتكرار مع الاحتفاظ بقوة الفكرة المقترحة، كما لو أنها تُناقش لأول مرة.

يتولد هذا الانطباع مجددا عند المتابع فور أن ينتهي زمن عرض الفيلم، وتفتح خاتمته المشرعة على أسئلة المستقبل، فحروب غزة تحتمل التناول السينمائي أكثر فأكثر، وأمنيات الأطفال لوحدها يمكن البناء عليها سينمائيا.

أحلام الحصار.. أمنيات مستقبلية تحت الركام

كل واحد من إخوة أمل تمنى أن يدرس وينهي الجامعة، ليمتهن بعدها عملا شديد الصلة بتجربته الشخصية وتجربة مدينته المسبية بالحروب والحصار، فأحدهم يريد أن يصبح ممرضا، والآخر مهندسا يعيد بناء ما تهدم من بيوت، وآخر رساما يرسم ما جرى أمام عينيه.

تحيل الأُمنيات نفسها إلى أسئلة عميقة عن معنى محاصرة مدينة وغزوها عسكريا بين فترة وأخرى، دون قدرة المعتدي على إنهاء رغبة سكانها بالعيش في سلام، وحلمهم بعيش حياة أخرى غير تلك التي عاشوها.

ما معنى تكرار حرب على شعب يخرج من تحت ركامها حيا في كل مرة، ويعلن بقوة عن رغبته في البقاء ورؤية مدينته تعيش يومها مثل بقية مدن العالم؟


إعلان