طائر الشمس.. حلم الهوية الفلسطينية

يوثق فيلم “طائر الشمس” تجربة الفنان خالد الجرّار ودفاعه عن انتماء طائر الشّمس إلى فلسطين، ورغبته في أن يعبر هذا الطائر عنها من خلال الطوابع البريدية .

“طائر الشمس” فيلم أخرجه عائد نبعة وأنتجته الجزيرة الوثائقيّة، يتعقّب تجربة نضالية للفنّان خالد جرار، تعرض وجهاً غير مألوف من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتتّخذ من رسم طائر الشمس على الأختام والطوابع البريدية عنواناً لها. وقد حاز هذا الفيلم على جوائز منها جائزة ابن بطوطة للتفرّد في «مهرجان أوروبا الشرق» في طنجة 2016 وجائزة مهرجان خريبكة الدّولي في دورته التّاسعة أواخر 2017 لما تميّز به – وفق تقرير لجنة التّحكيم – من قدرة على خلق الرّمز وتوظيفه في خدمة مضامينه .

وطائر الشّمس الفلسطيني، موضوع الفيلم، عصفور يتميّز بألوانه الجذّابة الجميلة وشكله الأنيق يّتخذ من الأراضي الفلسطينيّة موطناً له ويسمّى أيضا بتمير فلسطين والطنان، وأبو زريق أمّا اسمه العلمي فهو Nectarinia osea)  وCinnyris osea.

بداية الفيلم: الحثّ على الفرجة المتيقّظة

يبدأ الفيلم بتداول سريع وفق مونتاج قطع للعناصر التي ستؤلف العمود الفقريّ للفيلم: طائر الشّمس والآلة الطّابعة وهي تحفر على الخشب ختماً يحمل عبارة دولة فلسطين وخالد جرار. ويوظّف لذلك إيقاعاً موسيقياً رتيباً مؤجّجاً للتّشويق. ثم تذكر شهادة رغبة إسرائيل في الاستحواذ على انتساب هذا الطائر إليها ضمن مسعاها إلى محو كل مقومات الهوية الفلسطينيّة وتعويضها برموز إسرائيلية.

خالد جرار يختم جوازات سفر الداخلين إلى فلسطين بختم الطائر الطنان

فبعد إتلاف الوثائق لأختام فلسطينيّة قبل 1948 من جوازات سفر وطوابع بريدية بدأت إسرائيل في العمل على اغتصاب انتماءِ الأشياء والكائنات الفلسطينيِّ. وبعد أن خاض الفلسطينيون معركة قضائيّة للمحافظة على الثّوب الوطني الذي حاولت خطوط طيران أل عال السّطو عليه، ها أنّ خالد الجرّار يخوض معركة فنيّة دفاعاً عن انتماء طائر الشّمس إلى أرض يراد للشمس أن تغيب عنها قسراً.

الأمر إذن يتعلّق بوجه آخر من الصّراع الفلسطيني الإسرائيلي. فبعد معارك الأرض والماء تمثّل معركة الرّموز طوراً جديداً من صراع الوجود. ووفق قانون إنشاء اللّغز يقدّم الفيلم أجزاءً مفكّكة وعناصر متباعدة (طائر الشّمس والآلة الطّابعة وخالد جرار) ويدعو الذّهن ضمنا إلى توقّع الصّورة التأليفيّة الناشئة عن العلاقات بين هذه العناصر من ناحية وصلتها بهذا الفصل الجديد من معركة الوجود من ناحية ثانية. ثم ما يلبث أن يعتمد، وقد استنفر انتباه المتفرّج، بناءً خطياً يعيد تشكيل تجربة الفنان الّتشكيلي خالد الجرّار ويحلّ اللغز تدريجيّاً. فيقطع الفيلم، وقد انصرف إلى الدّور النّضالي للفنّ، مع الأساليب المتداولة في أفلام المقاومة عامّة من بعد تقريري مباشر في تصوير الوجه البشع واللا أخلاقي للاحتلال وتركيز على المعاناة ويستبدلها بما وفرت له قدرته على خلق الرّمز من إيحاء وشعريّة.

التّرميز واقتحام الحصون المنيعة

ينطلق خالد جرّار من عمل إسرائيل على فرض طائر الشّمس طائراً وطنيّاً لما فيه من البهاء والأناقة. فيستدعيه في تصميماته ليصنع منه مادة فنيّة تؤكّد الوجود الفلسطينيّ وترمز إلى تطلّعاته وأحلامه. لمّا كان الختم على جواز السفر عنواناً لممارسة سيادة الدّول على أراضيها، فتسمح للعابرين بدخولها أو الخروج منها، ابتكر خالد جرّار ختما مستوحى من شكل هذا الطائر مصحوباً بعبارة دولة فلسطين. وراح يختم على جوازات سفر الوافدين على الأراضي الفلسطينية في حركة رمزية تخلق افتراضيّاً دولة فلسطين وتكرّس سيادتها على أرضها.

ولعلّ النموذج الوارد في الشهادات أن يكون بالغ الأهمية. فقد عرض تجربة الناشطة الحقوقية الأمريكيّة الإسرائيليّة أليسون رامير مع هذا الختم. فبعد أن وضعته على جوازها الأمريكي عادت تطلبه على جوازها الإسرائيلي معلنة مقاومتها لمحاولات غسل الدماغ التي تصور الفلسطينيين شعباً عدوانيّاً وتجعل الاقتراب منهم خطراً عظيماً أقله الاختطاف وأقصاه الاغتيال.. وفي سبيل قناعتها هذه، احتجِزت وانتزعت منها السلطات الإسرائيليّة جوازها ولكن لم تستطع انتزاع قناعاتها وقد فتح الختم الفلسطيني عينيها على الحقائق التّاريخيّة التي يعمل الاحتلال على طمسها.

ولعلّ ما يؤكّد إصابة هذه التجربة لأهدافها ويؤكّد أنّ الختم على جوازات السّفر أكثر من إعلان افتراضي لوجود دولة على الأرض الفلسطينية تمارس حقها في الوجود والسيادة على ترابها المغتصب، عملُ إسرائيل على مقاومته بداية الأمر ثم إذعانها في النّهاية، فنرى خالد الجرّار يختم جوازه بنفسه ويستعمله في المطارات الإسرائيليّة ولا يجد الإسرائيليون غير الاستسلام لواقع الأمر. أما هو فيستعذب طعم نصره وينتشي به.

 طائر الشمس طابعا بريديّاً

نقدّر أنّ اعتبارات كثيرة جعلت خالد جرّار يرسم طائر الشمس على طوابع بريديّة ويعمل على ترويجها أولا في فرنسا وفي ألمانيا وبلجيكا لاحقاً. فأكثر من كونه قصاصة ورقية تشير إلى البلد الذي وفدت منه الرسالة، يشتمل الطّابع البريدي تقليدياً ومنذ ابتكاره أول مرة من قبل البريطانيين رولاند هيل وجيمس شالمرس سنة 1840م على رسم لعناصر من ثقافة البلاد ومكونات هويتها وعناصر ذاكرتها. لذلك كثيراً ما تتقاطع هذه الطوابع مع تراث البلدان المادي أو اللاّمادي وغالباً ما يكنّى بالّسفير لتعريفه بالأوطان وهو يرافق الرّسالة خارج الحدود.

ولمّا جوبه مشروعه بالرّفض في فرنسا ولىّ خالد الجرّار وجهه شطر دولة ألمانيا التي يسمح قانونها للأفراد بابتكار طوابعهم البريدية الخاصّة ويتبناها فيعتمدها في المراسلات الرّسمية. وعليه أمكن له أن يوسّع تجربته وأن يروّج ما يربو عن الثلاثين ألف طابع بريديّ باسم دولة فلسطين، بعضها يُرسل إلى الأراضي المحتلّة، فتستقبله إسرائيل وتصادق، بذلك، ضمناً على حقها في الاستقلال.

وكما حوّل من وظيفة جواز السفر وختمه، يحوّل خالد الجرّار الطاّبع البريدي إلى طائر قادر على التّحليق بعيداً. فيجوب بقاع الأرض باسمه وانتمائه الفلسطينيّ دون أن تعترضه جدران العزل لتحدّ من حركته ويصبح لارتباطه بالشمس والنور معنى. فيقهر الظّلام وقيد السّجون. وليس هذا – الطابع/ الطائر- غير الإنسان الفلسطيني المطالب بنصيبه من شمس الحريّة.

طابع بريدي بلجيكي أصدرته بلجيكا باسم فلسطين وعليه طائر الشمس الذي اختاره الفنان خالد جرار

وإجمالاً كان الفنّان يستدعي صورة طائر الشمس في التصميمين على حدّ سواء. ويمكنه من القدرة على اختراق الحدود الموصدة. فيجعل منه علامة تنوب أخرى مرادفة له هي تطلّع الفلسطيني إلى حقّه المكفول إنسانيّاً ودوليّاً في الحريّة والاستقلال فينتمي أحد طرفي هذه العلاقة إلى العالم الحسي الفيزيائي ونقصد طائر الشمس فيما يكون الطرف الثاني معنوياً ونعني التطلّع إلى الحرية.

وليس هذا الرّبط اعتباطيّاً كما هو الحال في اللغة وإنما يقوم على رابط طبيعي بين طائر الشمس والحريّة. وليس قانون الإنشاء هذا غير قانون بناء الرّمز في الخطاب الفنيّ: قانون يرتقي بالمضامين من المحليّة إلى الكليّة ويدرجها في الكونيّ العامّ. فيكون نضال الفلسطينيّ من أجل حرّيته نضالاً للإنسانيّة عامّة في مجابهة القهر والعبوديّة.

ولتكتمل دائرة بناء الرّمز ينتهي الفيلم في برلين قرب منفذ في جدارها المهدّم، والجندي المكلف بحراسته يضع الختم الفلسطيني جوازه إشارة إلى أنّ مصير جدران الفصل السقوطُ والزوال. وكما قُوّض جدار برلين لابدّ لجدار العزل أن يقوّض يوما لأن الإسمنت المسلّح لا يهزم من كان الإيمانُ بقضيته سلاحه.

عائد نبعة وخالد الجرّار: صراع الجدارة

لاشكّ أنّ الفيلم يدين بتميّزه إلى خالد جرار إلى حدّ كبير. فقد مثّل منجزه وما فيه من طرافة وابتكار مادة فيلمية مميّزة تبحث عمّن يخرجها إلى النّور. وكما يقول سيد فيلد ففي اللّحظة التي نبحث فيها عن فيلم، ثمّة فيلم في مكان مّا يبحث عن كاتب أو مخرج. ولكن هذا لا يجعلنا نبخس حق المخرج في هذا التمّيّز وفي هذا التراشح المخصب بين فني التصميم والسينما. فقد عمل عائد نبعة على التّنويع في موارده البصرية بين صور فوتوغرافيّة ورسومات تشكيليّة وتصاميم للطوابع والأختام وجعل شخصياته، وهي تقدّم شهاداتها تتحرك في المراسم أو المتاحف أو المحطّات باحثة عن أصحاب الجوازات لختمها.

ولم ينقلنا إلى عوالمها الخاصة والحميمة الفضائيّة – فكان يلاحقها في مواطنها، في فرنسا وفلسطين وألمانيا- فحسب. وإنما جعلنا – بشكل ما ننفذ عبر اللّقطات الجاذبة  Les plans en amorce   إلى بواطنها ونتقبّل العالم من منظورها ونشاركها إحساسها. وكان لزوايا التّصوير التي راوحت بإتقان بين الغطس والغطس المضاد ولسلّم اللّقطات نصيب وافر في هذا التميّز. فقد راوح الفيلم بين عرض الحركة وخلق المؤثر في لطف يعرض عن جعل الفلسطيني منكوباً يستجدي تعاطف العالم معه.

وعبر تجربة خالد الجرّار نحت صورة إيجابية عنه. فجعله متعلّقاً بأرضه قادراً على الدفاع عن قضيته وجلب الأنظار إليها مبتكراً لأدوات صموده. واصطحب المتفرّج إلى تفاصيل هذه التجربة لمّا دفع الفنّان إلى التعبير بانسيابية وتلقائية.

الفنان”خالد جرار” روّج لما يربو على الثلاثين ألف طابع بريديّ باسم دولة فلسطين، بعضها يُرسل إلى الأراضي المحتلّة

ولم يكتف بمسار خالد النجّار وإنّما غذّاه بتجارب أخرى كانت تدعم التّجربة الأولى وتكمّلها دون أن تنازعها الأولويّة. فكان لحضور الفنّان الفرنسي جون إيف ذا بُعدين،بعد يبرز ريادة عمل خالد جرار. فقد اشترك مع جون إيف في الحلم نفسه بأن يجعل الطابع البريدي الحامل لاسم دولة فلسطين طابعاً رسميّاً يصدر في فرنسا، ولم ينتهى مثله إلى النتيجة نفسها، فإنه كان أكثر إصرارا. فنقّب في القوانين الأوروبيّة واهتدى إلى البريد الألماني الذي يخوّل له قانونه إصدار مثل هذه الطوابع واعتمادها رسميّاً، ثم إلى البريد البلجيكي، فيما ظلّ الفرنسي أسير حلمه عاجزاً على تحقيقه يكتفي بإلصاق طابعه في السّاحات العامّة وعلى جوانب السيارات والدرّجات.

وبعد يمنح نضال خالد جرار عمقه الإنسانيّ. فتجربة جون إيف تؤكّد أنّ القضية ليست قضيّة محليّة فلسطينيّة ترسّخ الحق في عقول أصحابه وقلوبهم حتى لا تكلّ النّفوس وتستسلم لواقع الحال فحسب وإنما هي كونيّة تجعل أصحاب الضمائر الحيّة شأن الفنان الفرنسي يعملون على مسح هذا العار الذي ألحقه الاحتلال بالإنسانيّة. وهذا يعني أنّ تبنيها دفاع عن إنسانيّة الإنسان قبل أن يكون دفاعاً عن فلسطين.

إنّ التّلاقي بين التصميم والرسم والسينما إذن وهذا التّراشح أقرب إلى التّعاضد التّعاوني، فتقدّم تجربة جرار للفيلم عمقه وموارده البصرية ورؤيته الجمالية والفكرية ويقدّم الفيلم لهذه التجربة الانتشار والدعم لمّا للسّينما من تقنيات ووسائط لا يمتلكها التّصميم أو الرّسم.

السياق الخارجي سبيلا لفهم خطاب الفيلم

ذكرنا ما للفيلم من قدرة على خلق الرّمز الفنيّ. ولكن نقدّر أن الأمانة تمنعنا من أن نردّ الفضل كلّه إلى المخرج أو الرسام أو الجهات المنتجة التي راهنت على الفيلم. فللسياق الخارجي، التّاريخي والسياسي، نصيب في ذلك. فقد صادق مجلس الوزراء الفلسطيني في فيفري 2015على اعتبار عصفور الشّمس عصفوراً وطنيّاً لفلسطين

وأشار مدير عام المصادر البيئية في سلطة البيئة عيسى موسى وفق موقع دولة فلسطين إلى ضرورة “الترويج له في وسائل الإعلام، والتّعبير عنه في المواسم والاحتفالات، ونشره بين فئات المجتمع المختلفة، ونقله إلى طلبة المدارس، والترويج له بأشكال إبداعية وفنية في إعلانات الشوارع، والأجندات الوطنية، والمطبوعات، ونشر بطاقاته بين السياح، وغيرها من وسائل إبداعية”. وأُطلق اسمه على جوائز مهرجان الأيام السينمائية برام الله.

ومع يقيننا بأن مشروع خالد الجرّار الإبداعي يعود إلى نحو ثمان سنوات خلت أو أكثر وأنّ بداية تصوير الفيلم تعود إلى أكثر من خمس سنوات، أي قبل ظهور هذه المواقف الرّسميّة، يبقى من الإجحاف أن ننكر دور هذا السياق الخارجي الحضاري في تشكيل الفيلم. ولعلّه أن يكون ردّاً على محاولة إسرائيل السّطو على رمزية طائر الشّمس وتغيير اسمه كما فعلت بالأرض والتاريخ.

ولا يضير وجود هذا السّياق الفيلم في شيء بل لعلّه أن يضيف له مزيّة أخرى. فقد ظلّ عملاً فكريّاً إبداعيّاً لم يسقط في الدّعاية السياسية السطحيّة فكان – بشكل مّا- نصراً يحقّقه خالد جرار ويحقّقه الفيلم عامّة في معركة أحقية امتلاك رمزية هذا الطّائر البديع.

فيلم متقن وبعد!

لا شكّ في أنّ الفيلم مثّل رؤية جمالية فكرية في آن. وهذا ما منحه بعده السّينمائي بامتياز. فمع نهايته ينكشف اللغز وتتضح العلاقة بين الطائر والآلة الطابعة والفنان التشكيلي فهي العلاقة بين الذات والموضوع والأداة التي تصل الذات بموضوعها. ولكنّه لم يخل من هنات كان غيابها سيمنحه عمقاً أكبر، لعلّ أخطرها تسرّعه في فضح رموزه. فقد كان خالد جرّار يسرع إلى التّصريح ببحثه عن رمز للحرية منذ البداية. وكان يشير إلى حسد ما ينتابه وهو يرى الطّيور التي تقفز على الجدار.

فهذا الخطاب التّقريري يمس من عملية التواطؤ الضّمني بين المبدع والمتقبل الضرورية للخطاب الرّمزي الذي أراده صنّاع الفيلم. فقد انصرفوا إلى صناعة أقفال وصياغة شفرات (على وضوحها) وكان أولى بهم أن يتركوا للمتفرّج بهجة التوصّل إلى حلّها وفكها بدل أن يقدّموها له جاهزة. ثمّ إنّ مشروع خالد جرّار يقوم أساساً على مناهضة المشروع الإسرائيلي الهادف إلى سلخ ارتباط العصفور بفلسطين واقتراحها عبر مؤسّساتها تغيير اسمه إلى الطّائر الوردي أو بير إسرائيل.

غير أن الفيلم يورد شيئاً قليلاً من هذا في جملة قصيرة على لسان خالد جرار وكان أولى به أن يركّز على هذه النقطة وأن يوفّر لها الموارد البصرية الضروريّة فيعرض الخطر الذي يحيق بهذا الطائر الرمز ليمنح المعركة التي يخوضها خالد الجرّار قيمتها ويضعها في مداره الصحيح مدار المعركة على امتلاك الرموز.


إعلان