“عزيزي الديكتاتور”.. كوميديا سوداء عن الجنرال الكوبي الذي أرّق أمريكا

 

ما إن يرى المتلقي اللقطات والمَشاهِد الافتتاحية من فيلم “عزيزي الديكتاتور” (Dear Dictator) للمُخرجين الأمريكيين “جو سيراكيوز” و”ليزا أداريو” حتى تحضر صورة الطاغية الكوبي “فيدل كاسترو” الذي حكمَ الجزيرة الكوبية قرابة خمسة عقود.

فكل شيء يشير إليه، ويُحيل إلى حقبته الزمنية، بدءًا من معالمه الخارجية ورتبته وبدلته العسكرية، مرورا بالدعم الأمريكي للمتمردين عليه ومحاولات الإطاحة بنظام حكمه، وانتهاءً ببعض الإشارات الصريحة إلى زوجته التي انفصل عنها قبل وفاتها، وابنته التي أحبّت “خائنا للوطن” حسب توصيفه، فأعدمه كي يلقِّن المتآمرين درسا لن ينسوه أبدا.

“مايكل كين”.. قائد فريق من النخبة يعجز عن حصد النجاح

لم ينجح فيلم “عزيزي الدكتاتور” على الصعيد الفني، رغم أنه يضمّ في طاقمه التمثيلي نجوما كبارا من طراز الفنان “مايكل كين” الذي جسّد شخصية الجنرال “أنتون فنسنت”، والممثلة الأمريكية “كيتي هولمز”، والممثلَين الأمريكيين “سيث غرين” و”جيسون بيغز”، إضافة للنجمة الشابة “أوديا راش” التي تناصفت البطولة مع  “مايكل كين”، وبذلت قُصارى جهدها كي تبدو بالمظهر اللائق أمام أيقونة السينما البريطانية.

اشترك “مايكل كين” حتى الآن في 128 فيلما و44 عملا تلفازيا، كما نال جائزتي أوسكار عن فيلم “هانا وأخواتها” (Hannah and Her Sisters) عام 1986، و”قواعد بيت سايدر” (The Cider House Rules) عام 1999، ونال جائزة البافتا عن فيلم “تعليم ريتا” (Educating Rita) عام 1983، ولديه ثلاث جوائز غولدن غلوب تعترف بعبقرية هذا الفنان المشحون بقوة مشاعره وأحاسيسه الداخلية، والمجبول على حُسن الأداء، وجودة تقمّصه للأدوار الفنية التي تُسنَد إليه، مهما كانت صعبة وعصيّة على التجسيد.

لعل القارئ يتساءل عن السبب الكامن وراء فشل الفيلم الذي يحتضن هذه النُخبة المنتقاة من الممثلين اللامعين، والنجمات المتألقات اللواتي قدّمن أفضل ما عندهن من مواهب أدائية وخاصة “أوديا راش” التي أدّت بإتقان كبير دور “تاتيانا ميلز”، الفتاة الأمريكية ذات الستة عشر ربيعًا التي تعيش مع أمها الأرملة “دارلين ميلز” (الممثلة كيتي هولمز).

الفيلم من بطولة مايكل كين الذي جسّد شخصية “الجنرال أنتون فنسنت”، والممثلة الأميركية كيتي هولمز، والممثلَين الأميركيين سيث غرين، وجيسون بيغز

تخبط السيناريو.. ضياع جنس الفيلم يفقده المعنى

لكيلا نلقي كل اللوم على الممثلين الذين هبطوا عن مستوى أدوارهم السابقة كثيرا، ولم يقنعوا المُشاهدين بما قدّموه في هذا الفيلم، لا بد من تحميل المُخرجين وكاتبَي النص أيضا، مسؤولية الخلل الكبير في سيناريو الفيلم الذي لم ينجح في أن يكون كوميديا كما أُريد له، ولا ساخرا سخرية مُرّة أو سوداء، ولا ينطوي على أي مفارقة، رغم أنّ المُخرجين سعيا إلى ذلك، ولم يُوفقا في مسعيهما.

لم تنطوِ القصة السينمائية على حبكة أصيلة، رغم أن الفيلم يتوفر على مفاجآت عدة، تتعلق بغالبية شخصياته الرئيسة، مثل الديكتاتور الذي فاجأنا بمهارات متعددة لم يكن يعرفها كثير من المُشاهدين، ربما مثل تصليحه لباب المرآب والمروحة الهوائية وصنبور الماء، وإجادته للطهو، وجزّه لأعشاب الحديقة وما إلى ذلك.

أما شخصية الابنة “تاتيانا ميلز”، فقد برعت في المراسلة أو الصداقة البريدية مع الديكتاتور، إذ كانت تُحبّذ طريقته في كتابة الرسائل، وتنسجم مع أسلوبه الذي تراه مُقنعا وجميلا، ولهذا اختارته نموذجا مُحببا إلى نفسها في الواجب المدرسي، ولم تختر شخصًا آخر كما فعل أقرانها في الصف الذي تدرس فيه.

وربما تُذكرنا هذه الصداقة البريدية بنموذجين شائعين على مستوى العالم، وهما الأمريكية “سارا يورك” ذات الأعوام العشرة التي راسلت “مانويل نورييغا” (حاكم بنما)، ودعاها لزيارة بنما في خاتمة المطاف، والطالبة الأمريكية “سمانثا سميث” التي كتبت عددا من الرسائل إلى “يوري أندروبوف” السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي، وتلقت منه أيضا دعوة لزيارة البلد آنذاك.

“أطلقوا النار على هذا الرجل المحتجّ”

تتميز حقبة الديكتاتور بظاهرتي تعذيب المعارضين، وقتل المناوئين له، فلا غرابة أن تقْدم الأجهزة الأمنية على إعدام مجموعة من الرجال المُشتبه بخيانتهم من دون أدلة تدينهم، فلقد كان الديكتاتور يرى وجود أدلة جنائية في حواسيبهم، ولكن تبيّن في خاتمة المطاف أنهم لا يمتلكون أي حواسيب، وقد أعدموا بطريقة عشوائية يعرفها جيدا أبناء هذه الجزيرة المُبتلاة بالأنظمة الطاغوتية المُتعاقبة.

يؤخذ على الفيلم الخلل الكبير في السيناريو الذي لم ينجح في أن يكون كوميديًا، كما أُريد له، ولا ساخرًا سُخرية مُرّة أو سوداء.

لم يركِّز الفيلم كثيرا على خطابات الديكتاتور الطويلة والمملة ويبدو أن المُخرجين قد اختارتا نموذجا واحدا من هذه الخطابات التي ينتقد فيها الجنرال “أنتون فنسنت” الرأسمالية الحقيرة التي تحرّر منها شعبه، لكن التحديات مازالت كثيرة مثل قلّة الغاز والحليب، وندرة الخبز والصابون، وسواها من المواد الضرورية التي يحتاجها أبناء الجزيرة.

ثم يردد مقولته الشائعة “الوطن أو الموت”، ويعِد شعب الجزيرة بالانتصار الأكيد على أمريكا التي تُحاصرهم من الجهات الأربع، وتبذل قصارى جهدها ضد عدوها الاشتراكي اللدود. وحينما يعترض أحدهم يأمر أزلامه ببساطة قائلا: أطلقوا النار على هذا الرجل المحتجّ.

لاجئ المنزل الأمريكي.. حشد للدعم عن طريق التلفزيون

من مفارقات هذا الفيلم أن الديكتاتور يلتجئ إلى منزل صديقته الأمريكية “تاتيانا”، ويختبئ في مرآب البيت، لكن الأمر لن يطول كثيرا، حتى تكتشف أمها “دارلين ميلز” أن الديكتاتور موجود في منزلها، وسوف تقبل بالأمر الواقع بحجة أنه لاجئ سياسي كما تزعم “تاتيانا”، وهي مضطرة لحمايته بموجب القانون.

وبما أن الديكتاتور مازال يعوّل على خطاباته الفكرية الكلاسيكية، فقد طلب من صديقته “تاتيانا” أن تسجل له مقطعا خطابيا، وتسلّم نسخة منه إلى قناة “سي أن أن”، ونفهم من خلال هذا الخطاب الموجّه إلى مساعديه وأنصاره أن الجنرال “أنتون فنسنت” ما زال على قيد الحياة، وأنه يؤلف جيشا قوامه آلاف من المواطنين المخْلصين للجزيرة، وأنهم سوف يثورون جميعا على الغزاة الطامعين، ولن يستسلموا أبدا، فإما الوطن أو الموت.

تتطور الأحداث وتتشعب بحسب الشخصيات الأخرى، فالأم “دارلين ميلز” التي رأيناها في مستهل الفيلم مرتبطة بطبيب الأسنان “تشارلز شيفر”، لكن تتذبذب علاقتها العاطفية به بين مدّ وجزر، والبنت “تاتيانا” تبتعد عن صديقها “ديني” الذي يخونها مع فتاة أخرى، ثم يلقي بنفسه من الطابق الثاني، ويصاب بكسور ورضوض متعددة لكنه لم يفارق الحياة.

لم يركِّز الفيلم كثيرًا على خطابات الدكتاتور الطويلة والمملة ويبدو أن المُخرجتين قد اختارتا نموذجًا واحدًا من هذه الخطابات.

حصار الديكتاتور.. رحلة من المعتقل إلى منفى العدو اللدود

غالبا ما يبقى الديكتاتور محاصرا في المنزل، أو يخرج متنكرا لشراء الملابس، أو يتصل برفاقه ومساعديه عبر الإنترنت بمساعدة صديقته “تاتيانيا” التي يُقبض عليها بالجرم المشهود، فبعدما تَبيّن من رسائلها الإلكترونية والورقية أنها كانت على علاقة مباشرة بالديكتاتور، تُحاصر الشرطة منزلها، وحينما يخرج الديكتاتور رافعًا يديه يقولون إنهم ليسوا بحاجة إلى الجد، وإنما إلى “تاتيانا ميلز” التي حسبوا أنها حفيدته.

وحينما ينتهي التحقيق مع “تاتيانيا” التي احتجزها الديكتاتور هي وأمها رهينتين، تجد نفسها حُرة طليقة بعد أن برّأت نفسها من كل التهم الموجهة إليها.

أما الديكتاتور فقد شاهدناه سجينا، وقد زارته “تاتيانيا” في معتقله، وكان سعيدا بها لأنها تحولت إلى ثائرة. وسوف يحاكم محاكمة عسكرية بتهم جرائم ضد الإنسانية، وسوف ينفى إلى أمريكا، البلد الذي ناصبه العداء طوال حياته.

جماليات التصوير والمونتاج والأداء.. نقاط قوة الفيلم

ينطوي السيناريو على أفكار مهمة لكنها لم تُعالَج بشكل جيد، ولو كان كاتبا النص “جو سيراكيوز” و”ليزا أداريو” مُحترفين لحَبكا منها قصة متينة شديدة الدلالة والتعبير، مثل فكرة السيطرة على الشعب بواسطة عنصري الحُب والخوف، أو المُقتبسات المأخوذة عن مسرحية “الملك لير”، أو تحول “تاتيانا” -وهي الفتاة الأمريكية الشابة المُولعة بالأشياء الغريبة- إلى ثائرة أو متمردة في الأقل على الأوضاع الراهنة، واستجابتها للثورة الاجتماعية الموازية للثورة السياسية التي تجتاح الجزيرة.

لابد من الإشادة بجمالية التصوير الذي نفّذه “وايت ترول”، فقد أبدع في لقطاته الفنية التي تبقى في الذاكرة، كما أنّ مونتاج “كينت بيدا” قد أنقذ الفيلم من السقوط في فخّ الرتابة والملل، بسبب عثرات السرد البصري للقصة السينمائية التي لم يحبكها كاتبا السيناريو، وهما مُخرجا الفيلم أيضا.

باختصار شديد، فإن فيلم “عزيزي الديكتاتور” جدير بالمُشاهدة من ثلاث نواحٍ فقط وهي التصوير، والمونتاج، وأداء الشخصيات التي خذلتها القصة السينمائية المهلهلة، وأربكتها الرؤية الإخراجية القاصرة لصانعي الفيلم اللذين تطاولا على كتابة السيناريو، من دون أن يتمكنا من هذا الفن الذي يتألق بمبدعيه، وكُتّابه المتخصصين به.


إعلان