بابور البر.. قطار المغرب وقصة وطن
هل تساءلت يوما وأنت تركب القطار في أن له معاني أكبر من مجرد كونه ناقلا ينقلك من محطة إلى أخرى؟ ألا ترى أنه شبيه بالحياة؟ كلاهما عبارة عن مجموعة من الرحلات تنتهي في مجموعة من المحطات تلتقي خلالها بالكثير من التجارب والأشخاص، ففي محطات القطار كما في محطات الحياة تجد الصغير الذي ينظر إلى القطار بشغف وعنفوان الصبا، ومتوسط العمر الذي لم تعد القطارات تبهره بحكم تجريبه لها وتنقله فيها، والكهل الطاعن في السن الذي عجمت الحياة عوده حتى أصبحت المحطات كلها كإعادة للذكريات.
نستعرض فيما يلي الفيلم الذي أنتجته الجزيرة بعنوان “بابور البر” الذي يستعرض تاريخ القطار في المغرب وما له من رمزية في الذاكرة الاجتماعية المغربية، والإرهاصات التي رافقت ميلاد السكة الحديد، والأحداث التي وقعت فيها أو مرت من خلالها.
سفراء المغرب
كان سلاطين المغرب في القرن التاسع عشر يبعثون بمجموعة من السفراء إلى أوروبا لحل المشاكل العالقة بين المغرب وبعض الدول الأوروبية، لكن أولئك السفراء الرحالة كانوا يهتمون بكل ما هو جديد من نهضة وصناعة وتطور ومكتسبات حضارية في تلك الدول التي يزورونها، كالمصابيح والكهرباء والمذياع وآلة التصوير فيما بعد، فتلك أمور كانت تلفت انتباه أولئك الرحالة؛ ومن أهم تلك المكتسبات البديعة آلة القطار الذي ظهر أول ما ظهر في بريطانيا عام 1815، ثم تم إطلاق أول خط سكة حديد بعد ذلك تربط بين مدينتي مانشستر وليفربول، فكان يمثل حينها اختراعا عجيبا خارقا للعادة.
بعد هزيمة المغرب أمام إسبانيا في حرب تطوان عامي 1859/1860 اقتنع السلاطين المغاربة -وعلى وجه الخصوص محمد الرابع بن عبد الرحمن وابنه الحسن الأول- ألا سبيل لتحسين الأوضاع في البلاد والارتقاء بها إلا بتبني سياسة الإصلاحات، ونتيجة لذلك التوجه قام المغرب بإرسال بعثات طلابية إلى أربع دول أوروبية هي إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا.
يقول الأستاذ أسامة الزكاري الباحث في التاريخ المعاصر: كان القرار واضحا صريحا في أن بناء الدولة القوية لا يتوقف على المؤسسة العسكرية فحسب، فالمؤسسة العسكرية ضرورية بالطبع لكن لا بد من الجمع بين الاهتمام بالجانب العسكري والجوانب الأخرى الثقافية والاقتصادية والعلمية.
الحصان الحديدي
في البداية وقعت إشكالية في تسمية القطار قبل أن تستقر التسمية على كلمة القطار، فكان البعض يصفه بآلة ستيفنسون نسبة إلى مخترعها العالم الإنجليزي جورج ستيفنسون، بينما وصفها آخرون بالآلة الحديدية العجيبة، لكن في كتابات أخرى تم إطلاق صفات من لوازم الحيوان على القطار، ثم تمت تسميته بعد ذلك باسم “طنجة فاس” نسبة إلى خط السكك الحديدي الذي يربط بين طنجة وفاس.
يقول الباحث أسامة الزكاري: سماها بعضهم بالأحصنة الحديدية؛ أي أنهم تصوروها حصانا ولكن بجسم من حديد، ويتحرك ليس اعتمادا على قوة العضلات، ولكن اعتمادا على محرك آلي ينفث البخار بعد أن تحترق مصادر الطاقة التي تكون غالبا من الفحم الحجري، فمن ذلك البخار (Vapor) نشأت التسمية التي أطلقت عليه في كل الكتابات اللاحقة “بابور البر”.
سمي القطار باسم “بابور البر” لكونه الآلة النفاثة للبخار التي تدب على البر، وذلك تحرزا من بابور البحر التي كانت تُطلق على السفينة، وكأن القطار إنما هو سفينة تمخر أمواج وتضاريس البر بغرض نقل الأشخاص والأمتعة بكميات كبيرة.
وجدانية القطار
السفر بالقطار ما هو إلا فرصة كي يتأمل المسافر في حركية دواخله وهو ينظر إلى ذاكرته عبر نافذة القطار، يقابل نفسه في صمت يتخلله ضجيج الاحتكاك بالسكة الحديد، ففي تكرار ذلك الضجيج سيمفونية موسيقية يتأرجح بها كيانه، وتُهذَّب بها أفكاره المتناثرة الثائرة، فيسكن كل مسكنه، وتثبت كل فكرة في محلها، ويجد السكون مع الليل مجلسا مؤنسا في قرارة صاحبه.
يقول أحمد فارسي وهو طبيب خارجي مدون ومهتم بالقطارات: أحب السفر بالليل، ففي وسط المقصورة أطفئ النور فيصبح الجو مظلما، ومع ذلك فإني أدرك ما يمر به القطار من غير أن أراه، وكأني جردت نفسي من الأحاسيس فلاحظته بعين داخلية أو شيء من هذا القبيل.
عين الاستعمار
يقول الباحث أسامة الزكاري: في عام 1894 والعام الذي يليه بدأت القوى الأوروبية تتسابق من أجل تقديم خدماتها إلى سلطان المغرب، وتلك الخدمات كانت تتمثل في إعطاء إحدى هذه الدول امتياز إنشاء أول خط سكة حديد في المغرب.
لقد آمنت الدول الاستعمارية الثلاث التي كانت تتنافس على المغرب وهي بريطانيا وفرنسا وإسبانيا أنه لا سبيل إلى تحقيق المطامع في المغرب إلا بعد حل مشكلة البنية التحتية، فإنزال القوات الاستعمارية إلى البر المغربي يحتاج إلى أرضية مجهزة ببنية تحتية متينة تسهل تنقل وحركة العساكر والمعدات والعتاد في التراب المغربي بسلاسة ومرونة.
يقول الباحث بجامعة محمد الخامس بالرباط علال ركوك: هذا التنافس الذي جاء داخل المغرب من طرف هذه القوى الأوروبية في وقت كانت الإمبريالية تتصارع فيه على أخذ مواقعها داخل المواقع الإستراتيجية كالمغرب؛ ذلك التنافس جعل كل الدول ترغب في أن تربح رهان خوض بعض الصفقات في البنية التحتية في المغرب.
لم يكن الأمر مقتصرا على الدول ذات المطامع الاستعمارية في المغرب فقط، بل تجاوز ذلك إلى دول أوروبية أخرى، ففي عام 1888 أرسلت الحكومة البلجيكية إلى سلطان المغرب “الحسن الأول بن محمد” قاطرة وعربة تتسع لـ12 فردا، وكانت بلجيكا تهدف من وراء ذلك إلى الحصول على صفقة تزويد المغرب بخط السكة الحديد.
الرفض الهادئ
كان سلاطنة المغرب التقليديون دائما ما يستشيرون أهل الحل والعقد ومنهم العلماء قبل اتخاذ القرارات الكبرى، وخصوصا تلك المتعلقة بالتعامل مع الآخر، وعلى وجه أخص “الآخر الكافر”، فكان جواب السلطان للأوروبيين أنه لا بد من استشارة بطانته قبل الرد عليهم. وقد وقع إجماع العلماء على أن الأمر كله شر، وأنه سيسلم المغرب إلى يد الأوروبيين، فكان ذلك رفضا باتا من طرف السلطة الدينية في المملكة، إضافة إلى توجس المغاربة بشكل عام من هذه الآلة المزعجة التي ستفسد هدوءهم وحميميتهم في قراهم وأريافهم الهادئة.
يقول الباحث علال ركوك: رفض العلماء الذين تمت استشارتهم رفضا قاطعا إدخال وسيلة النقل هذه إلى المغرب، إذ إنها تعتبر مصدرا لجلب البلاء لدار الإسلام من وجهة نظرهم.
الرفض الفوضوي
كان أول خط سكة حديد أنشئ على أرض المغرب خط تم وضعه بعد انتصار إسبانيا على المغرب في حرب تطوان، وهو خط قصير يربط بين مدينتي تطوان ومرتيل، وبُني عام 1860، لكن هذا الخط تم تفكيكه بعد توقيع اتفاقية تطوان بين المغرب وإسبانيا.
وفي عام 1901 تقدمت أربع دول للسلطان عبد العزيز بن الحسن بمشروع إقامة أول شبكة للسكك الحديد في المغرب، وقد كان السلطان متحمسا للأمر، لأنه كان يؤمن أن تحديث المغرب سينطلق من هذا الباب، لكنه واجه الكثير من الصعوبات.
يقول أسامة الزكاري: عندما فكر السلطان عبد العزيز في إنشاء خط سكة يربط بين فاس ومكناس، كان أول من اعترض على الأمر قبائل المنطقة، حيث هددوا بعرقلة وتدمير هذا الخط، ودخلت المنطقة كلها في حالة فوضى، ومعنى ذلك أن القبائل كانت تدرك أن هذه السكك تفتح الباب أمام الاستعمار، وهو الموقف نفسه الذي تبناه العلماء من قبل.
حادثة الدار البيضاء
يقول الباحث علال ركوك: عندما شُرع في بناء ميناء الدار البيضاء عام 1907 أدى ذلك إلى هجوم القبائل على مواقع العمل، مما أدى إلى بداية التدخل الفرنسي بشكل سريع.
عندما دخلت فرنسا إلى الدار البيضاء عملت على إنشاء ميناء لنقل خيرات المغرب وثرواته، خصوصا الفلاحية والفوسفاتية، وابتدأ العمل بإنشاء خط سكة حديد لنقل الحجارة من مقالع سيدي عبد الرحمن إلى موقع بناء الميناء، غير أن سُكان الدار البيضاء والشاوية أعلنوا التمرد على مرور هذا الخط وعربات القطار فوق جزء من المقبرة المجاورة لضريح سيدي بليوط، مانعين انتهاك حرمة المقبرة.
يقول أسامة الزكاري: لا يمكن لأي مغربي القبول بأن يقوم “عدو كافر” بتدمير مقام صوفي وينشئ على أنقاضه خطا للسكة الحديد، وقد كان رد الفعل الطبيعي هو الهجوم على ورش البناء وتدميرها وقتل عدد من العمال الفرنسيين والإسبان.
ذلك ما كانت تنتظره فرنسا، حيث قامت على الفور بتحريك باخرة حربية إلى الدار البيضاء، ثم قامت بقصف المدينة قصفا عنيفا سقط على أثره الكثير من الضحايا المدنيين، ومع ذلك فإن فرنسا لم تكتف بهذا العقاب الأليم، بل عمدت إلى احتلال مدينة الدار البيضاء والشاوية وجزء من دكالة، كما قامت بتشييد خط سكة حديد يربط بين الدار البيضاء ومراكش دون أن تستشير أحدا.
تمدد أذرع المستعمرين
يقول الباحث في التاريخ المعاصر أسامة الزكاري: كان هذا يمثل بالنسبة للفرنسيين موقعا إستراتيجيا لإنشاء أول محطة قطار مع الميناء تكون هي المنطلق أو الركيزة الأساسية للتوسع في كل الاتجاهات، فإذا ما نظرنا إلى خريطة المغرب فإننا نجد الدار البيضاء تشكل قلب المغرب، وستكون الوجهة ذات محورين اثنين: المحور الأول مراكش، والمحور الثاني فاس.
وقع الاختيار على هاتين المدينتين لأسباب وجيهة بالنسبة للمستعمر الفرنسي، فمدينة مراكش لأنها بوابة التحكم في جنوب المغرب، أي سوس والصحراء، وفاس لأنها وسيلة للربط بين المستعمرة الجزائرية والمستعمرة الجديدة التي هي المغرب.
لكن عندما بدأت فرنسا تتوسع باحتلالها للشاوية وأجزاء من دكالة والمغرب الشرقي كله تقريبا، أدركت إسبانيا الخطر المتمثل في إمكانية ضياع المغرب من يديها، فأسرعت إلى تدشين خط يمتد على طول 41 كيلومترا يربط بين تطوان وسبتة، فقد كان حلمها مد خط بين المدينتين، ثم توسعته ليمتد إلى طنجة، وبذلك تصبح طنجة تلقائيا تابعة لحوزتها الاستعمارية، وهذه الخطة لم تكن غائبة عن أذهان الفرنسيين، لذلك سارعوا إلى إنشاء مشروع جديد عرف باسم “خط طنجة/فاس”.
يقول الباحث علال ركوك: هذا المشروع أُنشئت له شركة فرنسية وشركة إسبانية، وقد تمت الموافقة على قروض لبناء هذا المشروع من طرف البرلمانَين الفرنسي والإسباني بسرعة كبيرة.
الحرب العالمية الثانية
إبان الحرب العالمية الثانية زاد اهتمام الفرنسيين بشبكة السكك الحديد في المغرب، حيث تم تجديدها وتوسيعها بخطوط فرعية قصيرة كان الفرنسيون يقيمونها كلما تطلب الأمر ذلك؛ لأن الطرق العادية لم تكن ناجحة في إيصال المعدات والعتاد والذخائر والمواد اللوجستية اللازمة للحرب، لذلك فقد امتدت أذرع السكك إلى حيث يشاء الفرنسيون طولا وعرضا، من أجل الحرب تارة، ومن أجل الاقتصاد واستغلال المعادن تارات أخرى.
يقول علال ركوك: مُدّت مجموعة من الخطوط لربط المناطق ذات المعادن بالموانئ البحرية كخط “بن جرير/آسفي” وخط “بوعرفة/وجدة” إلى غير ذلك، فهذه مجموعة من الخطوط كان هدفها الاستغلال وأخذ المعادن ثم نقلها.
الرحلة السلطانية
في التاسع من أبريل/نيسان 1947 قام السلطان محمد الخامس بن يوسف بزيارة تاريخية إلى مدينة طنجة التي كانت حينها تحت إدارة دولية، وقد اختار السلطان القطار وسيلة نقل إلى طنجة كي يمر بكل المحطات وخصوصا محطة عرباوة التي كانت تعتبر منطقة حدودية بين المغرب الفرنسي والمغرب الإسباني، وبذلك عبر من المنطقة الإسبانية إلى الفرنسية ثم إلى الإسبانية مرة أخرى ثم المنطقة الدولية، وكأنه يبعث بذلك رسالة إلى سلطات الحماية الفرنسية والإسبانية والرأي العالمي مدلولها أن المغرب واحد لا يتجزأ.
يقول الباحث أسامة الزكاري: فهذه الرحلة سمحت للسلطان أن يتواصل مع الشعب المغربي في الشطرين، وفي كل المحطات التي كان يصل إليها القطار كانت تنظم استقبالات شعبية هائلة لم يشهد المغرب مثيلا لها على الإطلاق.
عمليات فدائية
بعد تنحية السلطان محمد الخامس بن يوسف ونفيه من البلاد من طرف المقيم العام الفرنسي بسبب مواقفه المؤيدة للاستقلال، بدأت خلايا مقاوِمةٌ بمجموعة من العمليات الفدائية التي كانت تستهدف الأشخاص والمصالح الاستعمارية الفرنسية ومصالح المستعمرين والمتعاونين معهم.
وقد تحولت المقاومة في تلك الفترة إلى أساليب جديدة من شأنها أن تقوض عمل الاستعمار سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وحتى على مستوى البنية التحتية في عمليات تستهدف تخريب خطوط السكك الحديد وحدها أولا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى تفجير القطارات، فتلك عمليات ألانت الخطاب الاستعماري مقابل اعتلاء صوت التفجيرات الفدائية.
يقول علال ركوك: كان ذلك سببا في دق ناقوس الخطر بالنسبة لسلطات الحماية، مما أدى إلى محاولات لتلطيف الأجواء ونقاش فكرة الاستقلال مع رجال الحركة الوطنية، نظرا إلى أن هذه الأوضاع لم تعد آمنة للأوروبيين داخل المغرب.
قطار الدار البيضاء السريع
قام مجموعة من رجال المقاومة الفدائية بدس بعض المتفجرات والقنابل في قطار الدار البيضاء/الجزائر السريع، والذي كان يحمل مجموعة كبيرة من النخب الاستعمارية المدنية والعسكرية، وكان لانفجار هذا القطار وقع كبير على المستوى المحلي والخارجي.
يقول أسامة الزكاري: أهمية حادثة القطار السريع الدار البيضاء/الجزائر ليست في نتائجه المباشرة، ولكن في الصدى الكبير الذي خلفته في مستويين مختلفين: المستوى الأول في صفوف المغاربة إذ أنها أعطت شحنة كبيرة لحركات المقاومة لأنها كانت عملية ذات هجوم كبير جدا ولأنها استهدفت نخبة من الفرنسيين بينهم مدنيون وعساكر، وأما على المستوى الثاني فقد هزت الحادثة كيان الاستعمار، فلم يكن أحد يتصور أن المقاومة تستطيع الانتقال إلى عمل نوعي من هذا المستوى.
المسيرة الخضراء
بعد دعوة الملك الحسن الثاني إلى تنظيم مسيرة تضغط على إسبانيا للخروج من الصحراء الغربية، تم تنظيم مسيرة كبرى عام 1975 شارك فيها نحو 350 ألف متطوع، وقام القطار بنقلهم من جميع المناطق التي أتوا منها إلى مراكش التي ينتهي خط السكة الحديد عندها، ثم نُقلوا بعدها بالحافلات إلى أغادير.
يقول الباحث بمركز الدراسات والأبحاث في القيم عبد الخالق بدري: إن للقطار رمزية وطنية، وكان حاضرا في مجموعة من المحطات الوطنية، ولعل أبرزها ارتياد محمد الخامس له، والمسيرة الخضراء.
لا يقتصر الأمر على الأحداث الوطنية أو التاريخ العام للدولة، ففي نفس كل امرئ من الذكريات مع القطار ما لا يعد ولا يحصى، منذ شغف الطفولة إلى ترحال الشباب في طلب العلم إلى تأملات الشيخوخة، شريط من الذكريات والأصوات والمناظر منظم في ذاكرة كل مغربي يلخص له مسيرة حياته.