أعراس الجزائر.. عَبق الماضي وأَلق الحاضر
هنا الجزائر أرض الفاتحين وعروس أفريقيا، هنا يحافظ السكان على موروثهم الثقافي العريق الضارب في القِدم، ويتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم الراسخة الأصيلة، وما أعراسهم إلا مثالا جليا على ذلك، فرغم الحداثة بقوا متمسكين بتلك الطقوس التي تفوح منها رائحة الماضي بعبقه وألقه.
يقدم هذا الفيلم الذي تعرضه قناة الجزيرة الوثائقية نموذجين للأعراس في الغرب الجزائري، أحدهما من مدينة تِلمسان، والآخر من مدينة المُعسكر، ورغم التشابه والتلاقي في كثير من العادات إلا أن لكل مكان منهما تفرّدا في بعض العادات.
منسوج مطرز بالفضة.. التراث الأندلسي
في مدينة تلمسان تتفرّد العروس بحُلة جميلة، حيث تبرز مرتدِية المنسوج التّلمساني المطرز بخيوط من الفضة، والمزيّن بالأحجار البراقة. في هذا اليوم يكون التعارف بين العائلتين، تصطحب أم العريس نساء العائلة وتذهب إلى بيت العروس للتعرف عليها وعلى أمها وعائلتها، ثم تخطبها لابنها.
تتجه النّسوة لبيت العروس وسط الزغاريد والأهازيج، وها هن أخوات العريس يرتدين الحايِك السِّفساري الذي تُزينه خيوط ومطرزات صفراء، وتعلو رؤوسهن الشاشة السّلطانية، ويأخذ أهل العريس معهم موائد الطّيفور المُعبّأة بالحلوى الجزائرية الشهيرة المنوعة، كالمَقروط المعجون بالعسل واللوز والعرايش والقَنيَط.
تجلس النسوة ويبدأ التعارف، ثم تطلب أم العريس رؤية العروس فتحضر برفقة والدتها بكل خطوة تخطوها، ولترسيم الخطبة تقدّم والدة العريس خاتما لعروس ابنها، كذلك يقدمون الحِلية التقليدية والمطرزات الأندلسية والبرانس والجِيب المعروفة بالقَنادير، التي تعكس التراث الأندلسي المتأصل في تلمسان. ويظهر هذا جليا في المطرزات الحريرية والقُطنية.
حفلة الملاك.. “زواج ليلة تبيله عام”
بعد التعارف يُقدم أهل العروس الحلوى المغلّفة بأطباق زجاجية وأشرطة ملونة، ومن هذه الحلوى ياسمين اللوز والمَخبز المَشُوك، بالإضافة للقهوة والحليب الذي يعبّر عن الحياة الصافية الواعدة، وتبدأ النسوة بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مُعلنين القبول وسط حفلة يطلق عليها اسم المَلاك.
بعد ذلك، يدفع أهل العريس المهر والذهب والفضة، ويسمى باللهجة الدارجة “الدُّفوع”، وتبدأ العروس بالتسوق والتجهيز لكل ما يلزم بيت الزوجية من الأثاث والمطرزات والمفروشات، ومنها الزرابي التي لا يخلو بيت جزائري منها، وهو عبارة عن فَرش صوفي يضِجّ بألوان تقليدية خلابة، وكذلك الستائر العثمانية المعكوسة، والمَلاءات الخفيفة، إذ تعج أسواق الجزائر الشعبية بالأقمشة المنوعة والأزياء التقليدية التي تمزج بين روح الحاضر وعراقة الماضي.
تقول الباحثة في التراث هيجيرا هيشور: إن العروس تقوم بتحضير التُّروس (الجهاز) وهو كبير، وتستحضر المثل الجزائري الذي يقول “زواج ليلة تبيله عام”، أي أنها تستغرق عاما -كناية عن طول المدة- للتجهيز حتى تكون بأبهى حُلة في ليلة عرسها.
ليلتا الحناء والتصديرة.. عروض الأزياء الملكية
بعد أن تكمل العروس شراء جهازها تأتي ليلة الحناء، إذ توضع الحناء في كف العروس وتوضع قطعة ذهبية فوقها وتلبس قفازا أبيض مطرزا، ويُلف جبينها بخيط الروح “الزَّروف”، وهو خيط حريري مرصّع بالذهب والأحجار الكريمة، وتُصلي النسوة على الرسول الكريم ثم يبدأن بالغناء للعروس.
بعد ذلك تأتي “التصديرة” وتعني ليلة العرس وتستعرض فيه العروس الأزياء، وتقوم بعرض كل ما قامت بتجهيزه من مطرزات ومرصعات من ملابس تقليدية كالحايك والقفطان والجِبب المبهرة، ويرافق ذلك قرع الطبول وغناء النسوة.
تتنوع الأزياء بين الكراكو العاصمي المكون من الكنزة والجِبّة القُسنطينية والوهرانية، وهو مصنوع من القَطيفة والجِبّة العنّابية والقفطان المغربي المطرّز بنقوش تتباهى بها العرائس توارثنها من أميرات الأندلس، وهذه الملابس مكلفة جدا تعتمد على كمية خيوط الذهب والفضة وهي مُرصّعة بالعقيق واللؤلؤ، وتلبس العروس الألوان المبهجة لتكون ملكة في عُرسها.
يوم الطعيم.. وليمة العرس
تقول الباحثة آية نورية: إن التكاليف باهظة جدا من طرف العريس والعروس على حد سواء، فالعريس مكلّف بالدُّفوع حيث يقدّم للعروس الذهب كطقم الذهب والمُسبّعات -أي سَبع أساور- والخمسة التي تحفظ من العين وهي غالية جدا، ويمتاز الذهب في الجزائر بنقوشه الإسلامية الأندلسية الطراز.
وهناك المَسايس والمِسيبعة والمَسكيّة وهي مجموعات أساور تختلف من حيث الأشكال ومُرصّعة بالأحجار الثمينة. ومن حُلي العروس أيضا المناغش والكَرفاش بولحية وهو عبارة عن سلسلة طويلة مَضفورة مرفقة بمِغلق وميدالية، ولا يفوت العروس اقتناء الخاتم الأندلسي الجميل.
في يوم العرس وعند الزوال يبدأ يوم الطّعيم، حيث يقبل الرجال على صالة الأفراح مُلبّين دعوة العريس لتناول الغداء، وتقوم قريباته بتحضير الوحبات التقليدية كشُربة الحريرة والمحمّر، ويُحلّون بالعنب المطهي بالعسل، وأصناف الحلوى الأخرى.
القفطان التلمساني.. الزفاف التقليدي
ترتدي العروس القفطان التلمساني المميز، فبمجرد النظر إليه تعرف أنه قادم من تلمسان، وتغطي وجهها بالحايك وهو غطاء مصنوع من الحرير، وتخرج من بيت أهلها برفقة فرقة تعزف موسيقى القَرقابو أثناء الرقصات التقليدية.
تُزف العروس لبيت زوجها وسط قرع الطبول المسمى الفْقيرات يرافقها الخيالة الذين يجوبون بها المدينة، وعندما يصل الموكب إلى بيت العريس تقوم أخوات العريس وقريباته المتزوجات حديثا باستقبال العروس والرقص على أنغام الموسيقى الشعبية بملابسهن التقليدية كالقفطان والجِبّة.
ويستعرض الخيالة مهاراتهم بالرقص على ظهور الخيول ليبثّوا الحماسة بين الحاضرين، ويطلقون البارود في الهواء لإشهار الزواج.
فارس الأحلام.. استقبال بالتمر والحليب والبارود
تستقبل أم العريس العروس عند الباب بالحليب والتمر أيضا لبدء حياة صافية وسعيدة، وتُهدي أم العريس للعروس مفتاحا ليفتح الله لها كل أبواب الخير.
بعد ذلك تجلس العروس تحت الحايك الحريري وسط النسوة اللواتي يرقصن حولها ويغنّين المدائح والأهازيج، وتدخل والدة العريس وتقوم برسم العَقَر للعروس باللون الوردي على وَجنتيها وشفتيها، والعَقر رمز الحشمة كالوردة أما النقاط البيضاء فتعني تفتّحها كالزهرة.
وفي الخارج يمتطي العريس الحصان مرتديا البرنس الأبيض لتقوده فرسه إلى عروسه برفقة خيالة الفانتازيا، ثم يلوّح بالبرنس ويلقيه على أصدقائه وسط إطلاق البارود ورقصات الخيالة، فتستقبله والدته وتُلبسه سلسلة الخمسة لتحميه من العين، وتقوم أخته بمسح عرقه.
ليلة العمر.. الحدث الذي طال انتظاره
يدخل العريس محيّيا عروسه كاشفا وجهها، ثم يقومان بأخذ الصور التذكارية. وتتزين العروس بالشَّدّة التلمسانية، وهي من أجمل الملابس التقليدية الجزائرية المستوحاة من أميرات الأندلس، وتتكون الشّدة من تاج مخروطي مرصع بالأحجار الكريمة يلفّه خيط الزروف، وتتدلى من التاج المَناغش. وتعلو صدر العروس مجموعة من السلاسل التي تسمى الشَّرتلة ملابس العروس التلمسانية كأنها لوحة فنية غاية في الروعة، وتلك الملابس مزيج ثقافات مختلفة كالهندية والأندلسية صيغت بلمسات جزائرية.
ترتدي النسوة في العرس التلمساني عدة أنواع من الملابس كالدَّرّاعة المنصورية والجِبّة الصْطِيفية والكَراكو التلمساني. وكعادتها تبقى عروس تلمسان تستعرض ملابسها طول الليل وسط النسوة في أجواء احتفالية بهيجة.
في عرس تلمساني آخر يجتمع أصدقاء العريس في بيته ليجهز نفسه في ليلة العمر، ويحضر الحلاق إلى البيت لتَزيينه وسط فرحة الأصدقاء والأهل، بعد ذلك يتم زفّه لعروسه وسط الخيالة بلباسهم العسكري مطلِقين البارود في سماء تلمسان. وفي قاعة أفراح مجهزّة، تنتظره عروسه وبنفس الأسلوب التقليدي يتم الزواج.
معسكر.. عرس في مدينة الأمير عبد القادر
أما مدينة معسكر، مدينة الأمير عبد القادر الجزائري، رمز المقاومة التي تقع في شمال غرب الجزائر، فتُعرف بعراقة تقاليدها المتميزة في الأعراس، ورغم أنها تلتقي مع أعراس المدن الأخرى في بعض العادات، فإنها تختلف في بعض التفاصيل.
يبدأ العرس في معسكر بيوم التعارف بين أم العروس والعريس، وتحضر العروس بملابس بسيطة، وتطبع قبلة على رأس أم العريس كجزء من التقاليد، ويتم القبول.
تقول الباحثة خديجة المُريني: في هذه اللحظة يتم القبول المبدئي، ثم يأتي الرجال ليطلبوا العروس بشكل رسمي، وتتم الموافقة ويقرأون الفاتحة، ويُقدَّم الحليب للضيوف بأكواب فخّارية ذات نقوش تقليدية تعكس روح الجزائر، ويقدم التمر إلى جانب الحليب.
ثم يلي ذلك تقديم أطايب الطعام كالطاجين مع الزيتون والكسكسي المُزيّن بالدَّرّاج بألوان زاهية والمحشو بالمكسرات كاللوز والبندق، كما يُقدم التمر المطبوخ بالعسل، وتُختتم جلسة “لِكْمال” بالحلوى الجزائرية والشاي.
طقوس التقدام.. الحناء وماء الزهر
بعد القبول يتجه أهل العريس والمدعوون إلى بيت العروس لإحياء ليلة الحناء، ويحملون معهم الطبق الذي وُضع بداخله جهاز العروس، ويقدم أمام الحاضرين وسط أهازيج وزغاريد النسوة، وتسمى هذه الطقوس “التّقدام” ويتغنى خلالها الحاضرون بخصال العروسين. والحناء هي رمز السعادة والفرح، وماء الزهر هو رمز المودة، ويمتزجان معا في ليلة الحناء لمضاعفة الحظ السعيد.
في هذا اليوم ترتدي العروس ثوبا أبيض، ويتم وضع الحِناء في كفها، وتقوم أم العريس بالتباهي وعرض ما أحضرت من ذهب دلالة على إكرام عروسهم ومكانتها لديهم، ثم يُجمع في صُرّة من قماش وتوضع في حِجر العروس.
ويُقدم أهل العروس بدورهم الضيافة من الطعام التقليدي كالمُحمّر والحَريرة والكسكسي المُزيّن بالزّبيب والمكسرات.
ليلة التصدير.. رقصات وموسيقى وزغاريد
وفي بيت العريس تحديدا، يحتفل الأهل بالعريس بحضور أصحابه وأقاربه، وتُبدع الفِرق الشعبية في إحياء هذه المناسبات، وتصدح موسيقى القَرقابو، ويؤدون رقصات تعبيرية مُستوحاة من رقصات الحرب عند القبائل الجزائرية، ويستمر الحفل بقرع الطبول والجلاجل النحاسية والأهازيج، فيما تقوم أم العريس بوضع الحناء في كف ابنها.
تبدأ المراسم في ليلة التصدير بظهور العروس بأجمل حُلة برفقة زوجها على أنغام موسيقى القرقابو، وفي البداية ترتدي العروس الجِبّة الفُرقانية والقطيفة السوداء المرصّعة بالخيوط الذهبية مستعرِضة جمالها وحِليتها، ثم تختتم يومها بالفستان الأبيض كرمز للطهارة والنقاء.
يمتلئ المكان بالزغاريد والغناء والرقص التقليدي، وعلى باب بيت أهلها قبل مغادرتها يقومون بوضع بيضة للعروس كي تدوسها بقدمها لتكون أيامها بيضاء وخيرا، وتقوم بنَثر السكّر إلى الوراء لتكون حياتها حلوة مع عائلتها الجديدة.
نُصب الأمير عبد القادر.. لا تحلو الأفراح إلا برائحة المقاومة
بعد مراسم الزفاف تغادر العروس بيت أهلها مع العريس في سيارة وسط فرقة من الفرسان الراقصين، وتخليدا لبطولات الأجداد في هذه المنطقة ووصلا للماضي بالحاضر، يصل العروسان إلى النُّصب التذكاري للأمير عبد القادر الجزائري، وعند شجرة الدردارة التي بُويع تحت ظلها الأمير يتم التقاط الصور للعروسين للذكرى.
وقبل مغيب الشمس، تستقبل أم العريس كَنّتها الجديدة أمام المنزل وتُقدم لها الحليب والتمر، وهو موروث ثقافي يرمز لبداية حياة سعيدة، وتحتفل العروس وقريباتها أمام المنزل، فيما يقوم الراقصون بالرقص أو “اللعب” كما يقال باللفظة الدارجة.
وتؤكد آسيا محيدب خبيرة التراث بأن الرقص في الأعراس حاجة أساسية، إذ يقوم أهل العروس والعريس بالرقص أو اللعب، ويسمى الراقص باللاعب احتراما لرجولته، لأن الرقصات ولدت من رحم المقاومة، وهي رقصات حربية، حيث يقومون بهز أكتافهم واستخدام العِصي. أما لباسهم فعباءة واسعة يرتديها اللاعب مع سروال فضفاض يسمى اللوبيا.
وقد كان العرس الجزائري يمتد قديما لسبعة أيام بلياليها، ولكن مع تغيّر الأوضاع الاقتصادية تغير الوضع. ورغم الحداثة، فإن شباب وشابات الجزائر يحرصون على إقامة أعراسهم بطريقة تقليدية إحياء لعاداتهم وتقاليدهم الأصلية، مستحضرين روح الماضي العريق بتفاصيله المبدعه، ليزهو به حاضرهم ويبقى لأجيال وأجيال.