“الكتاب الأخضر”.. حين يعمل عنصري أبيض عند ثري أسود

ذاق الأمريكيون من أصول أفريقية على مدى عقود من الزمن أبشع صنوف العذاب والذلّ، ومع الوقت ظهرت منظمات الحقوق المدنية التي تطالب بالمساواة بين البيض والسود، وتنادي بضرورة إنهاء التمييز العنصري المتجذّر في أمريكا، وعليه تم خلق العديد من الآليات التي من شأنها التخفيف من حدّة هذه الاعتداءات والتصفيات الجسدية التي تطالهم لأن ذنبهم الوحيد أنهم سود البشرة وُجدوا في المكان والزمان الخطأ.

ومن هنا أُنشئ دليل تحت عنوان “الكتاب الأخضر للسائقين الزنوج” صدر أول عدد منه سنة 1936، وتدور فكرته حول رسم مخطط طرق، وتسمية الأماكن والفضاءات والفنادق التي يمكن أن يذهب إليها أو يسلكها الأمريكي من أصل أفريقي دون أن يتعرض للأذى، لينقذ هذا الدليل بعد انتشاره الملايين منهم بعد إعادة طبعه وتوزيعه عبر كل مدن أمريكا.

وانطلاقا من فكرة هذا الدليل جاء فيلم “الكتاب الأخضر” Green Book) 2018) للمخرج بيتر فاريلي، والذي كتبه له السيناريو كل من بريان كوري ونيك فاليلنجا بمشاركة المخرج، ولعب دور البطولة فيه كل من فيجو مورتنسين وماهر شالا علي وليندا كارديليني وودون ستارك.

أبيض عنصريّ يعمل سائقا عند أسود

تدور قصة الفيلم في بداية ستينيات القرن الماضي، حين يُقرر عازف البيانو البارع والشهير دون شيرلي توظيف سائق سيارة خاص يأخذه في جولة موسيقية في العديد من المدن الأمريكية يقدّم فيها عروضا فنية كعازف على آلة البيانو، ومن بين شروط شيرلي –وهو أميركي أسود- أن يتمتع السائق ببنية جسدية تسمح له بأن يكون حارسا وسائقا في الوقت نفسه، وحتى مساعدا في العديد من المرات. ولأن توني ليب ممن يتمتعون بهذه المعطيات فقد قبل بهذه المهمة، رغم أنه عنصري يكره السود ويعتبرهم أقل شأنا من البيض، لكن الأزمة المالية التي ألمّت به بعد إغلاق الملهى الذي كان يشتغل به كحارس جعلته يقبل هذه الوظيفة التي تستمر ستة أسابيع مرغما.

تبدأ المغامرة على الدرب في سيارة يقودها أبيض لفائدة رجل أسود، وهذه من المشاهد العبثية والنادرة التي لم يتعود الأمريكي على رؤيتها. من هنا يبدأ القلق والحيرة، لأن الأماكن التي يزورانها مليئة بالعنصريين والمتعصبين من البيض، لتتسع الرحلة ويعرف كل واحد منهما سريرة الآخر ومعدنه، فيزول التحفظ والحكم المسبق، وتطفو الحقيقة على السطح، ولا يبقى سوى الصفاء الإنساني الذي يحطم الحواجز ويزيل اللون والحكم، وفي المقابل يظهر الشر والألم والظلم الذي عاشه ويعيشه الأسود، لا لشيء سوى لأن بشرته لا تطابق جلد الأبيض الذي يعتقد بأنه مختلف وسيد والآخر عبد وتابع.

“الكتاب الأخضر للسائقين الزنوج” يرسم مخطط طرق ويسمي الأماكن التي يمكن أن يسلكها الأمريكي من أصل إفريقي دون أن يتعرض للأذى

البطل والبطل المضاد.. مشاهد عبثية

لم يُقدم الفيلم في مفتتحه تصورا شاملا لما سيحدث فيه أو القضية التي سيتطرق لها، بل قام بعرض تصور شامل لشخصية توني ليب، حتى إن المخرج قام بخلق مشهد متكامل فيه العشرات من الممثلين والكومبارس (شخص عادي يؤدي دورا ثانويا) داخل الملهى الليلي الذي يعمل فيه توني حارسا.

لقد كانت الغاية من هذا المشهد القصير هو ربح أربع نقاط أساسية انعكست بشكل كبير في الفيلم، وهي أولا إظهار توني بأنه قوي من خلال ضربه أحد الزبائن داخل الملهى بعد الفوضى التي أحدثها، والنقطة الثانية هي الشجاعة الكبيرة التي يتمتع بها إذ إنه بعد أن علم بهوية الذي اعتدى عليه أعاد ضربه. أما الثالثة فهي الذكاء الذي يتمتع به، وينعكس هذا من خلال اتفاق عقده مع زميلة تعمل عند باب الصالة، حيث تقوم بأخذ معاطف وقبعات زبائن الملهى، وعند خروجهم تعيدها لهم، لكنها لم ترجع قبعة ثمينة لأحد الزبائن المهمين، وهي قبعة ثمينة بالنسبة له، لأنه تلقاها كهدية من عند والدته المتوفاة، وحجتها بأنها ضاعت، وقد أخذها توني وقدمها لهذا الزبون فيما بعد، بحجة أنها سرقت وهو من قام باسترجاعها، ليربح من الأخير المال والامتنان. أما الرابعة فهي إغلاق الملهى، وبالتالي أصبح توني بلا عمل، وهذا ما سيبرر له لاحقا العمل عند شيرلي، وفي الوقت نفسه الهروب مؤقتا من الشخص الذي ضربه بعد أن توعده لاحقا.

أما المشاهد الأخرى المتتابعة فقد عمل عليها المخرج/المؤلف كي يُظهر صفات البطل الأخرى، فمن خلال مشهد البيت أظهر عنصرية توني، فقد وَجد توني عاملين من السود يقومان بالسمكرة في بيته بدعوة من زوجته دولوريس، فوصفهما بالباذنجان، وبعد أن قدمت لهما زوجته كأسين من العصير قام توني من مكانه حين أنهيا عملهما ورمى الكأسين في سلة القمامة، وذلك على الرغم من أن أسرته متدينة، وهو ما يبدو من صَلاتهم عند الأكل، وتعليق رمز الصليب فوق سرير النوم.

أما الجهة الأخرى فيعكسها البطل المضاد، وهو دون شيرلي الذي يملك بيتا مليئا بالتماثيل وجثث الحيوانات المحنطة، ناهيك عن كرسي العرش الذي يجلس عليه، وهذا للدلالة على أن هذه الشخصية تهتم كثيرا بالجانب الروحي والصوفي، نظرا للمعتقدات التي يؤمن بها والحاجيات التي يملكها، وهذا ما خلق تصادما في اللقاء الأول الذي جمع الشخصيتين في مقابلة العمل.

وبعد استعراض هذه الشخصيات من جوانبها النفسية وحتى الفيزيائية تركها المخرج داخل السيارة، وذلك لصنع مشاهد عبثية يصنعها التضاد والاختلاف والمرجعية التي يملكها كل منهما.

شيرلي يملك بيتا مليئا بالتماثيل، ناهيك عن كرسي العرش الذي يجلس عليه، وهذا للدلالة على أن شخصيته تهتم بالجانب الروحي والصوفي

على الألم أن يُغيّر معسكره

العديد من الأحداث التي جرت أثناء الطريق سمحت لكل طرف أن يُغيّر نظرته للأشياء، حيث وقف توني على أحداث عديدة تعكس مدى معاناة وألم الرجل الأسود من قبل المجتمع الأبيض، ورأى بأن شيرلي رغم شهرته الواسعة والحفلة الخاصة التي أقيمت على شرفه في أحد بيوت الأثرياء فإن أصحاب هذا البيت لم يسمحوا له باستعمال حمام البيت، كما أن الحفلة السنوية التي كان سيقدمها في أحد المطاعم الفخمة رفض صاحبه أن يتناول العشاء فيه رغم أنه الشخصية الأساسية، بالإضافة إلى صاحب المتجر الذي رفض هو الآخر أن يبيع بدلة لشيرلي، وهو ما جعل توني يتعاطف معه، بل أكثر من هذا ضرب شرطيا لأنه أهان صديقه الجديد شيرلي.

هذه المواقف جعلت توني يشعر بآلام السود ومعاناتهم المترتبة على التمييز العنصري، بل أكثر من هذا تبدّل موقفه وحكمه عليهم، وأصبح ينظر إلى شيرلي على أنه صديق، والدليل ما فعله في العديد من المرات، ووقوفه في وجه صديقه وتحريضه كي يغضب من هذه التصرفات، ويقف في وجه تصرفات البِيض، وهذا ما دفع شيرلي إلى أن يرد عليه بطريقة حزينة “لست أسود كفاية، ولست أبيض كفاية، مرفوض من الجهتين”، لأنه ورغم أنه أسود لم يعش الحياة الحقيقية للسود، والتي عرف جزءا منها حين نزل من السيارة أثناء تعطلها، حيث رأى مجموعة من السود الفلاحين يرتدون ملابس هشة، فتفاجؤوا حين رأوه سيدا، وتفاجأ هو حين رآهم بتلك الحالة، فحزن لحالهم وحال نفسه، من هنا غيّر الألم معسكره.

توني رجل قاس وعنيد، لكنه لم يتخل عن الجانب العاطفي فيه، فمشاعره يبثها لزوجته عبر الرسائل التي يكتبها لها باستمرار

الكتاب الأخضر.. سينما الطريق

قوة القصة وحساسيتها لم تجعل المخرج يتنازل عن الجانب الجمالي والفني في الفيلم، فنحن نرى كيفية تلاعبه بالزمن في الكثير من المشاهد، من بينها الذهاب إلى المستقبل في حين أن زمن الحاضر لم ينتهِ، ومثل مشهد البيانو الذي لم يجده في قاعة العرض فتشاجر مع العامل في القاعة، أو مع رسائل توني التي كان يمليها شيرلي عليه، وهنا يتقدم الزمن ويتأخر.

ومن بين فنيات الفيلم أيضا انعكاس صورة خريطة أمريكا داخل السيارة، وذلك للدلالة على قطع المسافات والتنقل، بالإضافة إلى عقد الكثير من المقارنات، من بينها مثلا الشرطي الأبيض الذي أهانهما، ومشهد آخر مضاد له حين دلّهما شرطي آخر على الطريق وساعدهما في تبديل عجلة السيارة. أما المنعرجات الحاسمة فهي في عملية صناعة الحبكة، وهي في المشهد حيث يلتقي توني بصديقين له في نيويورك، فقدما له عرضا ماليا كبيرا كي ينضم لهما في أعمال غير مشروعة؛ أحسّ شيرلي بهذا فقدم له عرضا مضادا، وهو أن يصبح مدير أعماله.

ينتمي فيلم “الكتاب الأخضر” إلى سينما الطريق التي تفرز المواقف والأحداث في منعرجات الرحلة وتقدمها. وقد اعتمد المخرج على عناصر كلاسيكية سواء في البناء الشكلي والبناء الدرامي وعلى مستوى الشخصيات، لكن سلاسة تعامل الممثلين مع المواقف، والهدايا الكوميدية التي قدمها المخرج بفضل مرجعيته الكبيرة في هذا النوع من السينما؛ جعلت مدة الفيلم الزمنية (130 دقيقة) تمر دون ملل أو ثقل، وهو الرهان الصعب الذي نجح في صناعته المخرج بيتر فاريلي.

اختير فيلم “الكتاب الأخضر” ليكون فيلم الافتتاح في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ40، (عقدت فعالياته من 20-29 نوفمبر/تشرين الثاني 2018)، كما شارك في العديد من المهرجانات العالمية المهمة، وحصد أهم الجوائز آخرها جائزة “غولدن غلوب” لأفضل فيلم كوميدي أو موسيقي، كما تم اختياره من قبل رابطة المنتجين والمجلس الوطني لنقاد السينما بأمريكا كأفضل فيلم لعام 2018، وفاز كذلك بجائزة الجمهور في مهرجان تورنتو، وهي جائزة تعكس أبرز الخيارات التي يعتمد عليها الأوسكار.


إعلان