القدود الحلبية.. ألحان صوفية تقمّصها الغناء الشعبي

تتوحد الروح بالخالق انتشاء وطربا في لحظات التجلي الصوفية والعشق الإلهي، فتتردد الأدعية والابتهالات:
عليك صلى الله … يا خير خلق الله
والآلِ والأصحاب … والقومِ أهلِ الله
تتسرب تلك الأدعية إلى العامة بلحن يفيض بمشاعر تسمو إلى فضاءات روحية، وتتمازج بصور فنية، حتى أعجبوا بها فأخذوا ذاك اللحن وحافظوا عليه (كما أخذوا غيره)، فاللحن السابق على نغمة الحجاز بقي كما هو عندما صاغوا منه أغنية شعبية:
يا الأسمر اللون … يا الأسمراني
تعبان يا قلب خيو … هواك رماني
القدّ.. المقدار والمقاس
هذا النظم هو القُدود التي نشأت ونمت في جلسات الذكر، بمعنى أنها أغان خفيفة يترنم بها العامة، فالقَدُّ أتى من حلقات الأذكار، وتحضر في هذه الحلقات أغان دينية تُنشد ابتهالا وحبا لله. وقد فُتنت العامة بلحنها وموسيقاها، فأزاحت الكلمات الدينية وأحلت محلها كلمات غزل شعبية بميزان الأغنية الدينية، والعكس صحيح فقد وضع مُنشدون دينيون كلمات دينية على وزن ولحن أغان شعبية، فمن هنا نشأ القد، أي كذا بقد كذا، أي بمقدار.
ففي اللغة القد: القامة أو القوام والقدْر أو المقاس أي مقدار، أما اصطلاحا فهو أن تصنع شيئا على مقدار شيء، وشيئا على قدّ شيء في الإيقاع والموسيقى وما يوافقهما، وفي القد قد تتماثل القافيتان وحرف الروي في المجمل[1].
ويعرفها الباحث السوري عبد الفتاح قلعه جي بأنها منظومات غنائية أنشئت على عروض وألحان منظومات غنائية شعبية ذات سيرورة، بحيث يتم المحافظة فيها على الوزن والإيقاع الموسيقي، مستبدلا الشاعر النص الشعبي القديم المكتوب غالبا بالعامية بنص جديد مكتوب غالبا بالفصحى[2]، فهي أغنيات شعبية لا يُعرف ناظمها أو ملحنها نُسجت على أعاريض وألحان دينية بلا زيادة أو نقصان، فيظل اللحن كما هو، وتوضع الكلمات الغزلية الجديدة بدل الدينية المستبدلة، فيستفاد من اللحن الذائع لكون الطبيعة اللحنية تتوافق مع المناسبات الدينية والأفراح فتنشد هذه القدود فيها، وتجري على ألسنة العامة مقبولة بينهم، لأنها ليست بغريبة عنهم، وفيها روح مألوفة منهم.
القدود الحلبية.. رؤى موسيقية
نشأت القدود احتياجا لثقافة جديدة وفن جديد يلبي الحياة والمجتمع المتحرك، فجاءت رشيقة خفيفة خرجت من الزوايا الصوفية تبحث عن المجتمع لتعبر عنه وتمسك بتداعياته فالتقطها العامة متأثرين بلحنها وموسيقاها ذات النفحات الوجدانية، مع مرام ديني، يؤديها أتباع الطرق الصوفية كالقادرية والرفاعية والنقشبندية والدسوقية وغيرها.
فالشعر الشعبي ينشأ وَمضة في لحظة إلهام، يتأثر بما حوله ويؤثر فيه، يتدحرج لغة سهلة من بيئته المجتمعية يلتقط مفرداتها وموسيقاها ويسبكها بنحت فني خفيف يتهادى بينها وبين المحمولات التي دخلت إليه بموضوعات تحاكي البيئة، معتمدا على موسيقى الأناشيد الدينية الروحية، والتي يحاول مغني القد تطويرها بحسب ثقافته ومعرفته، ومقدراته الصوتية بتطويل وتقصير الكلمات والنغمات، وامتلاكه لغة موسيقية ترمي بثقلها على الألفاظ حتى تصبح لغة فنية مميزة له.
لا يتقولب القد موسيقيا، يبقى حرا طليقا يعبر عن طقوسه الأساسية في المناسبات الدينية والأجواء الاحتفالية، يُعلي الزخارف والحلي الموسيقية المترافقة مع اللحن، فقد يستعين ببعض النغمات خارج حيز المقام، فهو وإن حافظ عليه، فإنه غير جامد يحاول التجديد والتطوير فيه مفردات ونغما.
نتلمس هذا التنويع في دعاء:
يا إمام الرسل يا سندي
أنت باب الله ومعتمدي
والذي صيغ على قالبه:
تحت هَوْدَجِها وتعالجنا
صار سحب سيوف يا ويل حالي
القدود الحلبية.. بين القد والموشح
لا تتساوى العامة التي أخذت تنظم من الألحان المقتبسة قدودا تساير واقعها، فظهرت فروق فنية فيها تتراوح بين علو وانخفاض، فكان القد الشعبي العامي المتوارث الذي لا يُعرف كاتبه أو ملحنه، فتنزع الكلمات منه ويبقى اللحن على كلمات جديدة تُنحت لتكون ملائمة للثيمة التي وضع القد من أجلها.
وظهر ما يعرف بالقد الموشح، والذي ينسج على نظام الموشح فنيا، بصياغة لحنية تميزه عن الموشح المتكامل[3] بنص جديد وفنية أقل منه، فتكون الجملة اللحنية مختلفة بينهما، ففي القد الموشح تصاغ على طابعه وفي المتكامل كذلك، إذ إن هناك اختلافا بين القد والموشح والدور، كما أن هناك موشحات أندلسية وموشحات حلبية، وهناك قدود حلبية وقدود حمصية.

يتشابه القد والموشح، فهناك تجانس بينهما في وحدة عضوية فكرية متناسقة، وبنمط موسيقي يحمل الأنفاس ذاتها، لكن القد أسهل من الموشح الذي يحمل وزنا ودرجة أعلى تصل إلى الشعرية، وأعلى قيمة فنية بتقصيد شعري وتأليف أمتن مترابط، ألفاظه متراصة مسكوبة في قوالب موزونة، أما القد فينساب بسهولة عذبة يقترب من العامة بتبسيط تدركه يخاطب ذائقتها، ولا يرقى إلى الشعرية العليا، فشعريته خفيفة عامية تُستوحى بمفاهيم أولية، لكنْ كلاهما ذو محتوى رقيق في المعاني جميل في الصنعة.
القدود الحلبية.. تراث قديم
خرج العرب من شبه جزيرتهم المعزولة ببيئة قاسية، فاطلعوا على ثقافات أخرى وحضارات جديدة، وصلوا إلى بلاد فارس والعراق وسوريا، اقتبسوا أشياء لم يألفوها، منها اللحن والغناء اللذان يزدهران في بيئة حضرية، ولا سيما في الأناشيد الدينية التي صاغوها.
فالغناء الديني يتشابه ويقتبس من بعضه بعضا الألحان والأفكار والموسيقى، ويحيل تأويلاته إلى ما يناسبه من نظم جديد ومعان يقصدها، كذلك كانت القدود التي يميل دارسون إلى أن أصلها سرياني نمت في الكنائس، إذ يقال إن القس السرياني مار أفرام (306-373م) كان يمارس هذا القالب خلال قداس الأحد في الكنيسة السريانية على نصوص من الإنجيل[4].

كما أن ديوان الشاعر الحمصي أمين الجندي (1766–1841م) أقدم وثيقة تاريخية لنشأة فن القدود، والذي كان مطورا للموشحات ومجددا لها وزنا وشكلا ومضمونا، وله طابع خاص وسمة محددة في النظم، فأنتج قدودا استمدها منه المعاصرون وأخذها المغنون، فمن أشهر قدوده:
عيرتني بالشيب وهو وقار
ليتها عيرت بما هو عار
ظهرت معه في حمص ونقلها إلى حلب، حيث تأثرت هناك بالتيار الصوفي، وولجت إلى عالمه تبتدع أفكارها وتشب فيه، فنُسبت إلى حلب التي احتضنتها بريادتها وموقعها الإستراتيجي والتجاري.
انتشرت القدود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد أحمد عقيل الذي قصده أبو خليل القباني ليتعلم منه، ويستفيد من تجربته. وفي النصف الأول من القرن العشرين برز علي الدرويش وعمر البطش وصبري مدلل ثم تابع نشرها وتجديدها صباح فخري وغيره. وقد التصقت القدود بحلب مهما يكن أصلها، وتغذت من حجارتها الشهباء في أحيائها القديمة، حتى أمست رمزا منسوبا إليها يحكي سير العاشقين وحبهم الخفي.
المصادر:
[1] “القدود الحلبية شعر رائع الألفاظ رفيع المعاني”، الموسيقى العربية، شوهد في 2/5/2019، في: https://bit.ly/2VLGzA8
[2] عبد الفتاح قلعه جي، دراسات ونصوص في الشعر الشعبي الغنائي، ص 110.
[3] “القدود الحلبية … لمحة تاريخية”، مدونة جلال شعبان، شوهد في 2/5/2019، في: https://bit.ly/2DIF7UB
[4] “هكذا ولدت القدود الحلبية في كنيسة سريانية قديمة”، 8/6/2016، شوهد في 2/5/2019، في: https://bit.ly/2DHB2QC