رقص السّماح.. احتشامٌ يُصارع عُرْيَ المحْدَثين
“سماح.. سماح”، يتنادى الراقصون في الحلقة طالبين الإذن من “صاحب السجّادة” (رئيس فرقة الذِّكر) أو من صاحب الدار للبدء بالرقص في تجلٍّ روحاني يترافق مع الخالق ويتوحد معه في حالة انسجام لاشعوري.
رقص صوفي حلبي
حلب، أرض رقص السماح وموطن شهرته، علامة فنية تتميز بها وينسب إليها، لكن آراء ترى أن هذا النوع من الرقص نشأ في مواطن أخرى ولدى أقوام آخرين كالآشوريين والحثيين، وفي بلاد فارس لاحقاً، فقد كان شيوخ الفرس يستعملونه في العبادات، حتى تطور الفن الموسيقي فبلغ أوج كماله في عهد الملك الفارسي جمشيد (من الأسرة الأخمينية)، فاعتنى بتنسيق رقص السماح، حتى أصبح يحتل المكانة الأولى في بلاطه[1].
ونتيجة تمازج الثقافات وارتباطها ببعضها اقتبسه شيوخ الطرق الصوفية وحلقات الذكر لاستخدامه في أذكارهم، ومنهم من يعيده إلى الأمويين والعباسيين، حتى انتقل مع زرياب إلى الأندلس.
هو رقص ديني صوفي سوري، يعود أصله إلى مدينة منبج شمال شرق حلب، حيث ولد من أذكار وتجمعات صلاة في منزل الشيخ عقيل المنبجي (ت 550 هـ) الذي ابتكر حركات خاصة تؤدي الإيقاع بالأقدام بدلاً من الأيدي.
كما يُعرفه الباحث عبد الفتاح رواس قلعه جي بأن السماح مصطلح محدث لا نجده في المعاجم القديمة، وأول من أورده بطرس البستاني في معجم “محيط المحيط” وقال عنه: إنه رقص للمشايخ يستعملونه في العبادات، ويؤدّى في تشكيلات ونغمات وإيقاعات وخطوات متعددة على شكل وصلات تغنى فيها الموشحات والقدود. بينما يرد بعضهم مصطلح السماح إلى تحريف لغوي أصاب كلمة “السماع”، وهذا ما يميل إليه الموسيقار مجدي العقيلي في كتابه “السماع عند العرب”، فالسماع أو الرقص المحتشم كان معروفاً في قصور العباسيين والأندلسيين[2].
ويتتابع الاختلاف في تسميته بهذا الاسم، إذ يقال إن رجال الدين سمحوا به لبعده عن الخلاعة والمجون، وهناك رأي آخر يقول إن أعضاء فرقة السماح كانوا يستأذنون شيخ الطريقة أو رئيس حلقة الذكر ليؤدوه، فيسمح لهم، ومن هنا جاءت التسمية[3].
إيقاعات على أنغام الموشحات
يبدأ الرقص بالإذن من شخصية دينية، يكون شيخاً عادة، ويتألف من حركات إيقاعية متكررة في اليدين والقدمين، بالإضافة إلى دوران الجسم، على غرار دوران الدراويش[4].
وتبدأ حلقات الأذكار بإنشاد الموشحات حتى ترى أصحابها يتنقلون على حسب التواقيع والأوزان، ويروحون ويجيئون في القاعات ويضربون بالأيدي والأرجل. وبتقديم الصدر وتأخيره في انسجام وترتيب وخفة أو تباطؤ في تنقل يبهج الناظر، فما يكاد ينتهي الجمع من إنشاد موشح حتى يبدأ غيره من نغمة أخرى[5].
هذا الرقص الإيقاعي الجماعي تصاحبه الموشحات والقدود ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً، محتشم يؤدى باليدين والقدمين، قائماً على خطوات إلى اليمين أو الشمال، أو إلى الأمام والوراء مع سكنات متناوبة يتلوها نقر برأس القدم أو الكاحل مع بسط القدم للأمام أو رفعها أو هز الجسم كله لفوق والنزول به ثم السكون في الموضع، أو دوران الجسم كاملاً أو نصف أو ربع دورة، إضافة إلى حركات انسيابية لليدين.
وللسماح أنواع يتحدث عنها الباحث عبد الفتاح قلعه جي بأنها: الصف الواحد بقسميه الساكن والمتحرك، الصفان، وأربعة صفوف، وهما تشكيلان للتقابل والتعاكس، تأتي “الدائرة” وتقوم على تكوين دائرة من الراقصين، ويمكن أن يضاف تكوين دائرة أخرى داخلية صغرى ثم يعود الراقصون إلى مواضعهم على محيط الدائرة. وهناك “الدائرتان” المتجاورتان المستقلتان، وهما تتشكلان من التئام صفين أو أربعة صفوف متقابلة[6].
فاصل “اسق العطاش”
من رقصات السماح المشهورة نوع خاص يسمى “اسق العطاش”، وهي سلسلة موشحات من نغمة الحجاز يستغرق إنشادها من المساء حتى مطلع الفجر، فهذا الفاصل حلبي صرف يدلل على أن أهل حلب اعتنوا بالألفاظ ونمقوها، وأنهم ذوو حس ذوقي رفيع، ولهم دراية في النظم والتلحين.
ينحبس المطر فتصاب حلب بقحط شديد، لذا يتجمع أهلها ويخرجون إلى البراري يتضرعون ويبتهلون إلى الله أن يجود عليهم بالغيث مرددين: يا ذا العطا.. يا ذا الوفا.. يا ذا الرضا.. يا ذا السخا.. اسق العطاش تكرما. فهو في مضمونه ابتهال إلى الله لاستسقاء المطر بعد احتباسه سنة كاملة، ويتابع المنشد بنغمة التضرع والاستغاثة ارتجال عدد من الأبيات الشعرية الفصيحة التي تبتهل إلى الله طالباً الصفح والغفران عما اقترف من ذنوب[7].
وبعد قبول رقص السماح من الناس، انتقل من مواطنه الدينية في الزوايا والتكايا والحلقات الدينية إلى المجتمع في الأفراح والأعراس والمنتديات الفنية، فصار يؤدى دنيوياً بمشاركة الشباب والشابات، ولكل رقصة موشح خاص حسب سرعتها أو بطئها.
كما يرتدي راقصو السماح الأزياء الشعبية الحلبية مثل القمباز أو الصدرية والميتان والشروال، ويشدون على وسطهم الشال، مع الحذاء الحلبي الأحمر. أما النساء فيرتدين الألبسة الحريرية الفضفاضة مع الطرحة على الرأس، وتكون ألوانها زاهية ومزركشة بتطريز الأغباني[8].
ومن معلميه الأساسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الشيخ أحمد عقيل، وهو أول من رتب السماح بشكله الحالي، كما قصده أبو خليل القباني ليدرس السماح على يديه، فعلمه لأعضاء فرقته، ونقله معه حيثما ارتحل.
عمر البطش.. مجدد “السماح”
تجتمع المربية عادلة بيهم الجزائري بعمر البطش في حلب، وتدعوه عام 1934 لتعليم بنات “دوحة الأدب” رقص السماح[9]. كما دعاه الزعيم فخري البارودي عام 1936 إلى دمشق ليعلم الطالبات في “دوحة الأدب” أيضاً رقص السماح، فشكل البطش فرقة من طالبات المدرسة ودربهن على فنون رقص السماح، وقدمت الطالبات لوحات رقص السماح على ألحان الموشحات في الحفل المدرسي في نهاية العام الدراسي[10].
عمر البطش، اسم له تأثير في رقص السماح، ينشره، يلونه، ينميه، يخرجه من حلقات الذكر إلى المجتمع، ينقله من حلب إلى دمشق، فرقص السماح فن حلبي خالص، بعون من الزعيم فخري البارودي الذي كان وراء النهضة الموسيقية الكبيرة التي شهدتها دمشق في الأربعينيات وحتى الستينيات من القرن العشرين، فعند زياراته إلى حلب يشاهد رقص السماح من فرق حلبية، فافتتن به، ويضمر في نفسه أن ينقل هذا الفن الراقي إلى دمشق.
واستدعاه البارودي مرة أخرى إلى دمشق لما بدأت إذاعة دمشق إرسالها وافتتُح معهد موسيقي تابع للإذاعة ليدرّس فيه الموشحات ورقص السماح، فتتلمذ على يديه عمر العقاد خبير رقص السماح، وتشكلت فرقة لرقص السماح من طلاب جامعة دمشق قدمت حفلة على مدرجاتها[11].
تشكلت الصورة الحديثة لرقص السماح، والتي لا تزال مستمرة إلى الآن، على يدي عمر البطش، فقد عمل على نزع الرتابة منه وتخليصه من الشوائب التي علقت به مع مرور الزمن، فغدت حركات الأيدي والأرجل تنطبق مع إيقاعات الموشحات، فيختص كل إيقاع إما بحركات الأيدي وإما بحركات الأرجل أو بالاثنتين معاً، وقد استطاع أن يجعل رقص السماح أكثر رقة وعذوبة.
وعندما ظهرت طالبات دوحة الأدب لأول مرة في العام 1947 وهن ينشدن موشح “املأ لي الأقداح صرفاً” ويرقصن على أنغامه رقص السماح على مدرج جامعة دمشق، ثار مجتمع دمشق المحافظ على المعهد وإدارته وطالباته وعلى البطش ولكن من دون جدوى. واستمرت طالبات دوحة الأدب في تقديم عروضها الفنية كل عام[12]، حتى انتصر المحافظون وأغلق المعهد في ما بعد.
المصادر
[1] “رقص السماح”، مدونة جوزيف زيتون”، 28/7/2015، شوهد في 23/5/2019، في: https://bit.ly/2wogAAt
[2] محمد القصير، “رقص السماح فن حلبي سوري بامتياز”، esyria، 29/8/2011، شوهد في 23/5/2019، في: https://bit.ly/2VMX22G
[3] “القدود الحلبية…لمحة تاريخية”، مدونة جلال شعبان، شوهد في 23/5/2019، في: https://bit.ly/2DIF7UB
[4] راجع الرابط: https://bit.ly/2VMn5Hk
[5] راجع الرابط: https://bit.ly/2M4HJTG
[6] القصير.
[7] “القدود الحلبية…لمحة تاريخية”.
[8] المرجع نفسه.
[9] نبيل صالح (تحرير)، رواية اسمها سورية، ج 2، ط 2 (2007)، ص 692.
[10] نبيل صالح (تحرير)، رواية اسمها سورية، ج 1، ط 2 (2007)، ص 335.
[11] المرجع نفسه، ص 336.
[12] صميم الشريف: الموسيقا في سوريا: أعلام وتاريخ، دراسات موسيقية 7 (دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011)، ص 125.