أهْليل.. طلب الجنة على وتر الموسيقى
يغيب الحاج بركة فولاي عن عالمه الذي يعيش فيه، وتأخذه الروحانيات إلى عالم آخر يرى فيه ما يعجز عن وصفه عندما يكون في جلسات أهليل.
يعتبر قادة الفرق الغنائية لأهليل تلاميذ للأولياء، ويستلزمهم صبر طويل حتى يحصلوا على لقب “أبشينو” شيخ الفرقة.
على بعد 1400 كيلومتر جنوب العاصمة الجزائر تقع منطقة القورارة، منبع الحضارة الأمازيغية في صحراء الجزائر، حيث التاريخ والحكايات والأطلال الشاهدة على موروث القبائل الزناتية.
وفي سعيها للاعتناء بالتراث وتوثيقه أنتجت الجزيرة وثائقيا بعوان “أهليل-الجزائر” والذي كاد الزمان أن يخرجه من ذاكرته.
الغناء الأمازيغي.. تراث يندثر
يعتبر أهليل غناء عريق عند الأمازيغ، عرفوه قبل الإسلام وكانوا يسمونه أزنون. وقد كانت كلماته في فترة ما قبل الإسلام تتمحور حول الفخر والحماس والغزل الماجن، وبعد أن عرفت المنطقة الإسلام تم تهذيبه حتى أصبح غناء لتلاميذ الأولياء.
ويرجع أصل تسمية أهليل إلى أهل الليل، أي الغناء الذي يتسامر فيه الناس ليلا، ويُرجع البعض اشتقاقه إلى أنه من التهليل، أي أنه الغناء الذي يقع بذكر الله والصلاة والسلام على رسوله الكريم. وهو نوع من الغناء المعروف قديما عند قبائل زناتة.
يقول مولاي إسماعيل صديق “أهليل نوع من الشعر المغنى ويكون غزلا أو مديحا، وهو الغناء المقدس بالنسبة لأهل زناته”. ويغلب على كلماته مديح الرسول صلى الله عليه وسلم وسِيَر الصحابة الكرام وقصائد في مديح الأولياء وذكر كراماتهم. وقد تأثر بالطابع الصوفي التجاني المنتشر في المنطقة حتى أصبح متداخلا معه في كثير من الجوانب.
ولأهليل آداب وعادات وطقوس يتعين على من يدخله أن يتّبعها. وتبدأ الحلقة الغنائية بعبارة “بسم الله الذي لا يضرنا” وتنتهي بجملة “الحمد لله رب العالمين”. ويعتبر سكان مناطق قورارة أن أهليل هو ميزتهم وهويتهم.
وفي حديثه بوثائقي الجزيرة يوضح الملحن وأستاذ الموسيقى يوسف قلوم أن أهليل معروف في جميع مناطق القورارة، وهو قاموس المنطقة الذي تسجل فيه أحداثها ومشاكلها.
أهليل غناء أمازيغي حتى للنساء
ولا يعتبر أهليل من الحلقات الخاصة بالرجال فللمرأة فيه دور كبير وحضور هام. والمرأة القورارية لها دور كبير في المحافظة على هذا الموروث الشعبي وذلك لأنها تحفظ من قصائده أكثر مما يحفظه الرجال.
ويغنّى الأهليل على إيقاع آلات موسيقية قديمة تسمى “التامغا” و”التقرايت” وبعض الآلات التي لم تعد موجودة.
وتقوم فرق الأهليل بحركات تناسب الألحان المعزوفة والكلمات المرددة. وعادة ما يتم غناء الأهليل في الأعياد والمناسبات الدينية، وكذلك تُعقد حلقات من هذا الغناء عند زيارة الأولياء كما يقول الحاج بركة فولاي “في زيارتنا للأولياء لا بد أن نعمل حلقة أهليل، ولا تخص فرقة معينة بل يدخلها من يشاء فهي حلقة مفتوحة”.
جهود من أجل بقاء الغناء الأمازيغي
في منطقة قورارة بشرق ولاية آدرار الجزائرية تقع مدينة تيميمون الجميلة بما تزخر به من نخل باسقات وبنايات تراثية عريقة. ويوجد بالمدينة فرق متعددة تقوم بحلقات أهليل في مواسم الأعياد والاحتفالات بمولد المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وقد عملت الهيئات الثقافية المهتمة بالتراث على إقامة مهرجان للفلكلور الشعبي بمدينة تيميمون يسلط الضوء على الأهليل ويبرز خصائصه. وعلى هامشه تُلقى محاضرات من قبل الباحثين والمهتمين بمجال التاريخ والتراث للتعريف بالمنطقة وموروثها الثقافي والأدبي. وقد تم إدراج الأهليل في قائمة التراث اللامادي باليونسكو سنة 2008.
وتشارك في المهرجان السنوي 24 فرقة فنية من منطقة قورارة بالإضافة لمجموعات فلكلورية. وقد خصصت هيئة المهرجان جوائز محفزة للفرق المشاركة بهدف تشجيعها على الاهتمام بالموروث الذي كاد أن يندثر.
كما يرصد المهرجان جائزة لأفضل بحث يُقدم في الموضوع من أجل المحافظة على النصوص القديمة. يقول عضو مهرجان تيميمون الثقافي والباحث في مجال التراث أحمد جولي للجزيرة إن الموروث الشفهي والمخزون التاريخي والبعد الروحي هو أهم أهداف إقامة مهرجان الفلكلور الشعبي بتيميمون.
ويَعتبر سكان تيميمون وتالا وأولاد سعيد بمنطقة القورارة تمسكهم بهذا الإرث تجسيدا لرفضهم القطيعة مع الماضي الذي يتوارثونه جيلا بعد جيل.
أهليل.. طرب يباركه الاعتقاد
يوضح القائمون على المهرجان أن أهدافه تتمحور حول الاهتمام بالموروث وعدم القطيعة مع الماضي، إلا أنه بالنسبة للف
رق الفنية أداء ديني واحتفال روحي، كما يقول الحاج فولاي الذي يعتبر نفسه شيخا في فن الأهليل إذ يحضر حلقاته في المسجد منذ أيام الصبا.
وتراود الحاج مخاوف في أن يتم إحداث شيء جديد في طريقة غنائه الذي عرفه بحضرة الأولياء ويأمل أن يحافظ عليه دون تغيير. ويضيف أن من أراد أن يبلغ درجة “أبشينو” (شيخ فرقة أهليل) عليه أن يصبر طويلا ويلازم تلاميذ الأولياء حتى يكتشف حقيقته.
وقد تحدث للجزيرة الوثائقية عدد من النسوة العجائز اللاتي أدركن غناء الأهليل في الحقب السالفة وأكدن أن هذا الغناء هو إرشاد ديني يساهم في إحياء تراث الأولياء والصالحين ولا يختص به الرجال دون النساء. ويعتقدن أن في غناء الأهليل بركة وصلة بالأولياء.
وفي بستانه بواحات تالا يجلس السيد حمو كوكو على آلاته ويتهلل معتقدا أنه بفضل هذا الغناء وجد الراحة والرحمة ويأمل أن يجد الجنة، وهو ليس بحاجة لشيء آخر.
ورغم المساعي المبذولة مؤخرا من أجل المحافظة على هذا الموروث، وإدراجه ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي في الأمم المتحدة فإنه لم يخرج هذا الفن بشكل فعلي عن نطاقه الضيق والمحصور بمنطقة القورارة، من خلال ترجمة قصائده إلى لغات متداولة وتطويره بشكل يسمح له أن يكون متداولا ومعروفا خارج القرى الصغيرة في ذلك الإقليم.