“لورد”.. وثائقي يتقصى أرض المعجزات

هل هناك معجزات حقا في “لُورْد”؟.. لورد هذه المدينة الجبلية الصغيرة باتت صرحا مُكرسا لمريم العذراء، ومقصدا للحجاج من العالم بأسره، وذلك بعد أن ظهرت الفتاة (أي مريم العذراء) أمام فتاة تُدعى برناديت أكثر من 18 مرة في خمسة شهور عام 1858، وذلك في كهف قرب النهر.

ولورد هي أكثر المدن الفرنسية زيارة بعد باريس، حيث يقصدها كل سنة نحو ستة ملايين زائر من جميع الأجناس والأديان، حاملين آمالهم وأحلامهم وأوجاعهم، يزورون المغارة والكنيسة تحت الأرض، والقبو وكنيسة القديسة برناديت. إنها مدينة عالمية وسحرية وأسطورية، وهي واحدة من تلك الأماكن المنعزلة والمنفصلة عن الحياة اليومية الاعتيادية.

حين يتناول فيلم تلفزيوني فرنسي مثلا شهرة المدينة كونها مقصد الملايين، فإنه يمرُّ سريعا على مشاهد منها ومنهم، مشاهد لا تشرح ولا تروي فضولا، لا شيء عن الحجاج ولا عن دوافعهم، فمن هم هؤلاء الذين يتحملون مشاق زيارتها، ولماذا يأتون وبماذا يأملون؟ هل حقا يؤمنون بمعجزاتها؟ وماذا تمثّل العذراء لهم؟ أهو الإيمان ما يدفعهم، أم الخوف من المرض والموت، أم وأم..؟

أسئلة سرعان ما تُنسى في دوامة الحياة، إلى أن جاء هذا الفيلم الوثائقي الذي تعرضه الصالات الفرنسية هذه الأيام، فمشاهدته كانت فرصة لا تُفوَّت لرغبة في المعرفة ولإشباع فضول.

تحاشي الصبغة الدينية

تنبه مخرجا فيلم “لورد” الفرنسيان تيري دومانييز وألبان تيرلاي واستغربا أشدّ الاستغراب بعد حديث صديقة لهما عن إقامتها وزيارتها مدينة لورد؛ إلى عدم وجود أي فيلم وثائقي عن هذه المدينة، فكلُّ ما وجداه كانت تحقيقات تلفزيونية أو أفلام روائية، وهنا جاءتهما فورا فكرة هذا الفيلم.

وبعد الحصول على موافقة شركة إنتاجية قررا الذهاب إلى هناك والبدء بالتصوير مع خشية مؤكدة، فالموضوع حسّاس، وهما لا يريدان فيلما ذا صبغة دينية، بل فقط متابعة بعض الحجاج والاقتراب منهم والتعرف على دوافعهم.

كانا يدركان -كما أعلنا في لقاء ترويجي للفيلم على موقع “إي سينما”- صعوبة قبول الاعتراف أمام الكاميرا، وبالفعل اعتُبر هذا شاقا جدا، وتطلّب الأمر عملا ضخما. لقد رغب المخرجان باختيار مصائر لها بُعدها العالمي، وللاهتمام بكل الأوساط انتقلا إلى المدينة، وكانت الحصيلة 250 ساعة تصوير خلال سنة تقريبا.

بحث عن الوجود في العزلة

في فيلم استثنائي بشهاداته وموضوعه تمرُّ ساعة ونصف من الزمن في أجواء سحرية مع عشرة أشخاص، هم رجال ونساء وأطفال من أصول وظروف مختلفة. يبدأ الفيلم بهذا المشهد الذي قد يلخّص رؤية هؤلاء الناس وتجربتهم وأحاسيسهم، وهذه الرغبة المُلحّة التي تدفعهم للمجيء إلى هذا المكان. مشهد يعطي فكرة عن مضمون أبعد ما يكون عن الدعاية “الدينية”، وعن الأفكار المسبقة التي قد تفرضها معرفة سطحية بالمكان وبخصائصه.

رجل مقعد بجانبه رجل دين يستفسر منه حالته الصحية بعد دوامه على القدوم إلى مدينة “لورد” منذ 15 عاما

رجل وسيم مبتسم ومُقْعَد يجلس بقربه رجل دين يستفسر منه إن كان لمس تغييرا ما في حالته وهو يداوم على القدوم إلى المدينة منذ 15 عاما، لكنه يرد “لا شيء خاص”، ودائما مع هذه الابتسامة التي بدت وكأنها جزء من وجهه في كل مشاهده التي ظهر بها، فهو لا يتكلم في الواقع، لكنه يُشير بأصابعه إلى لوحة من الحروف لتشكيل الكلمات.

شهادات حجيج يجمعهم الإيمان، ليسوا جميعا من الباحثين عن معجزة شفاء، بل أيضا عن سِلم داخلي وراحة بال، إنها شهادت قوية مؤثرة تخترق القلوب بصدقها وعفويتها، ونظرة محايدة تسلط الضوء على الإنسانية والشجاعة، على ضعف وقوة الكائن المريض، على بحث الإنسان عن معنى لوجوده في هذا المكان المعزول عن العالم.

هناك حيث يجتمع كبار وصغار ورؤساء شركات وجنود وضباط وغجر وبغايا.. أناس كانوا أقوياء بصحتهم وآخرون ضعفاء بميولهم، كهذا المتحول جنسيا الذي يبكي حيرته وضياعه أمام جسده ناشدا راحة بال لا تأتيه رغم سنه المتقدم، أو هذا المريض المصاب بمرض شاركو (أعضاء الجسد التي تُشلّ تدريجيا ليصل المريض إلى الشلل التام والموت بعده)، والذي لا أمل أمامه، فكيف تواجه من يقول لك إن أمامك سنة أو سنتين فقط من الحياة، لِمَ تأتي إلى هنا وأنت على علم بأنه لا مفرّ من الموت؟

حجيج يطلبون المعجزة

يسير الوثائقي على سيناريو محدد يبدأ من تحضيرات العائلات التي يتابعها للسفر إلى لورد، وعلى نحو موازٍ تحضيرات الممرضات والفريق الصحي والمرافقين لاستقبال العاجزين والعجائز، ثم يتابع كل حالة في تقطيع ذكي متمكن أيضا لا يقع في فخ التطويل والسرد، بل يعتمد المشهد القصير، فينتقل بسلاسة وسرعة من حالة لأخرى قبل أن يعود إليها من جديد. ولا يستخدم في الحالات التي يستعرضها أسلوب الحوار بشكل دائم، بل يترك في كثير من الأحيان المتحدث متأملا أو متابعا طقوسه، فيما يروي صوتُه مشاعره المختلفة، مما يعطي للموقف أثرا أكبر وأقل مأساوية.

آلاف الناس يتوافدون إلى مدينة “لورد” الجبلية الصغيرة التي أضحت مقصدا للحجاح من العالم بأسره

ويكمن أفضل ما في الفيلم في مواقف هؤلاء الحجاج أمام “طلب المعجزة”، فأحدهم يقول إنه يخجل من طلب الشفاء، وأخرى تدرك أن العذراء لم تلبّ الطلب لأنه “لو كان بمقدورها لفعلت”، وآخر يتفهم أيضا عدم التلبية فـ”الجميع يطلب المعجزة وهم بالملايين”، وليس من الممكن تلبيتهم كلهم.

بعضهم لا يطلب معجزة، فثمة قبول بالقضاء وبما حصل، وهم لا يطلبون إلا القدرة على تحمل المصيبة أو الاعتناء بالابن المريض كما يجب، كهذا الأب الذي يدعو العذراء لمساعدته وزوجته على تقبّل رحيل ابنهما الوشيك.. “أعطني القدرة والشجاعة لمواجهة المصيبة”.

“أحبكم جميعا”

كل الأنواع هنا، المرضى وأقاربهم والممرضون والمتدينون، الميؤوس من شفائهم والمأمول.. لا بد أن نتعاطف مع أولئك الأشخاص، وتغمرنا عاطفة جياشة تجاه معاناتهم وشجاعتهم وطريقتهم في التعبير التي لا تلجأ للمبالغة العاطفية للتأثير تجاه إيمانهم العميق ولحظات ضعفهم، وإدراك أن قوتهم تكمن في نفوسهم قبل أي شيء.

لا يخلو الفيلم من روح دعابة أيضا، ولا يُغفل احتفالات هؤلاء المجتمعين في الأيام الأخيرة قبل مغادرتهم المكان، إنهم أيضا من هذا العالم المعاصر، حيث الغناء والرقص والصخب البعيد في أجوائه عن أجواء الصمت والخشوع التي رافقت طقوس الزيارة. إنه نفس العالم الذي تتجاور فيه الروحانيات مع الماديات، فلكل حدث وقته.

مياه “لورد” التي تشفي من يشرب منها حسب الإيمان الشعبي لمن يزورها من الحجاج

فيلم تجنب كل تدخل وتعليق وكل شروح، واعتنى بالصورة والموسيقى كما يجب لفيلم سينمائي أن يكون عليه. وفي نهاية هذا الفيلم المؤثر فإن الرجل الوسيم الذي كان عاجزا عن لفظ ولو كلمة نطق بجملة كانت “أحبكم جميعا”.

الفيلم يتجاوز حتى الإيمان وقيمه، ليُثير علاقتنا مع الألم والموت. الجمهور الفرنسي بكل أطيافه ومعتقداته، بإيمانه وعدم إيمانه أيضا، استقبل هذا الفيلم الوثائقي بحب وإعجاب كبيرين، فقد لَمَسته قِيَمه وإنسانيته وهمّه بأن يكون أقرب ما يمكن من الإنسان، أن ينظر إليه دون أن يحاكمه ودون التدخل.

تأثر من بعض اللحظات لأنها تشهد على جراح قد يتعرض لها أيّ منا، وبعضها الآخر لأنه يبدي ما لا نرى في العادة، أو لا نرغب بأن نراه. كما لمسته هذه الرغبة بالعطاء والبذل لمساعدة الآخرين من قبل الأهل والأقارب والممرضين والممرضات ومرافقي المرضى والعاملين في المجال الطبي.

الأطباء.. رأي آخر

ومنذ الحديث عن معجزات في لورد قرّر الأطباء والسلطات الدينية العمل معا، حيث لم يرغبوا فورا بتأكيد المعجزات، ففي الفترات الأولى لظهور المعجزات طلب الأسقف هناك من أستاذ في الطب دراسة بعض حالات الشفاء، واعترف حينها أن بعضها غير قابل للتفسير.

واليوم وبعد تطور الطب أصبح من الصعب تحديد سبب شفاء مريض بالسرطان مثلا، “أهو العلاج الكيميائي أم عذراء لورد؟”.. هكذا يتساءل البروفيسور فرانسوا برنار ميشال أخصّائي الرئة ورئيس اللجنة الطبية الدولية التي تفحص ملفات كل الأشخاص الذين أعلنوا شفاءهم بعد قدومهم إلى مدينة لورد.

مجموعة من الحجاج يزورون المدينة الجبلية الصغيرة التي باتت صرحا مُكرسا لمريم العذراء

وفي حديث لإذاعة نوتردام نشرته جريدة “لاكروا” الفرنسية يقول البروفيسور فرانسوا إنه منذ “ظهور العذراء” لم تُسجّل سوى 96 حالة مُعترفا بها، وهو عدد قليل مقارنة بملايين الحجاج الذين قدموا للمدينة، وعلى كل فالعذراء عند ظهورها لم تشر إلى شفاء من مرض كما أعلنت الفتاة برناديت آنذاك، لكنه الإيمان الشعبي الذي بمجرد رؤيته لنبع ماء جديد أتته فكرة الماء الذي يشفي الجروح.

وتتوخى السلطات الكنسية الحذر تجاه حالات الشفاء، لذلك ومنذ عام 1958 أنشأ الأسقف الكبير في لورد اللجنة الطبية الدولية لدراسة حالات الشفاء غير القابلة للتفسير، وذلك حسب المعارف الطبية والعلمية. ومنذ ذلك الحين لم تسجّل حالة حقيقية، لكن هناك دائما ومنذ البدء حالات ترتبط بالرغبة بالشفاء وبالإيمان القوي، ويتابع البروفيسور أنه يجب توفر رغبة بالشفاء مدفوعة بإيمان قوي.

وتنتظر اللجنة بحذر ويمتد الانتظار أحيانا عشر سنوات قبل أن تصف شفاء بأنه “استثنائي”. ويذكر البروفيسور آخر حالة كانت لشابة فرنسية مُصابة بورم يسبب لها ارتفاعا هائلا في ضغط الدم يمكن له أن يسبّب مضاعفات خطيرة في المخ، فقد لجأت المرأة وزوجها الطبيب إلى كل الوسائل المتاحة في فرنسا، ثم قررا التوجه إلى الولايات المتحدة لتجربة علاج آخر، لكنها قبل المغادرة رغبت بزيارة لورد، فغطست في مياه النبع المخصصة لهذا الغرض، ومنذ ذلك الحين توقف ذلك الارتفاع الخطير في ضغط الدم.

تظن المرأة أن الفضل عائد لزيارتها، إنما للناس رأي آخر، فكل يوم تُسجل معجزات، لكن البعض لا يعلن عنها ولا يطلب فحصها. أما رئيس اللجنة فيقول إننا لسنا مجبرين على الاعتقاد بالمعجزات ولا بالظهور أو التجسد، لكن ظواهره تستمر يوميا في عالمنا.


إعلان