الحج من سنغافورة وماليزيا.. عندما تهفو القلوب إلى الله
جاءت رسالة الإسلام رحمةً للعالمين كي تخرج الناس جميعا من ظلمات الشرك والضلالة إلى نور الإيمان والتوحيد، جاءت لتخرج من شاء من العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد.
ودخل الناس في الدين أفواجا بعد أن أدركوا أن لا فضل فيه لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ودخلت بلاد وأصقاع كاملة في الإسلام من شرقي الأرض إلى غربيها رغبة لا رهبة عندما رأى أهلها أقواما يتخلقون بأخلاق القرآن التي أمر الله بها عباده، فسبح الناس بحمد ربهم واستغفروه.
سنغافورة تلك النقطة المضيئة في جنوب شرق آسيا، البلد الصغير المكون من مدينة واحدة، يشكل المسلمون 15% من عدد السكان البالغ نحو 5.5 ملايين (إحصائية 2018)، وتبلغ حصة هؤلاء المسلمين لأداء فريضة الحج نحو 2800 حاج سنويا.
في الجهة الأخرى من الجسر تقع ماليزيا التي يشكل المسلمون فيها نحو 65% من عدد السكان البالغ نحو 30 مليونا، يؤدي منهم الحج كل عام نحو 30 ألفا.
تاريخ الحج في سنغافورة
كان للمسلمين علاقة مميزة في جنوب شرق آسيا، وقد وصلت الدعوة الإسلامية لتلك المنطقة عن طريق التجار، وفيما بعد شكلت كل من سنغافورة التي كانت جزءا من ماليزيا ومدينة بينانغ الماليزية ميناءين هامين على طريق الحجاج القادمين من شرق آسيا، حتى سميا وقتها بجدة الثانية.
في هذا الفيلم تقدم الجزيرة الوثائقية عرضا ممتعا لرحلة الحج من ماليزيا وسنغافورة، حيث لبى عدد من المؤمنين أمر ربهم حين قال “وأَذن في النَاس بالحج يَأْتوك رجالا” فجاؤوا من كلّ فج عميق ليذكروا اسم الله ويشهدوا منافع لهم.
مساجد ملأى بقلوب تهفو للبيت الحرام
غصّت مساجد ماليزيا بالمصلين الذين جاؤوا لتلقي دروس تعليمية عن الحج، من بينهم السيدة نور العين التي غمرتها السعادة والطمأنينة والخشوع “لأن الله اختارني أن أكون ضيفة على بيته الحرام”، فقد كان حلمها أن تحج البيت.
نور العين بنت عبد الله معلمة الفيزياء منذ 20 عاما، ولدت لعائلة صينية ودرست في مدرسة للراهبات، لكنها تزوجت من ماليزي مسلم وأنجبت منه ولدا وبنتا.
ورغم طلاقها من زوجها فإنها احتفظت بإيمانها، وهي تقول “إن الدين الإسلامي سلس لا يصعّب الأمور على من يتبعه، لقد تعلمت من القرآن الكثير عن الحياة والعادات الجيدة والسلوك الحسن، تعلمت كيف أكون قريبة من الله وكيف أساعد الناس بشكل أفضل، الدين يجمع الناس معا”.
أما محمد نور إسماعيل (75 عاما) فرجل ماليزي متقاعد، عمل مديرا لضمان الجودة في إحدى الشركات، له تسعة أبناء و22 حفيدا، شكل أداء فريضة الحج هاجسا له وحلما جميلا عاش من أجله.
كان خوفه الوحيد أن لا يستطيع إتمام المناسك نظرا لكبر سنه، لكنه تلقى مساعدة من مسعود أستاذ الإسلاميات في تعلم الخطوات الأساسية لأداء الفريضة.
أما القبطان السنغافوري روزلي زيد زوان فهو في قمة سعادته لأنه سيخطو خطوة أخرى نحو الكعبة، كانت الأولى وهو فتى لا يتجاوز 16 من عمره. يقول إنه لم يحمل الأمر على محمل الجد، حتى إنه لم يكمل المناسك في تلك الرحلة.
يقول “قضيت عشر سنوات من عمري في البحر، تعرضت خلالها للكثير من التجارب والعواصف، وواجهت القراصنة، كل تلك الأمور كادت تودي بحياتي، لكن في الحقيقة نجوت من كل ذلك، وهو ما منح إيماني معنى جديدا”.
كان على ساهول حاج من سنغافورة أن يخوض من جانبه بعض المعارك الخاصة لاجتياز بعض العقبات من أجل الفوز بفرصة الحج، إحداها أنه تورط في حادث سير نتج عنه موت صاحب السيارة، ومنذ ذلك الحين تغير ساهول بشكل كبير.
الحج في هذه المرة يعني له الكثير، فعندما ذهب أول مرة قبل 20 عاما لم يتمكن من تكريس الوقت لأداء المناسك، حيث كان متطوعا لخدمة الحجاج في إحدى الوكالات.
كما أن عليه مسؤولية تجاه زوجته وأبنائه لا بد من القيام بها، تقول زوجته صفية وهي تبكي إنها تخشى أن لا يعود من تلك الرحلة، إن امتحان الحج يشمل عائلته أيضا لأنهم يعتمدون عليه بشكل كامل في إدارة شؤون حياتهم.
محمد خان وهو مواطن سنغافوري، يقول عندما تحج لأول مرة تكون أشبه بالأعمى، رغم أنك ترى كل أشرطة الفيديو والدليل السياحي. يضيف “تلك التجربة العملية جيدة وأستطيع معرفة كل شيء من خلالها”.
الحج من سنغافورة وماليزيا.. تقليص عدد الحجاج
غمرت السعادة قلب عمر إسماعيل عندما أخبروه بأنه حصل على التأشيرة هو وزوجته، فهي فرصة طالما تمناها، حزم حقائبه وعزم على السفر، لكن السلطات السعودية في ذلك العام أعلنت تقليص أعداد الحجاج بسبب الإصلاحات في الحرم المكي.
تقلصت الأعداد من سنغافورة بنحو 820 حاجا، وهو ما شكل صدمة لدى الكثيرين، كان من بينهم عمر إسماعيل وزوجته. يقول “لقد بكيت في البداية، كان قلبي يبكي لأني كنت شديد الرغبة في الذهاب، أنا أشتاق للذهاب إلى هذا المكان، لكن زوجتي تأثرت أكثر مني”.
إن خيبة أمل المسلمين الكبيرة في ذلك الموقف تنبع من رغبتهم الجامحة وشوقهم في الذهاب إلى مكة، فالعلاقة بين العبد وربه علاقة روحية لا يمكن أن تحل مكانها أي علاقات إنسانية.
ومن بين أركان الإسلام الخمسة تعتبر فريضة الحج الأكثر تحديا لهؤلاء الذين يسكنون بعيدا، إذ يتطلب أن يقدم المؤمن أقصى وأكمل ما يقدمه عقله وجسده وقلبه وروحه، كما يتطلب التفرغ والتخلي عن المسائل اليومية الأخرى، إنه أعقد مما يتخيله الكثيرون.
إن التخلي عن الحياة الصاخبة في بلد مثل سنغافورة يعتبر أمرا صعبا، والتحضير للحج في هذه المدينة يأخذ منظورا آخر، إذ يُعرف عن الناس هناك أنهم يخططون لكل شيء بصورة مفرطة، وهذا بسبب رغبتهم في أداء تلك الفريضة بشكل أقرب إلى الكمال.
” دعاء السلامة”.. طقوس توديع حجاج سنغافورة وماليزيا
تُوفر وكالات السفر في كل من ماليزيا وسنغافورة رحلات جماعية تثقيفية للحاج معظمها تكون في ماليزيا، إذ يتم بناء مجسم للكعبة للتمرن على الطواف ويتدرب الجميع على مناسك السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات، وقد انضم ساهول إلى إحدى الدوارات في مدينة جوهور بارو.
أما القبطان روزلي فانضم إلى مجموعة أكثر بساطة، يقول “هل من الممكن أن يبالغ الحاج الذي يتمتع بنية سليمة للتحضير للحج ويفقد القيمة الحقيقية؟”، لكنه يضيف “في النهاية يبقى الحج مسألة بين العبد وربه، ويتمني العبد أن يريه الله طريق الحق”.
ستتغيب نور العين نحو ستة أسابيع عن المدرسة التي وافقت إدارتها على ذلك، فقد كانت مُدرسة الفيزياء شخصية محبوبة، وأقاموا لها مراسم جماعية لوداعها وتمنوا لها الخير والتوفيق، وتُعرف هذه المراسم بـ”دعاء السلامة”، إذ جرت العادة لدى مسلمي ماليزيا أن يجتمعوا معا ليطلبوا من الله أن تكون رحلة الحاج آمنة، وأن يعود سالما.
تقول نور العين “عندما بدأت بالاستعداد للذهاب إلى مكة شعرت أنني أديت واجبي كمسلمة، فعندما نصبح قادرين وجب علينا أن نؤدي الركن الخامس من أركان الإسلام”. وتضيف “شعرت بالسعادة والامتنان لمن ودّعوني، فقد تلقيت الاهتمام من الجميع رغم أني لم أولد مسلمة”.
وليمة الفرحة في يوم السفر
كتب ساهول مجموعة من الرسائل لزوجته وأبنائه وقوائم لكل واحد منهم بالمهمات الواجبة عليه بعد سفره، ودّعه الجميع في المطار، انتابته مشاعر مختلطة بين الفرح والحزن، ويقول “إنه سعيد لأن الوقت قد حان أخيرا، لكنني لم أصل بعد، سأصلي لأصل بأمان”.
كان مزاج محمد نور مختلفا تماما، فقد كان يحضّر وليمة لأقربائه ومحبيه، لقد دعا نحو مئتين منهم، كانت الوليمة مليئة بأصناف الأطعمة والهدايا الصغيرة للتعبير عن امتنانه لهم، يودّع أفراد أسرته ويطلب منهم الصلاة من أجله لأنه رجل مسن، ويطلب منهم أن يواظبوا على الصلاة.
تودع نور العين عائلتها بالدموع، وتذهب إلى مكان التجمع الخاص بالحجيج قرب العاصمة كوالالمبور، لكن شعورا بالخوف يرافقها من عدم العودة وتتمنى من الله أن يحفظها وتطلب من الجميع الاعتناء بأنفسهم.
في المطار يودع محمد نور زوجته وأولاده ويقول إنه يشعر أنه ولد من جديد، “إن قلبي لم يعد هنا، لا يمكنني التفكير إلا بأن أكون هناك، وأن أصل إلى جدة، أنا أتخيل التجربة باستمرار، لا يمكنني سوى تخيل مكة والكعبة”.
توبة ومغفرة.. وحجا مبرورا
أدى الحجيج مناسكهم، طافوا وسعوا وباتوا بمنى ووقفوا بعرفات، وكل أملهم أن يتقبل الله تعالى منهم. يقول ساهول تأثرت كثيرا ومن أعماقي لأن ما تمنيته تحقق، كانت الكعبة أمام عيني ولم يكن هناك الكثير من الحشود، تمكنت من الاقتراب حتى لمستها ودخلت في حجر إسماعيل، في ذاك المكان انتابني شعور قوي بأن الله أراد أن يمنحني فرصة أخرى لأعبر عن إيماني بشكل أفضل.
ويتابع أنه منذ أول حج وقعت أمور كثيرة غيرتني، لكن ومع ذلك منحني الله فرصة لأذهب مرة أخرى لأحسّن من نفسي وأقوّي إيماني بالله، هناك في عرفات فكرنا كثيرا في ذاتنا وفي حياتنا، ماذا فعلنا بها؟ اعترفنا هناك بذنوبنا وسألنا الله تعالى العفو والمغفرة “ما زال الله يحبنا ويسمح لنا بزيارة بيته للتعبير عن ندمنا”.
أما القبطان روزلي فيقول “لقد تأثرت كثيرا بوجودي في بحر من الناس بين الملايين، كنت قلقا وغير متأكد مما إذا كان الله تعالى سيسمعني من بين تلك الحشود، في الحقيقة انهرت وأجهشت بالبكاء، وتمنيت من الله أن يقبل توبتي ورجوعي، أشعر أنه سمعني خاصة عندما انتهيت من المناسك، كان الأمر واضحا، شعرت أني ولدت من جديد ويمكنني البدء من جديد، والأهم من ذلك هو أن أحتفظ بروح الحج عندما أعود إلى سنغافورة وأن أصبح مسلما أفضل”.
أما محمد نور فيقول “أن يصبح المرء إنسانا جديدا بعد أداء الحج تجربة لا تقدر بثمن، إنها تجربة جميلة، لقد حدثت تغييرات كثيرة في حياتي التي لم تعد كما كانت من قبل، عندما كنت هناك كنت أفكر بالموت ولا شيء آخر، كنت خائفا وكنت أئن كما لو أنني التقيت بنمر، بعد ذلك بكيت بحرقة، كانوا جميعا يبكون”.
ويتابع “لم أتمكن من الاقتراب من الكعبة لأن الجميع بدؤوا بتقبيلها، كان عليّ الابتعاد ووقعت أرضا ولم أتمكن من السير، وأثناء الطواف كان علي أن أستخدم الكرسي المتحرك، وفي منى لم أتمكن من رمي الجمرات، لقد مرضت”.
“ناجيت الله هناك”، هذا ما قالته نور العين، “كان ذلك أمرا مميزا، شعرت بالقرب منه وأني أستطيع مناجاته وأن أطلب ما أريد، إنها لحظة مباركة ومميزة بالنسبة لي”.
تصف مشاعرها منذ وصولها مكة فتقول “عندما بدأت المناسك شعرت أنني أقرب إلى الله من أي وقت مضى، لم أشعر بهذا من قبل، أصبحت مناجاتي وصلواتي ليس لأنها فريضة بل لأنها قربى إلى الله، حزنت عندما حان الرحيل خاصة في طواف الوداع، كان ذلك محزنا”.
إنها تجربة فريدة لا مثيل لها، وسط موج متلاطم من ملايين المؤمنين تشعر بمعية الله تعالى وبحضوره القوي في قلبك كما لم يكن في أي وقت مضى، تدعوه وتناجيه وتسأله، وكلك يقين أنه سيستجيب.