إندونيسيا.. بسطاء بأحلام كبيرة لأداء الحج
يستعرض الفيلم الوثائقي الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “الطريق إلى الحج.. إندونيسيا” قصص عدد من الإندونيسيين البسطاء الذين كتب لهم الله الحج، وتتنقل أحداث الفيلم لتستعرض حياتهم البسيطة وأحلامهم الكبيرة بزيارة الديار المقدسة.
عمر تاكا.. حاج من سابوندا
بعيدا عن الحياة المكتظة في العاصمة الإندونيسية جاكارتا، وعلى مساحة صغيرة تبلغ نحو 78 كلم مربع، قبالة مدينة كينداري جنوب شرق إقليم سولاويزي تقع جزيرة سابوندا الغارقة في الروحانية التي ترتسم على ملامح سكانها نقاء، وتظهر على ألسنتهم ترتيلا لآيات القرآن الكريم، وتشهد ممارستهم اليومية عليها فلا يهمهم الغنى أو الفقر، أكبر أهدافهم في الحياة هو الذهاب لأداء مناسك الحج.
وعلى الرغم من وقوعها في محيط كبير من الجزر في الأرخبيل الإندونيسي، فقد امتازت بموسيقى خاصة تسمى “جامبوس” ورثها الأبناء عن آبائهم، ولم يردد الموسيقيون الكلمات القديمة فحسب، بل جددوا في ذلك حتى بلغت من الحلاوة ما يجعل من أمزجة السكان الحاليين تتذوقها بطرب يتناسب مع أمزجة العصر.
فقد بنى سكان الجزيرة البالغ تعدادهم 1300 علاقة حميمة مع مياه المحيط، فتعلموا زراعة الشعب المرجانية التي تضيف إلى جماله رونقا آخر، وخففوا عنه الأذى الذي أصابه نتيجة لاستخدام قنابل الماء والسموم أثناء الصيد.
الادخار لأداء الحج
كسائر سكان الجزيرة عمل عمر تاكا البالغ من العمر 37 عاما في مهنة الصيد، وامتاز عن الكثيرين بمهنة توزيع الأسماك، وباستخدام القارب الذي لا يمتلك كثير من سكان الجزيرة المال للتنقل من خلاله اعتاد على الذهاب إلى العاصمة كينداري كي يبيع الأسماك التي يصطادها، وفعلا ركب البحر وتوجه إلى غايته المعتادة، مستغرقا ساعة من الزمن كي يصل هذه المرة إلى غاية جديدة هي مكتب المعاملات الدينية لإتمام ترتيبات الرحلة إلى مكة المكرمة.
كثير من الناس على تلك الجزيرة لا يمتلكون كفاية مالية للذهاب إلى الحج، فمتوسط دخل العائلة هناك يقدر بنحو 200 دولار في الشهر الواحد، لذلك جرت العادة أن ترسل العائلة التي تمتلك مالا زائدا الزوجة من غير زوجها، لاعتقاد سائد في ثقافتهم أنَّ الزوجة تمهد الطريق لذهاب الزوج إلى الحج.
حالة من الفرح والسرور غشيت عمر وزوجته نورما بعد أن تمكنا من توفير المال اللازم لأداء فريضة الحج لكليهما، فقد ادخر الزوج المال منذ سبع سنوات حتى يتمكن من الذهاب إلى بيت الله الحرام ويحقق الحلم، فرحلة الحج تكلف نحو 3000 دولار.
تقول الزوجة نورما “كان عمر يدَّخر المال منذ 15 عاما، وقبل سبع سنوات فتح حسابا مصرفيا، هذه فكرة غريبة بالنسبة للإندونيسيين لأنَّ أقرانه يشرعون بالتفكير في أداء مناسك الحج وهم في الثلاثينيات، وأخيرا أثمر عمله الجاد ولم يضطر لبيع شيء ثمين”.
وصل الزوجان إلى مدينة كينداري حيث مكتب الحج المستأجر قرب المطار، وبعد أن فرغا من وزن أمتعتهما تأكدا أنَّ أسماءهما في القائمة.
وبعد انتهاء عمر من إجراءات السفر توجه إلى ما يطلق عليه سوق الأحد واشترى بعض الحاجيات لأطفاله، وكان قد اتخذ متجرا صغيرا في قريته لزيادة دخله.
وقبل أن يغادر كندراي حمَّل المؤن الطازجة والمواد الأساسية بالإضافة إلى الأطعمة الخفيفة التي يحبها الصغار ومياه الشرب النظيفة وتوجه إلى سابوندا لبيعها هناك، نظرا لضيق ذات اليد المانعة لأهل جزيرة سابوندا من استخدام القارب والانتقال إلى العاصمة لشراء البضائع.
العائلة قبل السفر
بنى عمر وزوجته بيتا جميلا تسكنه المحبة، لذلك فضَّل أن تنحصر حياته في ذاك المنزل وعلى تلك الجزيرة البعيدة تماما عن تعقيدات الحداثة والمدنية، وبالقرب منه يقطن والده الذي يسّر له أن يكون الوحيد في العائلة المؤدي لفريضة الحج.
أمنيات كثيرة ظهرت على محيا عمر، مشاعر جياشة تنتابه كلما سمع عن ذهاب أحد من أصدقائه إلى الحج، لقد صدقت تلك المشاعر فتحققت له الأمنيات، وبدأ بتعلم كافة أركان الحج وفروضه وسننه ليكون مستعدا للقيام بالفريضة على أتم وجه.
يفكر عمر كثيرا في أبنائه الثلاثة وهم: الكبرى ديانغ، والثاني نوفال، والصغرى ديلا، فهو لا يستطيع مفارقتهم ولو للحظة، فكيف سيعبر إلى رحلة الحج ويترك أبناءه أياما وأسابيع وربما شهرا، تلك هي المعضلة التي لم تغادر عقله أو تقلع عن قلبه.
إنَّ حالة من الحياة التي تمتزج فيها مهنة الصيد مع اجتماع العائلة في وقت طويل على مساحة من مياه المحيط تصنع علاقة متصاعدة تضيف إلى العلاقة القائمة مراحل أخرى لا يدركها إلا من عايشها بتفاصيلها الدقيقة، وربما قلل من مساحة القلق وجود والديه بالقرب منه، حيث سيعتني الأجداد بالأحفاد برهة من الزمن حتى يعود الأب والأم من رحلة الحج.
ما زالت ذاكرته الخاصة أيضا متوقدة بذكر طفل أكبر كان من نجوم العائلة ثم أفل بالموت، هو لا يحب التحدث عن ذلك كثيرا حتى لا يشعل الأحزان بالقرب من نيران الشوق المؤجلة، وأمَّا ذاكرة سابوندا فهي تعجّ بأخبار الأحداث التي أودت بالعديد من الحجاج في الزمن السابق إلى الموت المحقق، وحتى يبرَّ بالأموات ذهب أخيرا إلى مقابر الأجداد احتراما وترحما.
مشاعر مختلطة
لقد كان حب الصياد عمر لجزيرته التي نمت أظفاره فيها حتى أصبح قادرا على الحج حبا كبيرا، ولولا عشق أكبر سكن في قلب عمر ووجدانه وهو لقاء الله تعالى في بيته القديم لما خرج من جزيرته المنعزلة عن العالم.
ابتهاج جماعي يَعمّ جزيرة سابوندا في الصباح الباكر من يوم السفر، كل المشاعر تلهج بالتهليل والتكبير، ويأتي أفراد العائلة مبكرا قبل أن ينضم إليهم جميع سكان الجزيرة لوداع الحجاج المغادرين، مشاعر مختلطة تصيب الحاضرين، بين حالة قلق من وعثاء السفر وأخبار السابقين عن كثرة حوادث الموت، وفي مقابلها السعادة بزيارة البيت الحرام.
الاستقبال والعودة
بدأت مشاعر الحنين تتسلل إلى الأطفال الثلاثة، وكلما خرج نوفال إلى البحر وجد مشاعر الشوق تأتيه من كل مكان، ووجد في أنشودة يرددها ما يخفف عنه غياب الأب والأم ومشقة الحرمان، فكان ينشد “مياه البحر صافية والأشجار خضراء.. يمكنني أن أقيس عمق المحيط ويمكنني أن أتسلق قمم الجبال ولكن لا يمكنني الدخول لقلبك لأنني لا أعرف مكانه”.
وما هو إلا شهر وانتهى بعودة الحجاج لتفرح العائلة وتنتشر الاحتفالات باستقبال أبطال الرحلة إلى الديار المقدسة، لم تعد أسماء عمر ونورما مجردة عن الألقاب بل حظي البطلان بلقب الحاج والحاجة وسيلازمهما هذا اللقب منذ هذه اللحظة.
اجتمع أهل الجزيرة في غرفة الجلوس وبدأ الحديث عن مشاعر الحج والأحداث التي جرت بكافة تفاصيلها، وفي نهاية الحديث حمد عمر الله تعالى أن مكنه من زيارة بيت الله الحرام، ووفقه لتوفير المال الذي أعانه على هذه الرحلة المباركة.
توفيق داينغ.. قصة حاج آسيوي
بعمل بسيط لا يحقق مردودا ماليا كبيرا بدأ توفيق داينغ حياته العملية كغاسل أطباق طعام في مدينة ماكاسر الساحلية على الشاطئ الجنوبي لإقليم سولاويزي، لم يلبث طويلا حتى اكتسب ثقة مديره بالعمل الذي كافأه بأن منحه السر في صناعة حساء لحم البقر الذي يطلق عليه بالو بازا.
لقد أحدث هذا السر الذي امتلكه داينغ نقلة نوعية في حياته، وبعد ولادة ابنه الأكبر لم ينتظر طويلا بل بدأ بمشروعه الخاص الذي يقدم فيه ذاك الحساء، ومع مرور الوقت زادت نسبة استهلاكه للحم ليصل إلى 200 كغم بعد أن كان لا يزيد عن 2 كغم في بداية عمله، وزاد عدد موظفيه ليبلغ 30 موظفة قدَّم لهنَّ المسكن في بيت بناه لصالحهنَّ.
لم تؤثر حياته البائسة السابقة كغاسل أطباق على حياته الحالية، فاللطف مع الناس هو إحدى خصاله التي أكسبته محبة الجميع، ولأنَّ لكل مجتهد نصيب فقد أدى به اجتهاده إلى الوصول إلى أول مراحل تحقيق الحلم الذي تمناه منذ سنين والمتمثل في زيارة بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وحتى يحيط بكيفية أداء مناسك الحج من فروض وواجبات وسنن بدأ بالمشاركة في حضور المحاضرات الخاصة عن تلك الشعيرة.
مشاعر جياشة أصابت زوجته بوجي أثناء تجهيزها لأوراقه الرسمية، وبدأت ذاكرتها بالعودة إلى موسم الحج الذي كانت هي إحدى حجاجه، لقد ذهبت قبل زوجها إلى مكة المكرمة، وكان دعاؤها خالصا لله أن يرزقه الحج. وأصابها الحزن على حالتها المادية السابقة، فقد عملت بائعة خردوات حتى توفر الطعام لنفسها، وفي أثناء مقابلتها من قبل الجزيرة الوثائقية ذرفت الدموع حزنا على ماض واجهت فيه الفقر والبحث عن الطعام، ثم أبدت شكرها لله تعالى على حالة الكفاية التي تعيشها.
من الإجراءات المتبعة في مدينة ماكاسر لمن أراد أن يذهب إلى الحج أن يخضع قبل السفر للفحص الطبي اللازم، وأخيرا حصل داينغ على الموافقة الطبية، ثم قام بتسديد كافة الديون المستحقة عليه، وأعطى وصفته في الطعام لصديقه المقرب هيرمان والذي تمتد علاقتهما منذ كان في الرابعة عشرة من العمر فهو أقرب إليه من أخيه.
لم يكن أداء مناسك الحج بالنسبة لداينغ إلا تتويجا لـ11 عاما من العمل الشاق، لقد كان وداعه مفعما بمشاعر الحب حيث أنشد في وداعه الأهل والأصدقاء المدائح النبوية ابتهاجا بالمناسبة السعيدة، وأثناء قيامه بمناسك الحج سمع بخبر وفاة والده الكهل فأصابه الحزن وتساقطت قطرات الدمع بكاء على والده، ثم أدى صلاته أمام الكعبة ودعا الله له بالمغفرة متذكرا وجهه وضحكاته.
تورو.. حاج يتحدى المرض
فن صناعة القوارب مهنة امتاز بها سكان قرية آري الواقعة في مدينة ساحلية جنوب إقليم سيلاويزي، ومع تطور تلك الصناعة في القرن التاسع الميلادي ابتكر مبدعو هذا الفن قاربا أطلق عليه بينيسي، ومما يميّز أهل هذه القرية هو امتهانهم هذه المهنة حتى أصبحت صورة مهنية لهم أمام العالم الخارجي، وللمتفوق في هذه الصناعة لقب يتميز به عن سائر الناس، ومكانة اجتماعية تصل به إلى اللقب المنشود وهو “بون جاوا”.
ويعد صاحب هذا اللقب محط اهتمام في إندونيسا بأكملها، فهي صناعة يحتاج إليها أهل الشواطئ لأغراض متعددة تتعلق بالصيد والتنقل، لذلك توجه دعوات عمل من أماكن شتى لبون جاوا ويلبي صاحب هذا اللقب تلك الدعوات ويحصل على المال الوفير، ومن عاداتهم أن يرسلوا المال الذي يحصلون عليه إلى زوجاتهم في قرية آري.
وبدورهنَّ يقمنَ بادخار كافة الأموال المرسلة، فإذا عاد الزوج وجد ماله أمام زوجته حاضرا، ووجدها قد عملت بالحياكة أو النسيج كي تنفق على البيت، أمَّا المال المدخر فهو لقضايا ثمينة كالحج إلى بيت الله الحرام.
ساتو رودين المشهور بتورو في منتصف الخمسينيات من العمر، تميزَّ في صناعة القوارب مما أهله لحمل لقب بون جاوا لعشرين سنة قبل أن تدهمه العلل والأمراض الناتجة عن العمل، فتصيبه بمكروه في رئتيه. لقد تسلل الغبار إلى مجرى النفس ثم اقتحم الرئتين فألقى به مريضا يحتاج إلى الراحة والتقاعد.
لم يستسلم لهجوم الغبار وقابله بالتحدي فاستأنف العمل في فن آخر وهو صناعة الأثاث، ولكن الأمراض كررت الهجوم عليه واستنزاف صحته، مما دفعه لأن يستجيب لدعوة زوجته له بالراحة والتقاعد، فالمال الذي جمعه طيلة حياته يكفي لتلبية الطموحات والأحلام المتبقية في مساحة العمر الباقية وفي مقدمتها الذهاب إلى الحج.
شعب آري.. مراسيم وداع واستقبال
يؤدي شعب آري -وهو الاسم الذي يطلق على سكان القرية- مراسيم خاصة تسمى بباسيتنغ، وهي أعمال من التراث القديم يؤديها الأقارب والأصدقاء أثناء اجتماعهم لتوديع الحجاج، وتعتبر هذه المراسيم أكثر أهمية من المحاضرات الرسمية، وتمهد هذه المراسيم لموسم الحج المرتقب، حيث يُذكّر الحاج بضرورة إخلاص النية لله تعالى وتعزيز الإيمان الخالص الذي لا تشوبه مغريات الحياة.
وجلس تورو يستمع للنصائح والتوجيهات التي قدمها له كبار العائلة لا سيما الحاج بازي رونغ وبان روبا وهما أصحاب مكانة مرموقة في القرية لأنهما يمارسان بون جاوا، فأوصياه بتذكر الله تعالى في مواجهة التحديات، وحذراه من التفاخر كثيرا فعليه أن يحمد الله تعالى أن يسَّر له هذه الطاعة.
وجاء يوم الوداع حاملا معه مشاعر المحبة، مظهرا ترابط مجتمع شعب آرى، وقبل أن يغادر تورو إلى المطار انضم إلى أكثر من 300 حاج في موكب الحجاج وسط حشود كبيرة، وعبَّر الحجاج عن ترحيبهم بمودعيهم وتنافس الحجاج فيما بينهم بإحصاء المودعين، وشعر كل حاج بالفخر كلما زاد عدد مودعيه.
واستخدم بعض المودعين السيارات المستاجرة ابتهاجا ووداعا للحجاج حتى آخر مكان يمكن الوصول إليه. شعر تورو بالسعادة لأنَّ المرض لم يعد إليه وقام بكافة الشعائر الدينية. يقول “كنت أحلم بالسفر إلى مكة المكرمة وقد تحقق لي ذلك، وبعد دخولي إلى الكعبة بكيت ووضعت جبهتي على الأرض، كنت متأثرا جدا، لقد رأيت الكعبة ولمستها وطلبت المغفرة من الله”.
لكل حاج أمنيات يريدها، فعمر ونورما مثّلت لهم مرحلة ما بعد الحج بداية جديدة للحياة، أمَّا داينغ فأخلص لله تعالى ولم يلتفت لمتجره، وبدوره تورو اعتبر ما بعد الحج فترة اختبار للمؤمن يحافظ فيها على وعده بأن يكون مسلما أفضل ويتجنب المحظورات حيث قال “من السهل أن نبدأ ولكن من الصعب أن نستمر”.
وأخيرا تحقق حلمهم الكبير بأداء مناسك الحج، والعودة من مكة المكرمة إلى ديارهم يوحدهم لقب الحاج.