الحج من أذربيجان.. رحلة عبر الزمان والمكان إلى منبع النور
تعتبر أذربيجان من أقدم المواطن التي سكنها الإنسان على وجه الأرض، وتتميز بموقعها الإستراتيجي بين أوروبا وآسيا الوسطى، مما جعل منها ملتقى ثقافات وحضارات العالم، حتى إن بعض الأساطير تقول إن هذا المكان هو جنة عدْن التي سكن بها آدم وحواء، أو هو المكان الذي هبطا إليه من جنة المأوى.
أذربيجان.. شمس الإسلام التي لم تغب منذ الفتح
في سلسلة الأفلام التي تبثها الجزيرة الوثائقية عن رحلة الحج العظيمة من شتى بقاع العالم تأتي هذه المادة الشيقة التي نتتبع فيها خط سير أربعة من أبناء أذربيجان سنحت لهم الفرصة العظيمة واختصهم الله بكرمه للقيام بهذه الرحلة المقدسة لبيت الله الحرام ولمدينة رسوله الكريم.
لم تغب شمس الإسلام العظيم عن أذربيجان منذ أن فتحها المسلمون في القرن السابع الميلادي إلى أن وقعت تحت الحكم السوفياتي سنة 1920.
بعد هذا التاريخ تغير وجه البلاد المشرق ومالت شمسه إلى الأفول، لتعيش البلاد في ظلام الإلحاد الدامس ردحاً من الزمان، وتعرض أهلها المسلمون لحالة من القمع الفكري الممنهج، فأُعدم العديد من العلماء والأعلام، ونُفي كثير منهم إلى خارج البلاد وهدمت المساجد ودور العلم.
بيد أن شأفة الإسلام لم تستأصل بالكلية من قلوب المؤمنين، وبقي طيف الإيمان في قلوبهم، كان خافتاً جداً ولكنه موجود، إلى أن أذن الله بانزياح الغمة وإدبار ليل الإلحاد، لتشرق شمس الإسلام من جديد في عام 1991 عندما نالت البلاد استقلالها من الاتحاد السوفياتي المندثر.
بين ضيق ذات اليد وسعة المعجزات.. رحلة إلى الحج
سميرة سلاموفا، أم لطفلتين، وتبلغ من العمر 31 عاماً، واحدةٌ من بين 1700 مسلم ينالون شرف السفر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج هذا العام.
تعرفت سميرة على الدين الإسلامي منذ كانت يافعة، وذلك بتوجيهٍ وعناية مباشرة من جدتها لأمها، وكانت تذهب إلى المسجد لتتعلم القرآن على الرغم من أساليب السخرية والاستهزاء التي كانت تتعرض لها من أقرانها، وبذلك تكون سميرة الآن من الأغلبية المسلمة في البلاد والتي تبلغ 95% من السكان، وفي الوقت ذاته تتميز عن غيرها بأنها من الأقلية التي تلتزم تعاليم الدين وتحافظ على العبادات، ولا تتجاوز نسبة هذه الأقلية 5%.
لم تكن طريق سميرة مفروشة بالورود دائماً، فقد واجهتها صعوبات عديدة أضاعت فيها بوصلتها، وتهاونت في أمور دينها، وتاهت في شعاب الحياة المعقدة، فقد طلقها زوجها بعد أن ولدت له ابنتين جميلتين، ولم يكن لها عمل تعتاش منه ولا حتى مسكن يؤويها وابنتيها.
لكن والدتها دعمتها مادياً ومعنوياً، واشترت لها شقة تسكنها. وفي الوقت الذي تنكّر لها العالم من حولها، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، تذكرت المثل القائل “إذا اضطرك الناس من حولك للجثو على ركبتيك فاعلم أنها الوضعية المثالية للسجود”، وهكذا عادت إلى ربها واستأنفت العبادة والصلاة من جديد.
أصبحت سميرة الآن تفكر في الحج بشكل جديّ، ولكن ضيق ذات اليد كان يمنعها من التمادي في حلمها، فراتبها الذي تتقاضاه لقاء عملها مديرة للخدمات في أحد الفنادق بالكاد يكفيها للحياة اليومية، وهي تحتاج إلى ما يشبه المعجزة لتتمكن من أداء الحج، وقد تحققت هذه المعجزة بالفعل عن طريق إحدى صديقات والدتها حيث وعدتها بتغطية تكاليف رحلة الحج كلها، وبين التصديق والتكذيب راحت سميرة وأمها في نوبة بكاء مجنون، فرحاً بهذه المنحة الربانية العظيمة، ومنذ تلك اللحظة أصبحت سميرة تستعد لرحلة الحج الموعودة.
“كرّست نفسي لتعلم الدين”.. تعطش المسلمين الجدد لأداء المناسك
زهرة ألييفا، أرملة عمرها 57 عاماً، اعتنقت هي وزوجها الإسلام عن قناعة عام 1998 في مرحلة متأخرة من عمرهما، وهذه كانت إحدى ثمرات انقشاع ليل الشيوعية عن البلاد.
تقول زهرة “إبان الحكم السوفييتي للبلاد لم يكن بمقدورنا قراءة القرآن والاطلاع على معجزاته، ولكن بحمد الله وبعد زوال حكم السوفيات كرّست نفسي لتعلم الدين والعيش وفق تعاليم الإسلام، لقد وجدت بذلك نفسي وفهمت معنى الحياة الحقيقية، فالإنسان بلا دين هو مجرد جسد بلا روح”.
ومن خلال التحاقها بدورات علمية لدراسة الإسلام تقول “معظم المسيحيين الذين درسوا هذه الدورات معي اعتنقوا الإسلام على الفور، لفد فهمنا أن الدين من عند الله واحد، وأن الأديان السابقة للإسلام كان لأمة محدودة في زمان محدد، حتى جاء الإسلام بالرسالة الشاملة للناس كافة، فلا معنى لأي ديانة بعد بعثة النبي محمد وظهور الإسلام”. هذا الفهم العميق لقيم الإسلام يفسر لنا أن المرء حين يعتنق الإسلام في سن متقدمة، يكون ذا تفكير ناضج ونظرة أشمل لمقاصد الحياة.
حلمت زهرة مثل باقي المسلمين في أذربيجان بالحج إلى بيت الله الحرام وزيارة الأماكن المقدسة، ولكن أنى لهذا الحلم البعيد أن يتحقق في ظل محدودية الدخل لدى غالبية الشعب الأذري وارتفاع مستوى البطالة في البلاد، ولكن حين يشاء الله تتذلل كل المصاعب والعقبات.
فها هي زهرة تقيم حفلة في بيتها وتدعو أقاربها وأصدقاءها الذين دعموها وساعدوها في تحمل نفقات رحلة العمر هذه، لتشكرهم ولتعبر لهم عن مدى امتنانها لهم، وسعادتها أن وفقها الله لأداء الركن الخامس لهذا الدين العظيم. وقد كان أصدقاؤها أكثر فرحاً وهم يدعون لها بالتوفيق ويطلبون منها أن تتذكرهم وتدعو لهم عند البيت العتيق.
“كانت سببا في هدايتي إلى طريق الحج”.. رد الجميل
كميل ألماميدوف، أمين مستودع، هداه الله للإسلام حديثاً، يتحدث عن تجربته في اعتناق الإسلام قائلا إن صديقه سيمور دعاه إلى جلسة مع أصدقائه المسلمين، ودارت بينهم أحاديث ونقاشات عن الدين والهدف من الحياة ونظرة الإسلام للفرد والكون والحياة.
وقد شد انتباهه شمول الإسلام ويسره وسهولة تعامله مع عناصر الحياة المختلفة وبساطة التكاليف ووضوحها، وسمع معلومات جديدة عن الله والقرآن لم يكن يعرفها من قبل، فزاد تعلقه بهذا الدين العظيم وشرح الله صدره للإسلام، وكان الفضل في ذلك بعد الله سبحانه لزوجته آيغون، فقد سبقته بقليل إلى الإسلام، ومهدت له الطريق لاعتناق الدين الجديد، وأزالت الكثير من الشبهات التي كانت تُزيغ عينيه عن اقتفاء الصراط المستقيم.
تقول آيغون “لم يكن الأمر بهذه البساطة، لقد واجهنا العديد من المصاعب والتحديات، ومررنا بعدد كبير من الامتحانات والابتلاءات، ولكننا صبرنا حين علمنا أن هذا اختبار من الله ليرى مقدار تحملنا لهذه الأمانة العظيمة، وبعدما تجاوزنا هذه المرحلة الحرجة بسلام؛ منَّ الله علينا بسكينة وطمأنينة لا توصف، وتبدلت حياتنا إلى حب وسعادة لا تنتهي، ذلك أن الذي يصبر على قضاء الله وقدره ويرضى بحكمه، يبدله الله رضاً وقناعة في النفس لا تعدلها كل منغصات الحياة وشدائدها”.
وكغيرهما من المسلمين في هذه البقعة من العالم، بدأ كميل وآيغون بالتفكير في إتمام الركن الخامس من التزاماتهما تجاه الله سبحانه، ونجح كميل في ادخار مبلغ من المال يمكّنه وزوجته من أداء هذه الفريضة العظيمة.
يقول كميل “لم أجد أحسن من هذه الفرصة لأعبر لزوجتي عن حبي وامتناني وعرفاني لها، لقد كانت سبباً رئيسياً في هدايتي إلى طريق الحج، وها أنا ذا أحاول أن أرد لها الجميل، سوف أصطحبها في هذه الرحلة المباركة إلى الله. لن تتخيلوا كم كانت فرحة آيغون بهذه الهدية، وفيما لم يتبق سوى يومين على موعد الرحلة تكاد آيغون لا تصدق ولم تستوعب بعد أنهما سيكونان وجهاً لوجه أمام الكعبة المشرفة في غضون أيام. يا لله ما أعظم عطاياه”.
“كانت رحلة ميسرة”.. طريق البر الأذري إلى مدينة الرسول
جاء اليوم الموعود، وها هم 1700 حاج يتجمعون في ساحة الحافلات في وسط باكو عاصمة أذربيجان استعدادا للانطلاق في 44 حافلة، في رحلة العمر التي ستستغرق ستة أيام للوصول إلى الديار المقدسة.
في هذه الأثناء تتنقل الكاميرا بين جموع المسافرين والمودعين، تبحث عن كميل، ها هو وزوجته آيغون يودعان أهليهما والأصدقاء، تتراوح مشاعرهما بين الفرحة بقرب لقاء الكعبة والحزن على فراق الأهل والأقارب، بين إشراقة العيون والتماعها وتجاوزها ما وراء الأفق حيث الأرض المقدسة والبيت الحرام، وخفق القلوب واضطرابها في الصدور التي تحتضن الأحبة.
وفيما تحزم زهرة أمتعتها وتضع اللمسات الأخيرة على مستلزماتها لتستقل الحافلة المنطلقة في المساء، فإن سميرة ستتوجه إلى المطار حيث ستسافر بالطائرة إلى جدة في المملكة العربية السعودية.
في هذه الأثناء لم تنس سميرة أن تتصل بصديقة أمها التي ساعدتها في تكاليف الحج لتودعها وتطلب منها الدعاء والسماح.
تصف زهرة الرحلة بالحافلة عبر البر فتقول “إنها كانت رحلة ميسرة، والباصات مكيفة ومريحة، وبالرغم من طول المسافة البالغة أكثر من 4000 كلم، فإن المرور ببلدان عديدة وتضاريس مختلفة وثقافات وأناس لم نألفهم من قبل، كل هذا أعطى للرحلة طعماً آخر”.
ففي رحلة البر يسافر الحاج الأذري عبر أراضي جورجيا (وأحياناً عبر إيران) وتركيا وسوريا والأردن وصولاً إلى الأراضي السعودية والديار المقدسة، وهناك تكون المحطة الأولى في المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى ومهوى الأفئدة ومهبط الوحي ومثوى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
تقول زهرة عن المدينة المنورة: إنها مدينة هادئة وجميلة، وأهلها ودودون طيبون، وشوارعها فسيحة ونظيفة، وهي مضاءة طول الليل، وتكاد المدينة لا تنام ليلاً ولا نهاراً، فالحركة دائبة والأسواق عامرة والمسجد يعج بملايين المصلين من كل أنحاء الدنيا، وأتيحت لها فرصة السلام على النبي الكريم وزيارة قبره الشريف.
في رحاب الكعبة
تأخذ زهرة نفساً عميقاً قبل أن تستأنف “ولكن كل ما مررنا به من جمال وسرور وطمأنينة وسكينة لا يعادل لحظة وطئت قدماي ثرى مكة الطاهر”.
كانت تظن أنها وحدها هي من شعرت بهذا الشعور، ولكنها أدركت فيما بعد أن كل من رأى الكعبة يشاطرها نفس الإحساس، لقد كان شيئاً أشبه بالخيال، شعرت بروحها تسبح في بحار من النور، تلعثم لسانها بالدعاء، ولكنها لم تبال بذلك، فهي على يقين أن الله يعلم سؤلها، بل وتشعر بالإجابة تتنزل في التو واللحظة، وهناك عند المقام كانت سميرة تعيش عالماً أسطورياً من نفحات الرحمة والسكينة تداعب كيانها، تنظر إلى أستار الكعبة وكأنها غير مصدقةٍ أنها في هذا المكان حقيقةً تقلب بصرها في أنحاء شتى ثم تعود تنظر في الكعبة، كأنها تحاول أن تقنع نفسها أنها ليست في حلم، وحين تستيقن حقيقة ما يحدث تجهش بالبكاء، وترفع صوتها بالدعاء، وتشعر أنها أقرب ما تكون إلى ربها، فيخفت صوتها وتبدأ بالمناجاة، تذكرت جدتها وأمها وصديقتها التي تحملت عنها تكاليف الحج، فدعت لهم جميعاً وعاهدت نفسها أن تحج عن جدتها في المرة القادمة”.
“لقد كانت هدية ثمينة من الله”
لم يكن كميل وزوجته أقل حظاً من زهرة وسميرة، فقد تعرضا لنفحات الله عز وجل في المدينة ومكة، وعاشا تجربة فريدة حين شاهدا الكعبة على الحقيقة.
يقول كميل “لقد كانت هدية ثمينة من الله اختصني بها لأداء الركن الخامس في صرح الإسلام العظيم، إن هذا يلقي على كاهلي مسؤولية عظيمة في مزيد من الالتزام بالآداب والطاعات، بل وتعليمها للناس الذين لم يعيشوا لحظات الصفاء والقرب والحقيقة هذه”.
صحيح أن الأمور قد تغيرت إلى الأحسن في أذربيجان، ولكن الغالبية العظمى من سكان البلاد لم يتذوقوا حلاوة الإيمان الحقيقية مثل هؤلاء القلة الذين أنعم الله عليهم بالحج، لكن الأيام القادمة تحمل في طياتها كثيراً من البِشرِ والتفاؤل بأن تكون الأمور أحسن حالاً، ويعود الشباب إلى ربهم، ويتفيؤون ظلال دين آبائهم وأجدادهم الأوائل.