“مناطيد فوق بابل”.. رسائل من مهد الحضارات القديمة إلى حضارتنا
يحلم المواطن العراقي مُرتضى الهاشمي أن يرى العالم كله من بلده العراق أرض مهد الحضارات من الجو، وأن يشاهد الناس في كل مكان مدينة بابل الأثرية من منطاد هوائي يُحلّق فوقها. حيث يحلم الهاشمي أن يركب على متنه بصحبة ابنه وآخرين من الحالمين مثله والمحبين للسلام، وينقلوا من الأعالي من سماء البلاد التي كُتبت فيها أولى صفحات التاريخ رسالة حب إلى البشرية جمعاء، تدعوهم فيها للتعرف على عراق آخر غير عراق الدم والتفجيرات الذي يشاهدونه عبر وسائل الإعلام.
هذا الحلم نقله الهاشمي إلى المخرج السويدي “فولكه ريدِن”، وأقنعه بتوثيق الرحلة التي يريد القيام بها لتحقيق ذلك الحلم.
الإعلان عن الموافقة جاء عبر وثائقي حمل عنوان “مناطيد فوق بابل”، حيث افتُتح بمشاهد مُصوّرة للمدينة، وكلام شاعري للمواطن العراقي الحالم بركوب منطاد هوائي عملاق يطير فوق غيوم بلاده الجميلة، كان هذا عام 2013. وبعده بعام واحد تقريبا نشاهده في مطار كوبنهاغن بصحبة مجموعة من قادة المناطيد مكونة من 17 شخصا من جنسيات مختلفة، كانوا معه في طريقهم إلى بغداد لإقامة “مهرجان المناطيد الدولي الأول” هناك.
أوضاع العراق.. مد وجزر في بحر متقلب هائج
كانت الخطة تقضي بنقل كل المعدات والمناطيد إلى بغداد، وهناك يتولّى المشرف على المشروع ترتيب الجوانب اللوجستية للمشاركين فيه (الإقامة في الفنادق والتنقل وغيرها). كل شيء كان يبدو مُهيّئا للانطلاق، إلا أن أخبارا مُقلِقة وصلت إلى المشاركين تفيد بقيام مجموعات مسلحة بأعمال إرهابية في العراق، مما أدى إلى تحركات عسكرية واسعة تُعيق تحركهم بحريّة، وقد تُعرِّض حياتهم للخطر. المعلومات التي وصلت للمجموعة دفعتها لإعادة النظر بسفرها، وقررت على ضوئها تأجيل المشروع مؤقتا.
تكررت عمليات التأجيل لأسباب مختلفة طيلة زمن تنفيذ المشروع، مما سيدفع الوثائقي للتوافق معها، حيث كان عليه نقل حالة المد والجزر التي يشهدها المشروع، لأنه عبرها يمكنه رصد حالة البلاد وما يجري فيها، وبها يتمكن أيضا من توسيع مديّات رؤيته للمشهد العراقي المُعقّد، ويُبعد عنه صفة “البورتريه” الشخصي.
رحلة إلى الجذور
توزعت مساحة وزمن الوثائقي وفق تحرّك العراقي الحالِم بالعودة إلى بلاده بعد طول فراق، حيث نراه خلال فترة انتظار المجموعة للبتّ في قرار مشاركتها؛ موجودا في جنوب العراق حيث وُلد وترعرع في تلك الربوع.
تستغل الكاميرا الفرصة لتنقل جماليات المكان، حيث يتنقل هو وأولاده بين مياه الأهوار الرائعة، وينقل أثناءها تفاصيل حياة الناس المقيمين فوقها.
الكلام عنها يوصله إلى محطات من تاريخه الشخصي وتاريخ عائلته، فيتغير المزاج عندها، ويشتد كآبة بوصوله إلى موضع الأحزان الأشدّ، حيث العام 1976، وذلك حين اضطر والده للخروج من العراق بعد أن قامت أجهزة مخابرات النظام البعثي باعتقاله لشهور.
هجرة إجبارية ثم عودة إلى الوطن
عند خروجه من السجن اصطحبه والده وبقية أفراد العائلة إلى خارج البلاد اضطرارا، حيث أقام في أكثر من بلد، وفي النهاية وبعد طول ترحال استقر به المقام في لندن.
كان طفلا يوم غادر العراق، وحين وصل لندن ودخل مدارسها واجهته مشاكل التمييز العنصري، وذلك بسبب اختلاف لون بشرته وعِرقه عن بقية الطلبة الإنجليز، وقاده ذلك إلى ترك مدرسته لسنتين، تعرّف خلالها على عالم مختلف عنها.
خبرته الحياتية أوصلته إلى حقل الإعلام الذي عمل فيه مدة، لكونه كان يدرك أهميته ومقدرته على تغيير قناعات الناس والتأثير في مواقفهم السياسية والثقافية. يحكي الهاشمي أمام كاميرا المخرج السويدي بعض محطات تاريخه الشخصي بإيجاز، وصولا إلى عام 2004، يوم عاد إلى موطنه بعد سقوط النظام.
“جنّة على الأرض”.. إعلام مُغاير للواقع
ما رآه الهاشمي على أرض العراق غيّر قناعته، ودفعه للتفكير بمشاريع تنقل الواقع العراقي كما هو، لا كما تنقله وسائل الإعلام التي تُركّز غالبا على نقل أخبار الحرب والدمار، وتتجاهل جوانب تؤشر إلى رغبة العراقيين في عيش حياتهم كما تعيشها بقية الشعوب بسلام وطمأنينة.
من هنا جاء التفكير بمشروع المناطيد، وإمكانية استخدامها وسيلة لنقل حقائق وتاريخ عريق ينبغي للعالم الاطلاع عليه، وكان أطفاله من بين العوامل المشجعة له للمضي بإنجاز مشروعه، حيث أراد لهم معرفة موطن أجدادهم، ومعايشة أبناء وطنهم على أرضهم التي لم يتوانَ عن وصفها مرارا وتكرارا بأنها “جنّة على الأرض”.
لقد حظي مشروع مرتضى برضا والديه واعتبراه مفخرة لهما، لكن الأب كان يتحفظ عليه من جانبه الأمني، فقد كان خائفا من أن تتعرض المناطيد وهي في الجو لهجوم، أو حتى لإطلاق نار عشوائي في ظلّ الفوضى السائدة بسبب تفاقم الصراع المسلح.
كما تشتهي الريح.. رحلة في عالم المناطيد
الهولندي “تون كورفيس” كان واحدا من بين أكثر قادة المناطيد حماسا لتحقيق المشروع، حيث وجد مُخرج الوثائقي فيه عنصرا مساعدا يُعينه على دخول عالم رياضة المناطيد الهوائية والتعرف على فلسفتها، ما دامت في صُلب مادته السينمائية التي ينجزها.
وما يزال “كورفيس” رغم بلوغه السبعين من العمر، نشطا ومثابرا على ممارستها، وإليها يُحيل سبب حيويته، فحُبّه لها متأتي من حُبّه للحرية التي يشعر بها وهو مُحلّق فوق الأرض، فهي تلبي جزءا من رغبته في تجريب الأشياء الخطيرة.
خبرته العملية زادت عن 3500 رحلة طيران، زار خلالها أكثر من ثلاثين بلدا، ويجد في عدم دقتها أثناء الهبوط جمالا وتعبيرا عن وحدة البشر وعفويتهم، فهي تحل كما تشاء الريح، لا تلتزم بقوانين صارمة كالتي تلتزم بها الطائرات، ولهذا فإن فكرة مشاركته حلم المواطن العراقي تتوافق مع نظرته للرياضة التي يجد فيها وسيلة لنشر السلام والمحبة بين الشعوب، وكان حريصا على نقل باقة من زهور التوليب معه إلى العراق كعربون محبة، وتعبيرا عن احترامه لرغبتهم في عيش حياة خالية من الحروب والعنف.
زار الوثائقي قائدا آخر للمناطيد يُقيم في شمال السويد، ورافقه في جولة إعلامية نقل خلالها معلومات عن مشروع “العراقي”، واستعداده للمشاركة في مهرجانه المراد إقامته في بغداد.
إحباط وعنف.. تغيّر في مسار الخطة
ظلت حالة التجاذب في مسار المشروع قائمة، حيث توارد الأخبار عن سيطرة “داعش” على مساحات كبيرة من أراضي “نينوى”، وتزايد أعمال العنف هناك دفعت بعضهم لإعلان انسحابه والاعتذار عن المشاركة، فلم يبق منهم سوى أربعة قادة أصرّوا على الذهاب رغم شدة الظروف، وذلك بعد أن أقنعهم الهاشمي بأن مسار الرحلة قد تَغيَّر، وأنه سيكون محصورا في جنوب العراق، فالوضع هناك أفضل أمنيا.
خلال تلك الفترة كان صاحب المشروع يتحرك رغم الإحباط الذي تعرّض له مشروعه، وذلك لتأمين ميزانيته من جهات رسمية، وفي نهاية المطاف وبعد جهد جهيد حصل على موافقات بتغطية جانب من المصروفات.
فوضى مؤسسات الدولة.. تسيّب ومماطلة بيروقراطية
ينتقل الوثائقي ثانية إلى مطار كوبنهاغن، لينقل اللحظات التي سبقت صعود المشاركين على متن الطائرة التي ستحملهم إلى العراق. تفاصيل الأيام العشرة التي تسبق انطلاق المهرجان في بابل تزدحم بالخيبات والمشاكل، وبالأمل بالنجاح أيضا.
يرافق الوثائقي سفر المجموعة إلى محافظة كربلاء وإقامتها في أحد فنادقها، فهناك بدت الحركة نشطة والاستعدادات ملموسة أكثر، لكن كان هناك دوما عائق ما يظهر في طريقهم وعليهم تجاوزه.
لا شيء يسير بسهولة، يعكس ذلك حالة الفوضى وانعدام وجود المؤسساتية، ففي كل عقبة لا بدّ من تدخل مسؤول رسمي بشخصه لفكّ عقدتها، إضافة إلى أن انعدام ضوابط العمل كانت سببا في نشوب خلافات بين المشاركين، وجُلّهم غربيين وبين المنظمين العراقيين.
لم يفهم الضيوف حالة عدم المبالاة والتسيّب والمماطلة البيروقراطية التي تربك عملهم، حيث توجت بتوقيف إخراج معداتهم من دائرة جمارك مطار النجف، ما يعني فشل انطلاق المشروع في موعده.
تحديات وقرارات حاسمة.. ضبط البوصلة
انعكست كل التحديات التي واجهها المشروع على حيوية وحماسة صاحب المشروع الذي لم يُخفِ الإعلان عن وجود أيادٍ خفية تريد إحباط المشروع وعدم رؤيته النور، ولكنه لم يبحث في دوافع التأخير وتنصُّل بعض المسؤولين عن وعودهم التي قطعوها بمساعدتهم، بل ركز على عرض المشهد العام الذي تجري فيه الأمور، مما يعكس فسادا وفوضى.
قسم من هؤلاء المسؤولين اختفى من الصورة تماما، حيث تركهم وحدهم في حيرة، فارتباك المشهد الأمني زاد من قلقهم. لقد حدث انفجار هائل بالقرب من الفندق الذي يقيمون فيه، فشاع الخوف بينهم، ودعا البعض منهم إلى إعلان فشل الخطة واستحالة تطبيقها في ظلّ الفوضى العارمة.
وجد الهاشمي نفسه أمام تحدٍّ كبير، وكان عليه اتخاذ قرارات حاسمة، بعد أن تأكد له أن وجوده في كربلاء لن يحقق ما يصبو إليه، حيث قرر نقل المجموعة إلى بابل مباشرة، والضغط على مسؤولي الجمارك والمطار من هناك.
الطيران فوق بابل.. فرحة الصعود إلى السماء
في بابل واجهت المجموعة مشاكل تقنية كثيرة، أبرزها عدم وجود أجهزة لشحن الغاز الخاص بالمناطيد، وغياب مسؤول محدد يمكن التفاهم معه، لكن مع كل ذلك وجد صاحب المشروع العراقي حلولا سريعة لها مكّنته من إطلاق المناطيد في الجو.
تحديات كثيرة تم تجاوزها بصبر وحكمة، حيث وجد العراقي خلال مكوثه في بلده نواقص ومشاكل لوجستية لم يتوقع وجودها، شاهد فوضى تنظيمية وإدارية بدت له -وهو الذي عاش معظم حياته في دولة غربية- غير مفهومة وغير منطقية لم تُبددها سوى فرحة الناس وهم يشاهدون في مدينتهم العريقة أجانب ومناطيد كبيرة على أهبة الاستعداد للصعود إلى السماء.
رسالة من سماء بابل إلى العالم
في ساحة كبيرة اكتظّت برجال الشرطة وجموع المشاهدين ووسط دهشة الأطفال وسعادتهم؛ صعد الحالمون إلى الأعالي ليشاهدوا بابل وكل حضارتها تحتهم، حيث نقلت كاميرات الوثائقي مشاهد رائعة لأرض احتضنت أعظم الحضارات البشرية، وفي أحد المناطيد الزاهية الألوان كان الهاشمي موجودا ومعه ولده، لقد تحقق حلمه أخيرا. حيث شاركه والداه سعادته وأعضاء الفريق الذين كانوا راضين بما أنجزوه، رغم أنه لم يكن بمستوى طموحاتهم، لكن الأهم بالنسبة إليهم كان إيصال رسالة سلام للعالم من سماء بابل، ومن البلاد التي لطالما سمعوا عنها في طفولتهم الكثير من القصص الخيالية.