“المواطن مصري”.. حضور الفلاح للحرب وتغييبه عن النصر

“أبي، لقد حصلت على معدل 50% في الثانوية العامة، ليست نتيجة جيدة أعرف ذلك، ولكنها مثل محصلة كل الناس في مصر يا أبي، تجد الواحد منهم نصف سعيد ونصف حزين، نصف جائع ونصف شبعان، حتى في الحرب والسلم فنحن نعيش حالة من عدم بالحرب وعدم السلم، البلد كلها تعيش على معدل الـ50%، لست انا الوحيد يا أبي”.

كان هذا مصري يحاول أن يقنع والده عبد الموجود بنتيجته في الثانوية العامة، وقد دارت هذه الحوارت وغيرها في الفيلم المثير للجدل “المواطن مصري” الذي عرض في عام 1991، وقد فتحت له قناة الجزيرة الفضائية حلقة نقاشية جادة، ضمن برنامج “خارج النص”.

المواطن مصري.. اقتباس سينمائي من رواية عبقرية

يفتح هذا الفيلم صفحات أخرى من حرب أكتوبر 1973، تلك الحرب التي تعد الوجه المشرق الوحيد للواجهة العسكرية في مصر والعالم العربي كله.

مخرج الفيلم هو السينمائي المصري القدير صلاح أبو سيف، والسيناريو مأخوذ عن رواية يوسف القعيد (الحرب في بر مصر)، وتحكي عن صفحات لم ترو في معركة النصر، وعن بقع سوداء في ثوب النصر الأبيض الناصع. أما الروائي يوسف القعيد فهو أيديولوجي ناصري، متميز في الرواية منذ ستينيات القرن الماضي.

محمد عبد العاطي صائد الدبابات في حرب أكتوبر أصبح مواطنا مهمشا، وذهب الكبار بإنجازاته

وقد كانت الرواية موضع اهتمام كُتّاب السيناريو منذ زمن طويل، ولكن الرقابة وقفت في وجهها طويلا، وقد كتبها المؤلف بعد أحداث 17 و18 يناير/كانون ثاني 1977 المعروفة بثورة الجياع، عندما شعر الناصريون والشيوعيون  أن السلطة الحاكمة -ممثلة بالسادات- والناس بدأوا يتنكرون للحقبة الناصرية ويرتدّون عنها.

يقول حسين القلا منتج الفيلم: القصة جميلة جدا، ولقد تواصلتُ مع صلاح أبو سيف من أجل إخراجها كفيلم، وأسندنا السيناريو للكاتب المرحوم محسن زايد، ثم بدأنا المراحل الأخرى من الإنتاج، والبحث عن الممثلين المناسبين.

البسطاء وقود الحرب والقطط السمان تحتفي بالنصر

عرض الفيلم في أجواء أوائل التسعينات وما رافقها من انفتاح على الغرب، بل وارتماء في أحضانه، وخصخصة القطاع العام، ونفوذ المستثمرين وأصحاب المال من الداخل والخارج، وجاء لينتقد سياسات الرئيس السادات التي تعتبر أنها هي التي جرّت البلاد إلى هذا المستنقع، واعتبار ما يحدث بمثابة ردة عن المكاسب الناصرية.

أما شخصية العمدة التي جسّدها الفنان عمر الشريف، فلا تقتصر على العمدة فقط، بل تتعداه إلى المحافظ ورئيس الناحية بل والوزير ورئيس الحكومة، وصولا إلى رئيس

العمدة يقايض الخفير على أن يخدم ابنه في العسكرية بدل ابن العمدة في مقابل أن يؤجره الأرض التي هي أصلا ملك الخفير

الجمهورية، وأما شخصية عبد الموجود -التي جسدها باقتدار الفنان عزت العلايلي- فتمثل المواطن المصري العادي المسحوق الجائع.

وكان المواطن “مصري” وأمثاله من المزارعين البسطاء بمثابة وقود للحرب، وأما السلطة الحاكمة وحلفاؤها من المنتفعين (القطط السمان)، فهم من كسبوا خيرات الحرب وتنعَّموا بنتائجها، بل واستكثروا على الفلاح البسيط قطعة الأرض الصغيرة ذات الخمسة أفدنة، وأعادوها للإقطاعيين القدماء.

“معك قرش تساوي قرشا”.. قصة الفيلم

تدور قصة الفيلم حول ابن العمدة المُرفّه المنعّم الذي لا يحسن أن يصنع شيئا، وقد جاء موعد تجنيده في “الجهادية” ليؤدي الخدمة العسكرية، فتفتق ذهن أمه الماكرة لاستبداله بمصري بن عبد الموجود، الفلاح البسيط الذي يعمل في أرض العمدة، وتكون الصفقة أن يخدم ابنه في الجيش بدل ابن العمدة مقابل أن يكتب له العمدة وثيقة إيجار، تمكنه من الانتفاع بالأرض التي يعمل فيها، والتي كانت ملكه أصلا، قبل أن تعيدها المحكمة إلى الإقطاعي العمدة.

لقطة من الفيلم يجسد فيها حسن حسني دور القادر على إنجاز أي شيء في الحكومة من شراء للذمم والتزوير مقابل الفلوس

جاءت الشخصيات المساعدة في الفيلم؛ مثل الشخصية التي جسدها الممثل المنتصر بالله، وشخصية المتعهد التي مثلها الفنان حسن حسني رمز الفساد بكل أشكاله، لتعطي رونقا جذابا وواقعية صادقة لما آلت إليه حياة المواطن المصري الذي لا يملك مالا يحفظ به كرامته، لتصدق مقولة مؤلف الرواية “معك قرش تساوي قرشا”.

هؤلاء الفاسدون المرتشون يستغلون ثغرات القانون ويشترون ذمم الناس بالمال، ولا رادع لهم من سلطة نزيهة، ولا وازع لهم من ضمير مؤنب، فهم يسرحون ويمرحون، ويعيثون في الأرض فسادا، ويطأون رؤوس المسحوقين بأقدامهم.

“عبرنا وانتصرنا”.. فلسفة السلطة في عصر مبارك

لاقى الفيلم كغيره من الأعمال انتقادات عديدة، وهذه الانتقادات جاءت في الغالب من الذين يناصرون حقبة السادات ومبارك، ومن هذه الانتقادات تقزيم نصر أكتوبر، وتحجيم قدرات المصريين، والتباكي على الحقبة الناصرية والانحياز السافر لها، والعودة إلى الوراء على حساب عهد السادات، حتى أن مشاركة الفيلم في مهرجان موسكو، جاءت كصفعة للاتجاه المتأمرك.

جريدة الأحرار تصف الفيلم بأنه “مرثية عبد الناصر” كناية عن عهد عبد الناصر الذهبي في مقابل عهد السادات

أما المهادنون للسلطة الحاكمة، فهم يريدون من الشعب أن يردد فقط “عبرنا وانتصرنا” (كناية عن عبور القناة وانتصار أكتوبر ١٩٧٣)، ولا يريدون منه أن يُقلّب أوراق الماضي أو يعيد دراسة الثغرات أو يناقش الأخطاء. وهذا الفيلم -على غير ما يشتهون- جاء في المساحة التي تكرهها السلطة.

ومع أن الرقابة تعد مخلبا من مخالب السلطة وتتماهى مع توجهاتها القمعية، ومع أن الفيلم لم يحذف منه ولا حتى لقطة أو كلمة، فإن الفيلم قد منع في بعض البلاد العربية، على حد قول حسين القلّا منتج الفيلم.

عبد الناصر والإصلاح الزراعي.. ذرّ الرماد في العيون

وُصف الفيلم بأنه (مرثية العهد الناصري)، لكن الذين يتباكون على العهد الناصري ويصورونه بأنه انتصر للفلاحين وأنه أخذ حقوقهم من الإقطاعيين وقضى على الفساد، يغفلون عن انتهاك حقوق الناس وإعدامهم وكبت الحريات واعتقال الآلاف لأسباب سياسية بحتة.

يمثل الفيلم هزيمة المواطن المصري المسحوق أمام جبروت السلطة، وعنجهية الإقطاعيين، وتزلف أهل الفساد والمرتشين، وقد كانت صورة عبد الموجود (عزت العلايلي)، وهو يستلم صك قطعة الأرض من عبد الناصر معبرة جدا، فكأنه كان يسأله: ماذا ستفعل لو استعاد الإقطاعيون منك الأرض بحكم محكمة؟ كانت تلك الصورة تمثل قمة القهر والعجز والهزيمة.

الفيلم يتعرض إلى النقد السينمائي من قبل المختصين في بعض جوانبه الفنية

أما قمة الانكسار فكانت عندما أتوا بعبد الموجود ليتعرف على جثة ابنه الشهيد، ولم يستطع أن يقول الحقيقة، لقد أدى عزت العلايلي في هذا المشهد أروع أدواره على الإطلاق، وأدى عمر الشريف وحسن حسني دور الذي يملك زمام الأمور في هذا الموقف بكل براعة، إنهم يعلمون أن عبد الموجود لن يستطيع القول بأن هذا ابنه، لأنه كان قد قبض ثمن هذا الموقف دراهم معدودة. لقد اشتروا منه حتى وطنيته التي كان يمكن أن يفاخر بها عندما يدفن ابنه الشهيد ويستلم وسامه العسكري.

هفوات فنية.. كفى الفيلم فخرا أن تُعدّ معايبه

رغم أن الفيلم بقصته وطاقمه كان على درجة عالية من الحرفية والإتقان، فإنه تعرض للنقد في بعض الجوانب الفنية؛ فطريقة استشهاد مصري لو تمت كما في الرواية، حيث طلب أن يكون على الجبهات الأمامية للقتال، لكانت أفضل من طريقة استشهاده في الفيلم، فقد مات بانفجار لغم في الخطوط الخلفية، في ما يشبه الانتحار لا الاستشهاد.

وهناك هفوة أخرى في الفيلم لم يعالجها المخرج بطريقة لائقة، فكل أهل البلد يعرفون “مصري”، ويعرفون أنه ابن عبد الموجود وليس توفيق ابن العمدة، وعندما حضرت جثة الشهيد لم يتحدث أحد عن هذا التزوير الفاضح.

أما الانتقاد الثالث فهو أن عبد الموجود بقي أسير فكرة العبودية للإقطاع، وقتلت فيه روح الثورة على القيود، وأخمدت فيه جذوة الوطنية، فانتهى الفيلم على انكسار وذل وهزيمة طالت الشريحة الكبرى من المصريين، وهم الذين يمثلهم المزارع عبد الموجود، الشريحة التي كانت وقود الحرب، لكنهم لم يقطفوا ثمار النصر، ولا حتى وسام الشهادة.


إعلان