“جزائرهم”.. رحلة في الذاكرة الشخصية لجدّين انفصلا في الغربة

ترصد المخرجة الفرنسية لينا سويلم في فيلمها الأول “جزائرهم” الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية حكاية جدّيها مبروك وعائشة، لكنها تنطلق من خلالهما إلى رحلة طويلة في الذاكرة الشخصية لكل منهما على انفراد، من دون أن تنسى الغوص في تفاصيل الزمان والمكان، لتكمل في نهاية المطاف رسم المثلث المتساوي الأضلاع الذي يضمّ هاتين الشخصيتين الإشكاليتين، وما يتشظى منهما من أحداث رئيسية وثانوية تحاكم الذاكرتين الفردية والجمعية على حد سواء.

عالم الجدّة.. صندوق أسرار العائلة

ينطوي هذا الفيلم الوثائقي المتدفق على حكايات عديدة لا تُشعِر المتلقي بالملل، فهذه الحفيدة المنحدرة من أب جزائري هو الفنان عز الدين سويلم وأم فلسطينية هي الفنانة هيام عباس؛ تميل إلى جدتها كثيرا، لأنها راوية جيدة وساردة قصص متمكنة، لكنها تتكتّم ولا تبوح بكل شيء، فهي أقرب ما تكون إلى صندوق مقفل ومنجم للأسرار الشخصية والعائلية، وتتحرّج من الكلام عن تجربتها العاطفية مع زوجها مبروك الذي اقترنت به في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي في قرية لعوامر شرقي البلاد، وهاجرت معه إلى مدينة تيير الفرنسية، لتؤسس لذاكرة شخصية وزمكانية جديدة تنفتح من خلالها على الجالية الجزائرية المهاجرة، وتندمج إلى حد ما في المجتمع الفرنسي بما يحمله من قيم جديدة ومغايرة لما عرفتهُ في موطنها الأول، وسبّبت لها بعض الحواجز التي حطمتها واحدا إثر الآخر، لما تنطوي عليه من روح حيوية مرحة تؤهلها للولوج في عالمها الجديد الذي لا تجد صعوبة في التناغم معه، أو الانفتاح على معطياته الجديدة.

وإذا كانت هناك إمكانية لاستدراج الجدة للحديث أو البوح ببعض الأسرار الشخصية، فإن شخصية الجد مبروك هي الأكثر تعقيدا، لأن لديه شخصية انطوائية متكتمة، وربما يحتاج إلى كثير من الوقت لتحطيم صمته وعزلته الفردية التي يحتفي بها على مدى السنوات والعقود المنصرمة.

مبروك وعائشة.. حكاية عاطفية قديمة طي الكتمان

لا تقتصر عناصر الإغراء في هذا الفيلم على تحطيم حاجز الصمت وتقويض جدران العزلة التي تحيط بالجد مبروك، فثمة حكاية عاطفية قديمة لا يبوح بها الطرفان اللذان أحبّا بعضهما وارتبطا برباط الزوجية، وهاجرا بحثا عن حياة اقتصادية أفضل، لكنهما بعد مرور 62 عاما قرّرا الانفصال، واختار كل منهما سكنا خاصا يلوذ به بعيدا عن الآخر.

ولو شئنا الدقة فإن الجدة عائشة هي التي اختارت هذا الانفصال، لكن قيمها الاجتماعية وعقليتها الجزائرية لم تسمح لها بالنأي الكلي عن هذا الزوج الذي رافقته طوال ستة عقود أو أكثر، بل كانت تؤمّن له المأكل والمشرب وبقية مستلزمات المعيشة اليومية وتتردّد عليه، لكنها لم تستطع أن تخترق جدار العزلة التي فرضها على نفسه، وإن كان يخرج بين آونة وأخرى إلى المقهى، أو يزور بعض الأماكن القريبة إلى نفسه، مثل متحف الأدوات المنزلية، أو معمل السكاكين الذي أمضى فيه شطرا طويلا من حياته العملية التي أحبّها رغم المنغصات التي كانت تصادفه هنا أو هناك، فهو بالنتيجة مهاجر لجأ إلى فرنسا بهدف العمل، حتى أن إقامته الرسمية لم تكن دائمة بل كانت تتجدد كل عشرين عاما.

الحفيدة مخرجة فيلم “جزائرهم” لينا سويلم تحاور جدها مبروك وتتقصى تاريخه الشخصي

جيل العائلة الثالث.. محاولة لكسر حاجز الصمت

تسعى المخرجة لينا سويلم إلى رصد ثلاثة أجيال، بدءا بالجدين اللذين يشكّلان عصب القصة السينمائية، ومرورا بالأب عز الدين سويلم الذي يرفض الاعتراف بفكرة انفصال أبويه، ويرى في هذا الإجراء نوعا من التباعد النفسي أو الاجتماعي الذي تقتضيه متطلبات العمر في مرحلة الشيخوخة.

أما الجيل الثالث فتمثله هذه الحفيدة التي اختارت أن تكون سينمائية بعدما درست التاريخ والعلوم السياسية في جامعة السوربون، لكنها وجدت نفسها في السينما الوثائقية تحديدا، وقد تسلّحت بكاميرتها منذ زمن ليس بالقصير، وأخذت تصوّر كل ما تراه جذّابا وملفتا للانتباه.

وسوف تلعب هذه الحفيدة دورا مهما في كسر الصمت المخيّم على الجدّ تحديدا، خصوصا بعد سفرها لأول مرة إلى مسقط رأسه في قرية لعوامر، وتصويرها للعديد من المَشاهد التي أنعشت ذاكرته وجعلته يبوح بكل شيء تقريبا، ليخرج من عزلته الفردية ويروي لنا القصة من وجهة نظره الشخصية.

فثمة حروب عديدة أهمها حرب التحرير الجزائرية التي استمرت ثماني سنوات، وهناك إحالات للحرب العالمية الثانية التي دمرت جزءا كبيرا من أوروبا، وهناك إغراءات كثيرة قدمتها أوروبا للعمال الجزائريين والمغاربيين عموما بغية استقدامهم لتعمير ما قوّضته الحرب، لكنها خلقت جاليات منعزلة لا تستطيع العودة إلى الوراء، لتحتفظ بتاريخها وذاكرتها الشخصية، ولا تستطيع التقدم إلى الأمام لتندمج كليا بالمجتمع الفرنسي الذي يفرض اشتراطاته الأخلاقية والاجتماعية والدينية.

فالفيلم يثير أسئلة الهوية والانتماء رغم تذبذب الفكرة التي تترجح بين الطرفين، ولا تريد أن تنتصر لأي منهما على حساب الطرف الآخر.

الجدّة عائشة التي كان لها نصيب الأسد في الظهور والكلام والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية في الفيلم

تحيز الفيلم للمرأة.. رائحة الموروث الشعبي الجزائري

تعتمد المخرجة لينا سويلم في فيلمها الوثائقي على مشاهد فيديو مصورة في أوقات متعددة، تسلّط الضوء على بعض الأنشطة والفعاليات الاجتماعية التي كانت تنظمها الجدة بين حين وآخر، لتكشف لنا جانبا من الموروث الشعبي في الرقص والغناء والأزياء الجزائرية التي تُحيل إلى المكان الأول، وتسعى إلى تأطيره وإحضاره إلى ذاكرة المهاجرين المتؤرجحين بين العودة إلى النبع الأول، أو البقاء في البلد المضيف الذي أمضوا فيه الردح الأكبر من حياتهم.

يتحيّز هذا الفيلم للمرأة قليلا، إذ أخذت الجدة حصة الأسد في الظهور والكلام والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية، بينما انحسر دور الجد مبروك إلى أبعد الحدود، ولولا مشاهدته لصور قريته لما تشجّع على الخروج من قوقعته وبادر إلى الكلام وهو يرد على أسئلة الحفيدة التي نبشت كل تاريخه الشخصي، حتى تحول الفيلم إلى ما يشبه السيرة الذاتية للجد والجدة معا.

وأوشكت المخرجة أن تعرض لنا جيلا رابعا، إذ أظهرت لنا عائشة صورة لأمها الفقيرة المتواضعة التي لم تستطع أن تقدّم لها البنت يد العون والمساعدة، وتركتها تذهب إلى مثواها الأبدي. كما أشار الجد مبروك إلى والديه غير مرة من دون أن يتوقف عند بعض التفاصيل، لكنه ربط بين ظهورهما وبين الحرب العالمية الأولى التي تركت بصماتها القوية على ذلك الزمن الذي قدّمت فيه الشعوب خسائر جمّة لا يمكن تعويضها أبدا.

صورة تجمع المخرجة لينا سويلم بوالدها الفنان الجزائري عز الدين سويلم ، حيث ركزت عليه في الفيلم فأوقعت الفيلم في تناقض

رحلة البحث عن الحقيقة المتناقضة.. أسلوب أفلام الطريق

حظي الوالد عز الدين سويلم باهتمام خاص من المخرجة، فقد ركزّت عليه وسألته عددا من الأسئلة التي أوقعت الفيلم في نوع من التناقض الواضح، فهو يعتقد واثقا بأنّ والديه لم ينفصلا عن بعضهما حتى وإن سكنا في مكانين متباعدين، وقد نصح ابنته بأنّ تسأل الجد عن هذا الانفصال وتتأكد من إجراءاته القانونية، كما حفّزها على البحث عن الأسباب التي دفعت الأم لاتخاذ هذا القرار الذي يراه غريبا بعد كل هذه السنوات الممتدة من الزواج والعشرة والتفاني من أجل هذه العائلة التي تعيش غربة الروح والجسد في آن معا.

تذكِّرنا رحلة الحفيدة بأفلام الطريق التي تُرينا من خلالها بعض المشاهد الجميلة لهذه القرية الجبلية التي يغطيها الثلج، فقد ذهبت خصيصا إلى أقارب جديها وتواصلت معهم، حتى أنها لم تترك أيّا من الأقارب الأحياء، كما جاءت على ذِكر الأموات منهم الذين ضمّتهم مقبرة قرية لعوامر أو بقية مقابر آل سويلم.

الجدّان مبروك وعائشة اللذان رغم انفصالهما بعد 61 عاما من الزواج إلا أن قيمهما الاجتماعية الجزائرية لم تسمح لهما بنأي كل منهما عن الآخر

قرية لعوامر.. مرتع الأحلام العاطفية

يركز الفيلم كما أشرنا سلفا على الأمكنة، فقرية لعوامر بالنسبة للجد هي المكان الأكثر حميمية، ففيها ملاعب الطفولة والصبا، وهي المرتع الأول لأحلامه العاطفية التي تُوجت بالزواج.

أمّا قصة الحب فلم نسمع عنها شيئا من الطرفين، كما أن الجدة كانت تغرق بالضحك كلما وردت هذه الحكاية العاطفية التي أثمرت زواجا ناجحا إلى حد ما، لكن هذا النجاح قد ارتبك واهتزّ حينما حدث الانفصال الذي اختارته الجدة بمحض إرادتها.

وعلى الرغم من انتقال الجدّين إلى مدينة تيير الفرنسية، فإن قريتهما الأولى لم تغب عن الذاكرة، إذ أن هذه المدينة إنما هي مدينة بديلة لا تعوّض عن المكان الأصيل، فالإنسان مهما اغترب لا بد أن يعود إلى وطنه يوما ما، ولا يستبعد الجد عودته إلى وطنه الذي تركه مضطرا.

أمّا تيير فتظل مدينة طارئة على الجد الصامت طوال الوقت، لكنها كانت مدينة حيوية متفاعلة مع الجاليات الأجنبية وخاصة العربية منها، لأن الجدة كانت شغوفة بالتواصل الاجتماعي وإحياء الحفلات في المناسبات المُفرحة التي يجتمع فيها شمل المحبّين.

المخرجة لينا سويلم الفائز فيلمها “جزائرهم” بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان الجونة السينمائي دورة 2020

سينما المؤلف.. بوح سينمائي منساب لكشف المستور

ينتمي فيلم “جزائرهم” لسينما المؤلف، فلينا سويلم هي كاتبة السيناريو والمصورة ومُخرجة الفيلم، وقد ارتأت أن تقدّم فيلمها بهذه الطريقة الاستبطانية للشخصيتين الرئيستين، وقد نجحت في تحفيزهما على البوح وكشف المخبأ والمستور، ولعل نجاحها الأكبر هو تحطيم الصمت الذي ظلّ مهيمنا لعقود ستة، ولولا إصرارها الكبير لظلّت القطيعة قائمة بين الأجيال، ولما وصلت الحكاية إلى الأحفاد والأولاد.

وكانت لينا تتمنى أن يرى جدها هذا الفيلم، لكنّ روحه فارقت جسده قبل أن تضع اللمسات الأخيرة على الفيلم.

وعلى الرغم من أنّ “جزائرهم” هو فيلمها الوثائقي الطويل الأول، فإنه كان ناجحا بكل المقاييس الفنية، فالصورة جميلة وجذّابة، والمونتاج سلس خالٍ من العثرات، كما أن القصة السينمائية منسابة ومتدفقة، الأمر الذي يكشف عن قدرتها على كتابة سيناريو جيد يمكنه أن يشدّ المتلقي ويأخذ بتلابيبه.

ولا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار أن الفيلم عمليا يتكون من صورة وصوت، وما نقصده بالصوت هنا هو الموسيقى التصويرية، أو الأصوات الأخرى المرافقة لأحداث الفيلم، مثل حفيف الريح وخرير المياه وهديل الطيور وما إلى ذلك.

وقد كان التناغم حاضرا طوال الفيلم الذي بلغت مدته 72 دقيقة مرت بسرعة خاطفة دون أن يشعر بها الجمهور الذي شاهد واستمتع بقصة الفيلم رغم انطوائها على كم كبير من الحزن والأسى على نهاية علاقة زوجية امتدت لأكثر من ستين عاما، لكنها توجت بالانفصال من دون أن تأخذ شكل القطيعة النهائية.

“جزائرهم”.. نجاح ينافس في مهرجان الجونة

عُرض الفيلم في صالة “سي سينما 2” (Sea Cinema 2) ليومين متتاليين، وقد أثارت قصة الفيلم العديد من الأسئلة التي أجابت عليها المخرجة لينا سويلم بطلاقة واسترسال، كما أعرب غالبية السائلين عن إعجابهم بهذا الفيلم الوثائقي الذي لامس أعماقهم وحرّك مشاعرهم الداخلية المرهفة بقصة حقيقية لا تنقصها المهارة وبراعة التجسيد.

من الجدير بالذكر أن فيلم “جزائرهم” يتنافس على جوائز مهرجان الجونة مع تسعة أفلام وثائقية أخرى، من بينها فيلم “33 كلمة عن التصميم” من إخراج “ناتاليا كليموشوك” و”أولغا موروزوفا”، وفيلم “بانكسي أكثر المطلوبين” من إخراج “أوريليا روفييه” و”شيموس هالي”، وفيلم “صائدو الكمأة” من إخراج “مايكل دوّيك” و”غريغوري كيرشاو”، وفيلم “نَفَس” للمخرجة اللبنانية ريمي عيتاني، إلى غير ذلك من الأفلام الناجحة فنيا وفكريا.


إعلان