“تشارم سيتي كينغز”.. الصبي الفقير الذي أفلت من قبضة الجريمة

يفرض العيش في المدن والتجمعات السكنية للأمريكيين السود وسط شروط شديدة الصعوبة، تحديات حقيقية على الأجيال الصغيرة المقيمة فيها، ويصبح التخلص من عالم الجريمة والفقر والتخطيط لمستقبل جيد هو الأصعب من بين تلك التحديات.

ذلك ما تحاول نقله لنا قصة الصبي “ماوس” في فيلم “تشارم سيتي كينغز” (Charm City Kings) الذي وجد نفسه بعد موت أخيه “سترو” في مواجهة مسلحة مع رجال الشرطة، منغمسا في عالم متناقض يتجاذبه مصيران، فإما المضي في نفس الطريق الذي سار فيه الأخ الأكبر، وإما الانتباه لدراسته وحبه للبيطرة ومعالجة الحيوانات الأليفة.

يتمثل المسار الأول في سباقات الدراجات النارية الذي يقام أيام الأحد في شوارع مدينة “تشارم سيتي”، وتمثل المشاركة فيه للشباب نوعا من إثبات الوجود والتباهي أمام الحاضرين بالقدرة على ترويض الدراجات والتحكم بها رغم المخاطر المصاحبة لها.

وأما المسار الحياتي الثاني فيتداخل مع الأول ويظهر في ثنايا الأحداث الدرامية التي استلهمها كاتب السيناريو “شيرمان باين” من الوثائقي الأمريكي “أولاد الساعة 12” (2013) وأبدع مخرجه “لطفي ناثان” في نقل أجواء سباقات الدراجات النارية في مدينة “بالتيمور” المكتظة بالمواطنين السود، ارتباطا بالظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشونها.

بوستر الفيلم وبطله الممثل “جاهي دايلو وينستن” في دور الصبي “ماوس”

سلم الفيلم.. نص متعدد الشخصيات والمستويات

يُحيل المخرج “آنجل مانويل سوتو” النص المكتوب على الورق إلى نص بصري درامي متعدد الشخصيات مشبع بالأحداث، فلا يأخذ مسارا سرديا تقليديا كما هو متوقع من فكرة الذهاب لتصوير ساحات تسابق الدراجات في غرب بالتيمور، مع أنه حرص على التصوير فيها، إلا أنه ظل منتبها إلى ملاحقة التحولات الجارية في مسار حياة الصبي “ماوس” (الممثل جاهي دايلو وينستن)، وترك للمشاهد إمكانية تصور طبيعة الظروف المحيطة بأكثرية الأطفال السود في مثل سِنه.

في البيت يعيش الصبي مع أمه العاملة المجدة في عملها وأخته الصغيرة، وأما خارجه فيمضي وقته مع صديقين في مثل عمره. ولمنح المتفرج جانبا من التأثير النفسي الذي تركه غياب أخيه الأكبر، يفتتح الفيلم بمقاطع مسجلة لمَشاهد يظهر فيها الأخ “سترو” وهو يقوم بحركات بهلوانية بدراجته الهوائية ويتحدث بصوت عالٍ عن إحساسه بالحرية، ومعنى قيادة دراجة بسرعة كبيرة ورفع عجلتها الأمامية في نفس الوقت نحو الأعلى، لتتعامد مع السماء وتتوسطها، كما يتوسط رقم “12” الساعة.

في نفس التسجيلات يظهر “ماوس” صغيرا وهو يركب مع أخيه الدراجة ويتمنى من كل قلبه أن يصبح يوما مثله ويقود دراجته النارية بنفس مهارته، وهذا الهوس بالسباقات يقلق والدته ومعها محقق الشرطة “ريفر” (الممثل ويليام كاتليت) الذي كان يجد فيه صبيا طيبا ينتظره مستقبل جيد إذا ما ابتعد عن عوالم الجريمة التي ترافق السباقات وتتخفى تحتها.

الممثل “ميك ميل” في دور الزعيم “بلاكس” الذي ستكون النهاية السعيدة على يديه

عودة “بلاكس” الغامض من السجن.. توبة مؤقتة

رغم كل تحذيرات والدته يصر الصبي على اقتناء عجلة نارية رباعية السحب، ويذهب إلى ساحات السباق للمشاهدة وكسب الخبرة، وهناك سيظهر “بلاكس” (الممثل ميك ميل)، بعد خروجه من السجن، وهو صاحب شخصية جذابة يغني الراب، وقائد دراجة ماهر، ويخشاه بقية مجرمي الحي، لكنه يظهر بعد خروجه من السجن تائبا ينشد المغفرة والتخلص من الماضي والشروع ببناء حياة جديدة.

أحياء السود الفقيرة.. بؤرة خصبة لزراعة الجريمة

دائما ما يسهل انحراف الشباب في المناطق الفقيرة المعزولة التي تعاني من إهمال متعمد، ذلك ما يسعى الفيلم الروائي المهم لتجسيده عبر قصص متداخلة مع المسار الرئيسي لقصة الصبي “ماوس”.

فأبسط لعبة أو ممارسة يمكنها أن تأخذ مسارا مغايرا لغايتها البريئة، وهذا ما يصوره الفيلم بدقة، فسباق الدراجات يبطن ويخفي تحته عالما إجراميا، ويأخذ ظاهرا شكل مواجهة مع رجال الشرطة وتحديا لهم بتنظيمه خارج إطار القانون، لكن اللعبة سرعان ما يحولها رجال العصابات وتجار المخدرات إلى مصيدة للمراهقين من أبناء المنطقة.

سباق الدراجات مصيدة للمراهقين نحو ترويج وتعاطي المخدرات

ورشة الدراجات.. ثقب أسود يختطف الصبي بعيدا عن الحب والعمل

تربط “بلاكس” بالصبي علاقة لها امتداد نفسي بعلاقته السابقة بأخيه، وقد أقنعه السجين السابق بالعمل عنده في ورشته لتصليح الدراجات، مقابل تعليمه مهنة تفيده مستقبلا.

في هذا الوقت يرتبط “ماوس” بعلاقة عاطفية بريئة بالصبية “فيكي” (الممثلة تشاندلر دوبونت)، وينجذب إلى شخصيتها القوية ونقاوة سريرتها وقد عقّد وجودها في حياته خياراته، فبينما كان يميل للعمل في الورشة كان تدريجيا يبتعد عنها وعن عمله الإضافي كمساعد بيطري في العيادة التي تعلم منها الكثير، والتي شجعه فيها البيطريون على العمل والدراسة بعد اكتشافهم لموهبته وميله القوي لامتهان العمل البيطري مستقبلا.

الأم مستغربة من مبلغ المال الذي جناه ولدها، فهي لا تعرف أنه متورط في بيع المخدرات

مساعدة العائلة.. خطوة أولى في عالم المخدرات

تدريجيا يتورط الصبي في عمليات ترويج المخدرات، والدافع الرئيس وراءها امتناع صاحب الورشة من دفع راتب له مقابل عمل، ظنا منه أنه يستطيع مساعدة عائلته التي تجد نفسها في ضائقة مالية مستمرة لا يمكن براتب والدته القليل حلها.

كان الصبي مندفعا بطيبة لتخفيف ثقل الضائقة، وها هو يقبل الاشتراك في عمليات توزيع المخدرات، ووسيلة توصيلها هي الدراجات النارية التي بدلا من أن تكون وسيلة لهو ومتعة للشباب، حولها تجار المخدرات إلى أداة لتسهيل بيع مخدراتهم.

مصيدة المراهقين.. صورة نمطية في أفلام الزنوج

يبقى حاضرا على الخط محقق الشرطة الذي يحوله المسار الدرامي المتصاعد كخصم عنيد لـ”بلاكس” ومن ورائه عصابات المخدرات التي تمتعت بقدرة على التقاط مؤشرات العنف عند الأطفال والعمل على تعزيزها واستغلالها لصالحهم.

ذلك ما سيؤول إليه مسار حياة أحد أصدقائه، ومعه سيتورط بفعل سيُغيّر كل التوقعات ويُحيل الفيلم إلى منجز رائع، متخلصا من صورة نمطية كثيرا ما وقعت فيها أفلام تناولت حياة الزنوج في أمريكا وصورت نهاياتهم التراجيدية وكأنها مسار حتمي لحياتهم، نهايات ظل كثير منها أسير الأنماط الجاهزة، حتى حينما حاولت إيجاد الصلة بين الفرد والظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة المحيط به.

قبيل السطو على المتجر الذي كان نهاية الرحلة التراجيدية بالنسبة للبطل

رصاصة في المتجر.. منعطف حاد في مسار القصة

يتجلى التوصيف المختلف عبر الكشف الرائع عن غموض العلاقة بين “بلاكس” والأخ الأكبر، وذلك بعد تورط “ماوس” في عملية اقتحام متجر لبيع مواد غذائية مع صديقيه، مما اضطر صاحبه لإطلاق النار على أحدهم وإردائه قتيلا.

وفاة هذا الصديق ستقلب الموازين وتعطي زخما دراميا يحيل إلى إعادة “دائرة شر” دخل إليها الصبي وعلى محقق الشرطة مساعدته في التخلص منها.

يمهد الفيلم لإحداث التغيير من خلال مواجهة بين محقق الشرطة و”بلاكس”، وقد أخذت شكل مناجاة لدواخل الأخير ودعوته لتجنيب توريط صبي بريء ذات المصير المؤلم الذي واجهه أخوه. فقد كان في داخله شعور قوي بالندم وإقرار بتضييعه حياة شاب عُرف عنه حسن أخلاقه وطيبته، وهي نفس الخصال التي جُبل عليها أخوه الصغير “ماوس”.

الزعيم “بلاكس” يعترف للشرطة بأنه هو من سطا على المتجر لينقذ “ماوس” وفاء لصديقه الأخ الأكبر لـ”ماوس”

كذبة بيضاء تقلب الموازين.. مفاجأة الفيلم

تأتي مفاجأة الفيلم من “بلاكس” نفسه، فبدلا من تركه يواجه تهمة المشاركة في جريمة سطو، تحمل بنفسه المسؤولية وأعلن للشرطة أنه كان مع اللصوص عند اقتحامهم المتجر، بينما كان “ماوس” يعمل داخل الورشة.

هذه الكذبة غير المتوقعة تنبئ بصحوة ضمير كامنة في داخله استمع إلى ندائها ومضى في التضحية بنفسه بدلا من تحطيم حياة ثانية يمكنها أن تعوض حياة ساهم هو في وأدها.

انتصار النقاء على التلوث.. انسلاخ من عباءة الصورة النمطية

بعد انجلاء الضبابية وتخلص الصبي من ورطته أخذت القصة مسارا متفائلا، فقد عاد “ماوس” لإكمال دراسة البيطرة، وأعاد علاقته بصديقته وعائلته.

لم يقدم الفيلم شخصيات نمطية بقدر ما أتاح لكل واحدة منها فرصة التعبير عن دواخلها وعرض المتغيرات التي لامست جوهرها. كما أتاح للمُشاهِد فرصة مراقبة تطورها وفق الظروف التي أحاطت بها، وبدلا من إبقائه سوداويا منحه بارقة أمل تولد إحساسا بغلبة النقاء على الملوث، من دون تقديم مرافعة أخلاقية تتهرب من الواقع وتذهب إلى المرتجى المؤجل.

هذا الاشتغال السينمائي الرائع على الشخصيات الرئيسية وعلى الجوانب الفنية، جعلت من “تشارم سيتي كينغز” واحدا من الأفلام الهوليودية المتميزة بعمق قراءتها لواقع السود في أمريكا، والنظر إلى الفرد ودواخله بنفس الدقة التي يُنظر بها للواقع المرير الذي تعيشه.


إعلان