“حين التقت الطماطم مع موسيقى فاغنر”.. زراعة عضوية برعاية الموسيقى الكلاسيكية

قبل حوالي 500 سنة انطلق المستكشف “كريستوفر كولومبوس” من إسبانيا على رأس ثلاث سفن لاكتشاف العالم الجديد، وبعد أسابيع من الإبحار اكتشف قارة أمريكا، وعند عودته حمل على سفنه أنواعا كثيرة من البذور والمواد، من بينها الطماطم التي أصبحت فيما بعد من أساسيات المائدة. لكن اليوم تغيّرت بذورها في أمريكا بعد تهجينها وتعديلها، وأصبحت مُشبعة بالكيمياويات والتغيرات الوراثية، لهذا أصبحوا يستوردونها من إحدى القرى اليونانية التي تنتجها بنفس الصيغة التي كانت تُزرع بها قبل 500 سنة (أي بطريقة عضوية)، وأكثر من هذا فإنها تزرع على وقع موسيقى فاغنر.
يرتكز الفيلم الوثائقي اليوناني الفرنسي “حين التقت الطماطم مع موسيقى فاغنر” (When Tomatoes Met Wagner) -الذي أنتج عام 2019 وقامت بإخراجه “ماريانا إيكونومو”- على الطموح الذي لا ينتهي للإنسان، وهذا من خلال ما قام به بضعة أفراد من قرية يونانية معزولة هجرها معظم من كان فيها، ولم يبقَ سوى بعض كبار السن الذين لا يتجاوز عددهم الـ23 فردا، باستثناء واحد منهم فقط هو صاحب فكرة غرس الطماطم العضوية التي تنمو على وقع صوت الموسيقى الشهيرة للموسيقار “ريتشارد فاغنر”.
لزيادة الإنتاج وتحسين نوعيته وأثناء الحصاد؛ يقومون باستبدال موسيقى “فاغنر بالموسيقى الشعبية اليونانية التي يرون بأنها مرتبطة بالأرض اليونانية التي قدّمت الكثير للإنسانية جمعاء، إضافة إلى صبغها ببعض المحلية عكسا للهوية والانتماء والتميز الذي تجسد في هذه الفكرة، وبعدها يقومون بغسل تلك الطماطم وتعقيمها وهرسها وتعليبها ثم تصديرها إلى الكثير من دول العالم. ويشارك كل أفراد القرية في هذا العمل الذي يؤمنون به ويعتبرونه مميزا جدا.
قرية إلياس اليونانية.. أبناء العم يتحدّون الزراعة الصناعية
عرض الفيلم عن بعد ضمن برنامج “قافلة بين سينمائيات” التي امتد نشاطها في الفترة ما بين الثالث وحتى 13 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وحسب ما جاء في ملخص الفيلم، فإنه يسلط الضوء على قرية إلياس الزراعية الصغيرة التي تقع في اليونان، حيث يقوم اثنان من أبناء العم بالتعاون مع عجائز القرية من أجل زراعة الطماطم على وقع مكبرات الصوت التي تصدر منها موسيقى “فاغنر”، بعدها يقوم هؤلاء بتصدير علبهم الصغيرة مع وصفات الطماطم العضوية إلى جميع أنحاء العالم.
يقوم هذا الفيلم بمتابعة أبطال هذه القصة غير المتوقعة أثناء كفاحهم من أجل تحقيق حلمهم، هذه القصة السريالية المضحكة والمُرّة تخبرنا عن أهمية إعادة اكتشاف الذات في أوقات الأزمات وقوة العلاقات الإنسانية.
إنها قصة حلوة ومُرة عن إثنين من أبناء العم اليونانيين البارعين اللذين يتحدون الزراعة الصناعية، وذلك بزراعة الطماطم العضوية التي تنمو على وقع الموسيقى.

بعد عن الضجيج وقرب من العزلة.. تغلغل في حياة القرية
اقتنص الفيلم المذكور وثائقيته وأصّل لجنسه الفني من خلال المعايشة والمرافقة الزمنية للمخرجة “ماريانا إيكونومو” لفكرة عملها القائم على فهم طريقة تفكير أفراد القرية، وشعورهم اتجاه ما يصنعونه ويقدمونه للمستهلك الذي يبحث عن مواد عضوية.
هذا الفهم لا يأتي إلا من خلال تفكيك طرق العيش لهؤلاء والتقرب منهم لدرجة كبيرة، من أجل كسب ودهم وثقتهم، وذلك حتى يتسنى لها الوقوف على أحلامهم وطريقة تفكيرهم ومعرفة بعض الذكريات التي يستندون عليها، ويبنون من خلالها واقعهم وحاضرهم، خاصة وأنهم يعيشون نوعا من العزلة، إذ أن الأغلبية منهم لم يروا مدينة في حياتهم، ولم يروا عمارة من خمس طوابق، ولم يركبوا طائرة، ولا يعرفون شيئا عن حياة التمدن، لهذا كانت أحلامهم طفولية وبريئة ومتشابهة.
وقد اقتربت المخرجة “ماريانا” من كل فرد منهم، وفهمت جيدا هذه المعطيات التي تحرّك هذا المجتمع الصغير الذي يطل على العالم من ثقب عُلب الطماطم العضوية التي يصنعونها ويصدرونها، ممزوجة بموسيقى “فاغنر” وبأحلامهم وخيالهم الذي يسافر معها.

سفر افتراضي في عُلب الطماطم.. مواجهة الشركات العملاقة
أصبح العمل على هذا المشروع أكثر من مجرد فكرة تصدير منتج إلى الخارج، بل هو وسيلة سفر افتراضية استنادا على الخيال ومؤشرات الخريطة التي يضعها صاحب المشروع على الطاولة، حتى يؤشر على البلدان التي وصلها المنتج.
بمعنى أن المخرجة اتخذت فكرة نمو الطماطم على وقع الموسيقى كطريق لفهم عقليات هذا المجتمع الصغير وكيفية نظره للحياة والحضارة بشكل عام، خاصة وأن هناك صراعا خفيا بين القديم والجديد، بين هؤلاء الذين اختاروا التثبت ببيوتهم والمنطقة التي ولدوا وتربوا فيها، وبين أبنائهم الذين هجروهم وتركوهم لمصيرهم، حتى أن المدرسة الوحيدة في تلك القرية لم تفتح أبوابها منذ 30 سنة كاملة، فليس هناك أي أطفال لكي يدرسوا فيها.
لكن هذا الصراع لم يثن صاحب مشروع الطماطم العضوية “ألكسندروس جوسياريس” ولم يدفعه إلى ترك القرية، بل بقي فيها وخلق مشروعا يجمع هؤلاء السكان ويعكس ما يطمح له، لأنه يملك أفكارا حقيقية، ومن جملة ما يقول تعبيرا عن أفكاره إن أمنية الفلاح ليس جمع المال، بل هي أن لا يحتاج فقط، وهذا في عملية تفسير ماهية الفلاح الذي يواجه الشركات العملاقة التي لا يهمها سوى الربح ولا تتعامل سوى مع الأرقام والمؤشرات والمردود والربح، لهذا قرر أن يبقى في هذه القرية ويخدم أرضه وتراثه وحضارته بطريقته التي يرى بأنها مبتكرة وتخدم أمانيه بشكل ما.

إلى بلجيكا.. رحلة جوية لاكتشاف العالم من جديد
استكمالا للمقارنة المحورية بين الماضي والحاضر، وبين القديم والجديد، وبين الهجين والعضوي، وبين العزلة والضجيج؛ نظمت رحلة لبعض سكان القرية إلى بلجيكا جوّا، وبالتالي تحققت أمانيهم لاكتشاف العالم من جديد، حيث وقفوا بأنفسهم على منتجهم العضوي على رفوف محلات البقالة في بلجيكا.
وأكثر من هذا فقد نظّموا جلسة تذوق لمعرفة ردود فعل الزبائن، ليعودوا إلى قريتهم وفي جعبتهم الكثير من الأفكار الجديدة التي يسعون لتحقيقها من أجل تحقيق ربح يضمن لهم البقاء والاستمرار، ومن بينها تجريب ذوق طماطم جديد رغم أنه مكلف، وهذا فقط من أجل مسايرة السوق الذي يبحث دائما عن ما هو مبتكر، بحكم أن المنتج القديم لا يحقق لهم الربح الكافي، فقط هامش يضمن لهم البقاء.
من هنا تتبين جديّة أهل هذه القرية ومدى وفائهم لأفكارهم ورؤاهم التي أبقتهم في تلك المنطقة قرب الأرض التي أحبوها، ومزجوا بذورها بموسيقى “فاغنر” التي تنبعث من مكبرات الصوت في الحقول، كما أظهر الفيلم مدى اهتمام العالم بما يقومون به، وهذا عندما قام فوج من الأطفال الفرنسيين بزيارتهم، حيث أظهر سكان القرية كرمهم، وقاموا بفتح المدرسة التي أغلقت منذ 30 سنة، فنظفوها وهذبوا حديقتها وحفظوا بعض الكلمات الفرنسية، وقاموا باستقبالهم وشرحوا لهم العمل الذي يقومون به، كما كانت الفرصة مواتية لهم للاستئناس بأصوات الأطفال المغيّب عندهم.

خلطة الأنثروبولوجيا والسينما.. خلطة الإخراج السحرية الناجحة
يمتلك فيلم “حين التقت الطماطم مع موسيقى فاغنر” حسّا إنسانيا عاليا، ونظرة استشرافية لما يمكن أن يكون عليه العالم مستقبلا، وكأن المخرجة “ماريانا إيكونومو” تُحذّر بهذا العمل البشر من المواد الهجينة التي قضت على ما هو طبيعي، في عالم أصبح فيه المستهلك ضحية للشركات التي لا تنظر له سوى ككومة من المال والربح، وتناست كليا الأصل ومسببات الحياة.
ومشروع “ألكسندروس جوسياريس” العضوي ما هو إلا صرخة مدوية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو كإشارة قوية للعودة إلى أمنّا الأرض بدون مواد تسبب الأمراض وتذهب الطعم والذوق، وقد دأبت المخرجة على إخراج وإنتاج أعمال على هذه الشاكلة تخدم في مجملها هذا الهدف، أي أنها مخرجة تملك الأدوات المناسبة لمعالجة أي موضوع سينمائيا، بحكم أنها درست الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، وقد سهّل عليها هذا العلم فهم البشر بطريقة علمية، كما درست التصوير الصحفي وإنتاج الأفلام في لندن، حتى تتمكن من الدخول إلى عالم السينما من أوسع أبوابه.
ومنذ عام 2000 وهي تقوم بإخراج وإنتاج مسلسلات وأفلام وثائقية ومستقلة مع القنوات التلفزيونية مثل “بي بي سي” و”آيه آر تي” و”يلي”. وحصلت على جوائز عن أفلامها “المدرسة” و”مكاني في الرقص” و”استمع لي من فضلك” و”أجراس”و”خيوط ومعجزات” و”اثنا عشر جارا” و”طعام للحب” و”أطول سباق” الذي جرى ترشيحه لجوائز السينما الأوروبية لعام 2016. كما شارك فيلمها الأخير “حين التقت الطماطم مع موسيقى فاغنر” في عدة مهرجانات مهمة وتُوّج في الكثير منها.