العربية لغة القرآن.. معجزة العرب وفردوس البيان

“وما أجدر هذا اللسان وهو حبيب النفس وعشيق الطبع، وسمير ضمير الجمع، وقد وقف على ثنية الوداع، وهم قِبْليُّ مزنه بالإقلاع، بأن يعتنق ضما كالأحبة لدى التوديع، ويكرم بنقل الخطوات على أثره حالة التشييع”.
بتلك الأيقونة الأدبية الرائعة خط العالم اللغوي مجد الدين الفيروز آبادي معالم العلاقة بين لغة القرآن وأهلها، ودق في أيامه ناقوس الخطر، وهو يدعو إلى نجدة الشفيق ووثبة المحامي للدفاع عن سر الهوية العربية وأبرز أركانها.
لسان العرب.. أم لغة الإعراب؟
إلى من تنسب لغة الضاد، هل إلى قومية العرب كما يرى كثير من المؤرخين واللسانيين الذين يرون فيها لسان العرب، وعلى تلك التسمية كتب ابن منظور معجمه اللغوي الذي استطاع جمع عشرات الآلاف من ألفاظ العربية، أم إلى الإعراب وهو الإبانة والفصاحة والوضوح والصفاء، كما يذهب إلى ذلك بعض اللسانيين المعاصرين الذين يرون في قوله تعالى }وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ وَهَٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ{ (سورة الأحقاف،الآية 12)، أي منطقا ولغة بينة واضحة مفصلة.
وبغض النظر عن تلك الاعتبارات التاريخية لأصل اللغة العربية، فلا شك أنها من أسرع لغات العالم انتشارا، وأكثرها قدرة على البقاء، وأكثرها قدرة على التطوير والرسوخ.
ومن بين لغات العالم تتميز العربية الفصحى بأنها لسان آخر الكتب السماوية، وأكثرها قداسة عند الناطقين بها، وأكثرها ثراء معجم، حيث تتجاوز كلماتها المحفوظة 12 مليون كلمة على أقل تقدير.
ورغم أنها من أحدث لغات العالم نشأة، إذ ينيف عمرها على ألفي سنة ببضع مئات، فإنها باتت لسان أكثر من أربعمائة مليون من سكان العالم، وأكثر المتحدثين بها هم سكان ما يعرف بالعالم العربي وجيرانهم من الأتراك والإيرانيين والأفارقة.
واللغة العربية تقع ضمن مجموعة اللغات السامية، وتتشابه إلى حد كبير مع لغات أخرى مثل الفارسية والعبرية والآذرية وغيرها، وقد دخلت مفردات كثيرة من اللغة العربية، وخصوصا ما يتعلق بالحقول اللغوية الدينية إلى لغات ولهجات شعوب عديدة من الشرق الآسيوي والغرب الأفريقي والأندلس وتركيا بسبب تأثير اللغة العربية، ودخول ألفاظ القرآن الكريم في قواميس الإبداع ويوميات حياة الشعوب المسلمة التي لا تتحدث لغة الضاد بالإصالة.
واللغة العربية هي اللغة الرسمية في كل دول العالم العربي، وهي لغة شعبية أيضا ذات صبغة رسمية أو شبه رسمية في دول عديدة وخصوصا في غرب وشرق أفريقيا وفي آسيا.
وحروف اللغة العربية 28 حرفا من بينها الضاد الذي يعتبر الأيقونة المائزة للغة العربية في مستواها الصوتي عن بقية لغات العالم، وعكس أغلب لغات العالم، تكتب من اليمين إلى الشمال وليس العكس.
من الألسنة إلى استقرار اللسان القرآني
بدأت اللغة العربية ألسنة متقاربة في كثير من الألفاظ والمعاني متباينة في خصوصيات لهجية متعددة، ومتأثرة بالجوار غير العربي في اليمن والشام وبلاد الرافدين، ففي اليمن تأثرت اللغة القحطانية بالسبئية القديمة والحبشية، وتأثرت مناطق الحيرة وبلاد الرافدين بالفارسية، وكان للروم تأثير في اللسان العربي في فضائه الشامي، حتى نقل عن أبي عمرو بن العلاء قوله “ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا”.
وكانت مناطق الجزيرة العربية منطقة صفاء اللغة العربية، وكان اللسان القرشي، والذي نزل به القرآن في كثير من ألفاظه وسياقاته اللغوية صفوة اللغة العربية التي استقرت عليها نواميس الضاد وقواميس الفصحى.
وإذا كانت اللغة كائنا حيا ينمو ويتغير بالمجاورة والمثاقفة والعزلة الجغرافية على حد سواء كما يرى كثير من اللسانيين، فإن اللغة العربية كانت أبرز اللغات التي حافظت على خصائصها وعلى أكبر حجم من ألفاظها.
ولقد تحولت غالب تلك الألسن واللهجات العربية القديمة إلى أصول للهجات العربية المعاصرة وظهرت في بعض نواحيها وخصوصا في مناطق الجوار مع لغات أخرى في الشام والخليج العربي والعراق واليمن.
اللغة العربية.. وعاء القرآن وأم العلوم
ازدهرت اللغة العربية لسانا في الجزيرة العربية، وأبدع العربي البدوي في التعبير بها عن رؤيته للأشياء والحياة والمشاعر، فكانت رفيق العربي في طراد أسراب الظباء النافرة، وفي قراع السيوف وتراشق النبال، وهي قاموسه الفواح الذي يفيض عليه بأرق الألفاظ وأعذب المعاني وهو يكابد سورة العشق، أو قسوة الغربة أو مرارة الأسر، وهي لسانه الفخم وهو يصوغ حكمه المستقاة من حياته المتموجة كرمال الصحراء، والمنسابة كشعاع كواكبها على المسارب والغُدْران.
غير أن اللغة العربية قد ارتقت كثيرا وتسنمت معاريج الجلال والجمال بعد أن اختارها الله تعالى لسانا لكتابه العزيز، القرآن الكريم، لقد منح هذا الكتاب العظيم المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم أسمى آيات الرقي والتطور للغة العربية، وفرش لها مهاد القلوب، فانسابت إليها يتلو بها المسلمون آيات الكتاب المقدس، ويرتقون بها في مدارج العبادة، ومسالك الإصلاح.
ولقد جعل الفقهاء المسلمون في إتقان علوم ومعارف اللغة العربية، والمهارة بها شرطا أساسيا للفقيه، ودرجة لا يمكن أن ينال دونها رتبة الاجتهاد المذهبي أو المطلق.
وكان حفظ حدود اللغة العربية، وتسوير قوانينها اللسانية والنحوية والصرفية جزءا أساسيا من مهمة الخلفاء الراشدين، حيث يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله مر على شباب يتعلمون الرماية، فلم يعجبه رشقهم السهام، فاعتذروا له وقالوا نحن قوم “متعلمين” فقال لهم “لخطأكم في لسانكم أشد عليّ من خطئكم في رميكم”.
وقد نبه علي بن أبي طالب رضي الله عنه اللغوي الكبير أبا الأسود الدؤلي إلى الخطر الذي يتهدد اللغة العربية، إذا لم تضبط حدودها، وتصان معالمها، ومن وصية علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الأسود نشأ علم النحو، وتوالت علوم اللغة العربية لتحقق مع الزمن ما وصفه المفكر المغربي محمد عابد الجابري بأنه معجزة العرب، ويقصد بذلك علوم اللغة العربية.
وإذا كانت اللغة العربية وعاء القرآن فقد كان لها السور الحامي والظل الوارف والسلسل الرقراق، بل هي والقرآن كما وصفه أديب البيان العربي المعاصر محمد صادق الرافعي بقوله “إن العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا مَن لا حفل له به مِن زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق، ثمّ إنّ فصاحةَ القرآن يجب أن تبقى مفهومةً، ولا يدنُو الفهمُ منها إلاّ بالمِرَان والمداولة، ودَرسِ الأساليبِ الفُصحى، والاحتذاءِ بها، وإحكامِ اللّغة، والبصرِ في حقائقها وفنون بلاغتها، والحرصِ على سلامة الذّوق بها، وكلّ هذا يجعل الترخُّصَ في هذه اللغة وأساليبِها ضرباً من الفساد والجهل .. والحال الخاصة في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ولكن في تركيب ألفاظها”
انتشار بين آيات القرآن وصهوات الجياد
كان للفتوحات الإسلامية دور كبير ومهم في نشر اللغة العربية، فآلاف الفاتحين العرب الذين توزعوا في أنحاء متفرقة من آسيا وأفريقيا نشروا اللغة العربية، ومع الزمن تعربت أمم وشعوب متعددة.
ولم يكن الإسلام ولا لغته العربية عدوّا للغات والقيم والتراث القديم للمجتمعات، فقد حافظت كثير من الأمم والشعوب على لغاتها ولهجاته الأصلية، إلى جانب اللغة العربية التي كانت عند كثير من الشعوب المسلمة، لغة النخبة والتميز، بل إن هذه اللغات أسلمت يوم أسلم أهلها، فنقلت إليهم معارف إسلامية متعددة، وتوطّنتها ألفاظ ومعان وقيم كثيرة من اللغة العربية، زيادة على كتابتها بالحرف العربي مما ضمن لكثير من وثائقها الخلود والبقاء.
بل إن الأوروبيين وجدوا أنفسهم في بعض الفترات مرغمين على العودة إلى اللغة العربية لترجمة صلواتهم حتى يفهمها المسيحيون، وأصبح الحديث باللغة العربية في الممالك الصليبية نموذجا للتقدم الإنساني والحضاري، على نحو ما يحدثنا عنه مؤلف كتاب تاريخ اللغات السامية إ”رنست رينان”: “من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعُب حل سره: انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسلة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة؛ بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة محكمة ولم يمضِ على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى. ومن أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم أُعلنت ظهرت لنا في حلل الكمال، ولا تكاد تعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شيئا عن هذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدريج وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة”.
وفي بلدن إسلامية متعددة كالسنغال مثلا فإن الفقيه الذي لا يورد كلمات وصيغا عربية وأبياتا شعرية وهو يتحدث بلغته الأصلية لا يعد فقيها، وفي الغالب لن يجد من يستمع إليه، فقد كان مقياس التميز الثقافي عند المجتمعات الأفريقية المسلمة مثلا، هو حفظ القرآن ومعارف الشريعة الإسلامية ثم البراعة قدر الإمكان في اللغة العربية.
ويمكن اعتبار ظاهرة الاستعراب التي عاشتها بلدان عربية وآسيوية متعددة، وتزايدت في أوروبا جزءا أساسيا من احتضان المجتمعات الإسلامية غير العربية للغة القرآن.
وتعيش اليوم هذه البلدان نضالا قويا من أجل ترسيم اللغة العربية وتثمينها، رغم ما تواجهه من سطوة قوية للغتين الإنجليزية والفرنسية، ورغم ما واجه هذه اللغة من عدوان استعماري شرس هدف للقضاء عليها بشكل نهائي، عبر قتل علمائها كما حصل في مجزرة كبكب التي نفذها الاستعمار الفرنسي بحق قرابة 400 من علماء الشريعة واللغة العربية في دولة تشاد، أو بحرق مئات المكتبات والمدارس الأهلية في مناطق الزنوج في موريتانيا ومالي والسنغال ودول أفريقية عديدة خلال الحقبة الاستعمارية.
وإلى جانب ذلك، عمد المحتل وخصوصا الفرنسي الحاقد الذي كان البعد الثقافي ركنا أساسيا في مهمته الاستعمارية، إلى إحياء الصدام بين اللغة العربية واللغات المحلية القديمة، كما هو الحال في بعض الدول المغاربية والأفريقية التي كانت بعض لغاتها المحلية يكتب بالحرف العربي، قبل أن تتحول إلى الحرف اللاتيني الذي لم يمنحها تميزا ولم يجعله لغة التعليم ولا الإدارة في بلدانها.
علوم اللغة العربية.. شبكة النظام والإبداع
تتكامل في اللغة العربية علوم متعددة، تتداخل مستوياتها وتتعاضد من علوم اللغة إلى فقه اللغة، ويشيع عند دارسي اللغة العربية مجالات متعددة لا بد من إتقانها لكي يكون الإنسان لغويا متقنا، ومنها:
المستوى المعجمي: الذي يعني بأصالة الكلمات العربية، وقد اعتنى بها العلماء العرب والمسلمون فألفوا فيه كثيرا من الكتب الضخمة والقواميس الخالدة، ومنها على سبيل المثال معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، ولسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، والمخصص لابن سيده، وغيرها من الكتب الأثيرة التي لا تزال أهم حافظ بعد القرآن الكريم والحديث الشريف للغة العربية.
النحو والصرف: وقد تأسس هذا العلم مع منتصف القرن الهجري الأول، قبل أن يتعزز ويتوسع إلى مدارس نحوية أبرزها المدرسة البصرية التي سيطرت بعد ذلك على توجيه النحو وتسديده، والمدرسة الكوفية، وبينهما المدرسة البغدادية.
ومن أبرز علماء النحو العرب القدماء أبو عمرو بن العلاء، وسيبويه، والفراء والكسائي، والمبرد، وابن درستويه، وابن هشام، ومحمد بن مالك الذي كان أبرز النحاة في العصور اللاحقة، وأصبحت كتبه أهم مادة أكاديمية لدراسة النحو وخصوصا كتابه ألفية ابن مالك التي لا يزال الآلاف من الشباب المسلم في أنحاء المعمورة يتبارى في حفظها، وقد أولى أهل المغرب العربي بشكل خاص ألفية ابن مالك اهتماما خاصا حفظا وشرحا وتطويرا، وزيادة كما فعل العالم الموريتاني المختار بن بونه الجكني الذي زاد هذه الألفية بثلاثة آلاف بيت أخرى سماها “الاحمرار” لأنها كانت تكتب في الأوراق والألواح بالمداد الأحمر تمييزا لها عن ألفية ابن مالك التي كانت تكتب بخط أسود يسمى عند الموريتانيين “الاكحلال”.
علوم البلاغة وفقه اللغة: اهتم العرب بهذا المجال من علم اللغة، وأبدعوا فيه وأقاموا دوحة لغوية ذات ظلال وارفة من علوم البيان والمعاني والبديع، الذي كان ينظر إلى اللغة العربية في مستويات بنائها المتكامل عكس النحو الذي كان ينظر في علاقة الألفاظ فيما بينها وتأثير بعضها في بعض.
وقد كان المحتوى الجمالي أبرز عامل في علم البلاغة، لأنها يظهر أسرار اللغة الكامنة خلف المباني والمعاني المتداخلة، ويثري أساليب التعبير، وينمي الملكة العقلية والجمالية والتحليلية والتخيلية في القول الأدبي وخصوصا في الشعر بشكل خاص.
ولقد نشأ علم المعاني على سبيل المثال خادما للقرآن الكريم، ساعيا إلى تفكيك البنية الجمالية واكتشاف مضامين النظمية الرائعة في النص المقدس، وقد كان للشيخ عبد القادر الجرجاني في كتابه أسرار البلاغة وسر الإعجاز قصب السبق، وجائزة الإبداع في تثوير هذا العلم ووضع قواعده وتأسيس أركانه.
علم الأدب والشعر: لا تترك العرب الشعر حتى تترك الإبل الحنين، وللإبل والعرب والشعر رفقة لا تنصرم، ولا يزال الشعر العربي معجزة خالدة، حافظ فيها العرب طوال التاريخ على الرواية والدراية، وجعلوا من حفظه وسيلة أساسية للاستدلال للقرآن الكريم وتفسيره، ورفع رايته والاحتجاج له.
ومع الزمن تحول الشعر العربي إلى عنوان الفتوة والثقافة، وأصبح ركنا أساسيا من أركان الهوية والثقافة العربية، وأصبح مادة اللسان العربي الأكثر ثراء والأخلد بعد القرآن الكريم.
وإلى جانب علومها الخاصة، كانت اللغة العربية لسان الفقه الإسلامي، ولغة التاريخ والطب والفلك، وسائر العلوم التجريبية التي كتبها المسلمون، كما أثْرت اللغة العربية المحتوى المعرفي للمسلمين من خلال حركة الترجمة التي استمرت لقرون، ولا تزال متواصلة، واستطاعت أن تنقل العقل العربي من استهلاك الثقافة الأجنبية إلى الاستدراك عليها وتطويرها وتجاوزها.
وقد ترك علماء مسلمون كبار مثل جابر بن حيان، وابن الهيثم وابن البيطار وابن سينا وابن النفيس وأحمد بن ماجد والإدريسي والخوارزمي والبيروني والصوفي، وغيرهم كتبا ومؤلفات تأسيسية في علوم الرياضيات والفلك والطب والتمريض والزراعة والجغرافيا وعلوم البحار.
فردوس البيان.. أزمة التعليم وإشكال اللهجات
تعيش اللغة العربية اليوم واقعا غير مفرح لأبنائها، الذين يغالبون منذ عقود من أجل أن تنال اللغة العربية مكانتها السامقة، بعد أن توالت عليها ضربات الجهل الداخلي.
ومن أبرز الأزمات التي تواجه اللغة العربية اليوم:
سيطرة العاميات: حيث لا خلاف بأن لهذه العاميات المتعددة أصولا تاريخية، وأنها أذرع وخلجان من نهر الفصحى العظيم، إلا أنها تحولت مع الزمن إلى بوابات تفريق استخدمها خصوم اللغة العربية وخصوصا من المستعمرين لتمزيق الوحدة العربية اللغوية المطلوبة، وتعميق جراح المحلية والقُطْرية.
وقد كان التركيز على العامية جزءا أساسيا من المشروع الثقافي للاستعمار، حيث شهد منتصف القرن التاسع عشر دعوات متعددة، وخصوصا في مصر وتحت رعاية الاستعمار البريطاني للتخلي عن الفصحى والانتقال إلى العامية المصرية، وفي نفس الوقت الذي توالت فيه تلك الدعوات، كانت دعوات أخرى من نفس المصدر تعمل على تعزيز وحماية اللغة القبطية القديمة، وقد تولى “اللورد دوفرين” كبر الدعوة إلى إحلال العامية محل الفصحى، واعتبر أن اللغة العربية عائق أساسي أمام قوة الاختراع لدى المصريين داعيا إلى الانتقال الفوري من الفصحى إلى العامية.
ومع الزمن تحول لسان الثقافة والإعلام والفن المصري إلى العامية المصرية، وصبغ الإنتاج السينمائي المصري العالم العربي، مؤسسا لفترة من سيطرة اللهجة المصرية على أذواق الشباب العربي، قبل أن تلحق بها الدراما السورية التي صبغت هي الأخرى أجزاءا من العالم العربي.
وفي نفس السياق تنافست كل منطقة في تقديم تراثها وفنها وإبداعها السينمائي من خلال لهجات محلية، مما كسر البيان العربي، وأعاد تمزيق العالم العربي الممزق أصلا.
ومن المفارقات الطريفة والغريبة أن المسلسلات المكسيكية المدبلجة، رغم شحنتها التي كانت محل اعتراض واسع، فإن لغتها كانت فتحا فصيحا في سماوات مغلقة من العامية.
أزمة التعليم والترجمة: رغم أن اللغة العربية هي لغة التدريس الأساسية في كثير من البلدان، فإن اللغات الأجنبية وخصوصا الإنجليزية والفرنسية تنافسها بقوة، بل وتضايقها خصوصا في المجالات الفنية والتخصصات الدقيقة، رغم أن كل القيم التربوية تؤكد أن دراسة الطالب بلغته الأم تمثل أوسع بوابة له للفهم والتميز.
وتظهر مستويات التعليم في العالم العربي مقارنة مع النمور الآسيوية والصين والهند وتركيا التي تدريس بلغاتها الأصلية أن العودة للغة العربية هي أساس النهوض.
وفي أعيادها المتعددة، ترفع اللغة العربية الشكوى إلى أبنائها، وتردد على لسان شاعر النيل حافظ إبراهيم:
وسعت كتاب الله حفظا وغاية*** وما ضقت عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة*** وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن*** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي