متحف الجوهر والبارود.. سفر في التاريخ على متن قطعة سلاح

الآثار التاريخية هي الحياة المستمرة لقصة أقوام أصبحوا تاريخا يُروى في الكتب، ويُعرض على مسارح الحياة المعاصرة؛ كي يشاهدها الناس متذكرين حضارة كان لها من الرموز والقيم والسيادة في المجتمع الإنساني ما كان، ثم غابت عن وجه هذه الأرض ومضت أيامها وتحولت إلى تاريخ من هذا الزمان.

أسلحة كثيرة ومتنوعة استخدمها الإنسان، منها ما هو للدفاع عن النفس أو لتوسيع مساحة النفوذ أو للتباهي وإظهار الهيبة أمام الآخرين، أو كهدية ثمينة تُقدم لأصحاب المكانة الاجتماعية للتعبير عن التقدير والاحترام.

استُخدم معدن الجوهر في صناعة الأسلحة منذ 1500 سنة، وامتاز بخفته ومرونته وشفرة سيفه الحادة، ولكنه لم يعد يستخدم منذ 200 سنة خلت، أما البارود فابتكر صناعته الصينيون ثم نقله العرب إلى الغرب.

هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية بعنوان” متاحف خاصة” يحكي قصة العميد المتقاعد الطيار فاضل بن راشد المنصوري الذي هَوِي جمع الأسلحة التاريخية قبل أن تتحول هوايته إلى محل اهتمام ليؤسس معرضا للبارود والجوهر، ناشرا قصة حضارات قديمة من خلال قطع أثرية في معرض الفن الإسلامي في قطر.

فاضل الصبي.. من الهواية إلى الاحتراف

يعرض مخرج الفيلم صورا من الرقص الشعبي القطري الذي يُطلق عليه اسم “الزريف”، يعود فاضل إلى الـ11 من عمره متحدثا عن امتلاكه أول سيف في حياته، ويرى أن الجوهر الثمين والزخارف الذهبية الجميلة التي تزين السيوف كانت سببا في جذب اهتمامه لها.

تكونت لديه هواية جمع الأسلحة القديمة فاقتنى السلاح منذ سبع سنوات قبل أن ينتقل إلى البحث العلمي والتاريخي مهتما بقراءة الكتب، وأهمها بالنسبة إليه كتاب “السيف في العالم الإسلامي” الذي ألفه الدكتور عبد الرحمن زكي مؤسس متحف السلاح في مصر.

فاضل المنصوري مؤسس معرض البارود والجوهر بمتحف الفن الإسلامي بالدوحة

يبدى فاضل اهتمامه بأسلحة الحضارة المغولية في الهند والعثمانية في تركيا والصفوية والقاجارية في إيران، كان للاختلاف بين هذه الحضارات الثلاث من حيث أسلوب التزيين والزخارف دور هام في جعل الأسلحة ذات جمال مميز.

من كل واحدة من تلك الحضارات الثلاث حرص على امتلاك قطعة سلاح ثمينة وذات جودة عالية؛ لتكون محل اهتمام من قبل المشرفين على أي متحف للتاريخ.

بعد امتلاكه لتلك الأسلحة التاريخية الثمينة، أسس فاضل معرضا للبارود والجوهر ضمن متحف الفن الإسلامي في قطر، عرض فيه نماذج من الأسلحة في حقب زمنية مختلفة يقول خالد يوسف محمد المدير التنفيذي للتخطيط بهيئة متاحف قطر: إنها أزمنة قلّ الحديث عنها في كتب التاريخ.

ثم يفتخر فاضل بإقامته مثل هذا المعرض الذي يعتبر إنجازا وطنيا منذ افتتاح متحف الفن الإسلامي عام 2008 حيث قُسّم المعرض إلى قسمين: الأول خصص للأسلحة البيضاء من خناجر وسيوف ودروع تمثل معدن الجوهر، والقسم الثاني للبنادق والمسدسات والبارود.

سيوف وأسلحة بيضاء.. جانب من المعرض

ينظر فاضل إلى أهم سيف بالنسبة إليه داخل المعرض وهو السيف المغولي تعود أهميته إلى امتلاكه من قبل السياسي المخضرم أبو المنصور ميرزا الملقب بـ”صفنك جنك بهادر” الذي عاش في الفترة ما بين 1708م – 1757م.

حيث صنع له محمد باقر مشهدي (فارسي المنشأ) أربعة سيوف، واحد منها موجود الآن في متحف “مترو بولتن” في نيويورك، والثاني في مؤسسة الفروسية في بريطانيا، والثالث في مجموعة الدكتور ناصر خليلي، والرابع موجود في دولة قطر.

أسلحة تعود للقرن الثامن عشر الميلادي جمعها المنصوري وتركها تراثا مفتوحا للأجيال

ثم ينتقل بنا الفيلم إلى السيف الوطني العثماني الذي أطلق عليه اسم “سيف اليتقان” الذي كُتبت عليه بماء الذهب قصيدة “البردة” القصيدة المشهورة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم. ويرى مقتني الأسلحة خليفة الكواري أن الأختام والطلاسم التي تظهر على سيوف الجوهر القديمة تدل على صانعها. ومن أشهر الصناع لسيوف الجوهر في الدولة الصفوية في بلاد فارس منذ بداية القرن السادس عشر الحداد أسد الله الأصفهاني.

يتأمل فاضل في أسلحة أخرى تعود للقرن الثامن عشر الميلادي مكونة من خوذة ودرع وواقٍ لليد رُسمت عليها صور للملوك والأمراء وهم يمارسون رياضة الصيد وعليها أبيات من الشعر مكتوبة بماء الذهب المنسوخ بخط “النستعليق” الفارسي، وهو الخط الذي انتشر في إيران.

معرض البارود.. امتداد الحضارة

لا يكتفي فاضل بجمع الأسلحة القديمة والتأمل بها في معرض الجوهر والبارود بل يقف على معالم الحضارة وكيفية تطورها، فهو يرى أن حُسن استخدام المدافع سمح للدولة العثمانية بالتمدد عندما فتحت القسطنطينية، وكان لسلاح المدفعية الدور الأبرز في تحقيق النصر، وفي المقابل فإن سوء استخدامه ربما أدى إلى اندثار حضارات أخرى.

من ناحية أخرى يرى فاضل أن جمال السلاح وزخرفه يُعبّر عن المكانة الاجتماعية التي يعيشها الفرد في أي حقبة زمنية، فالأسلحة القادمة من “السند” تدل على قبيلة “التابلور” التي حكمتها وعُرفت ببذخها وزخرفتها لكافة مناحي الحياة ومن بينها السلاح.

سبطانة أحد الأسلحة مزخرفة بنقوش ذهبية

ثم تحدث عن زخرفة ما يسمى “بالدورق” أو مخزن السلاح الذي يعود إنتاجه إلى الحقبة المغولية فهو كبير وعليه صور لطيور ونباتات.

ويظهر فاضل في المعرض متحدثا إلى السياح عن سلاح “الشيشانا” وهي كلمة تعني بالفارسية رقم 6، ربما يعود سبب التسمية إلى الشكل السداسي لأخمص البندقية أو إلى المجموعات الست داخل السبطانة وتدل كثرة الزخارف على سمو شأن مالكها، ويتكلم عن تصنيف هذه الأسلحة على أنَّها رياضية تستخدم في الصيد أو لتدريبات الرماية في حدائق الإمبراطورية العثمانية.

مكتبة قطر الوطنية.. رقمنة الأسلحة

كما أن مكتبة قطر الوطنية تحرص على اقتناء الكتب، فإنها كذلك تهتم برعاية التراث والحفاظ عليه. يقول مدير شؤون مبادرات الرقمنة بمكتبة قطر الوطنية حسن محمد العوض: قمنا برقمنة هذه الأسلحة التراثية وعرضها للباحثين بشكل ميسر حتى نسهِّل تناولها من قبل الباحثين دراسة وتحليلا.

في قسم المكتبة التراثية بمكتبة قطر الوطنية تمت رقمنة الأسلحة وإتاحتها للباحثين

لم يتوقف الاهتمام بهواية فاضل عند تأسيس معرض للكتب، بل كانت القطع الأثرية التي بحوزته نماذج دراسية لكتاب صدر في بريطانيا باسم “السيوف الشرقية” مشيرا في صفحاته إلى فاضل وأنه مقتن للأسلحة التاريخية، واعتبر فاضل ذلك إنجازا للمقتنى القطري.

رجال المستقبل.. التعليم في الصغر كالنقش في الحجر

يظهر فاضل في المكتبة الوطنية وحوله مجموعة من الأطفال يشرح لهم تاريخ تلك القطع الأثرية. تقول رئيس قسم برامج الفن بمتحف الفن الإسلامي نور المعضادي: شكل لقاء الأطفال بفاضل مصدر إلهام لهم، فقد شرح لهم جماليات القطع الفنية وطريقة صنعها وأهم مميزاتها.

فالأطفال الذين رسموا تلك القطع الأثرية ولمسوها بأيديهم الصغيرة لن تغيب عن ذاكرتهم، وستبقى تلك الحقب الزمنية تاريخا يتناقله الأجيال.

لقاء للأطفال في مكتبة قطر الوطنية في ورشة لمحاكاة صناعة القطع الأسلحة القديمة

يواصل فاضل التخطيط لمواصلة اقتناء القطع الأثرية ذات الأهمية التاريخية والفنية محاولا البحث في جميع الكتب والمخطوطات القديمة عن السلاح؛ حتى يؤلف كتابا يُترجم إلى اللغة الإنجليزية ليُشكّل مرجعا يشرح وجهة النظرة الإسلامية عن تلك الأسلحة وحقبها التاريخية.

هواية أوصلت صاحبها إلى مرحلة الاحتراف، كان هدفه جمع الأسلحة القديمة ثم صار لتلك الهواية امتدادات عميقة كشفت عن عالم قديم وحضارات غابت شمسها، ثم اتخذ من وسائل العلم ولغته وسيلة إلى مخاطبة العالم من شتى الجنسيات.


إعلان