“جزيرة فاضل”.. مهجّرون فلسطينيون في دلتا مصر
في عام 1948 هاجمت العصابات الصهيونية أرض فلسطين وقتلت الآمنين في القرى والمدن والطرقات واقتحمت عليهم بيوتهم، وأحرقت الممتلكات ثم حاصرت القرى التي أتت عليها من ثلاث جهات لتجعل من الجهة الرابعة ممرا يهرب من خلاله الذي نجى من الموت؛ حتى يسير نحو ظلمات التشرد وآلام اللجوء في شتى دول العالم.
وقعت النكبة وهاجر أبناء فلسطين من مدنهم وقراهم المحتلة خوفا على أرواحهم من آلة البطش اليهودية نحو المناطق الآمنة المحيطة بهم، وجاءت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأنروا” (UNRWA) فنصبت لهم الخيام؛ ليعيشوا فيها ولتبدأ مرحلة جديدة من حياة الفلسطيني عنوانها اللجوء في دول الشتات.
وكسائر المدن والقرى الفلسطينية، تعرضت بئر السبع عاصمة النقب الفلسطيني لعمليات العصابات الصهيونية، فارتحل العديد من سكانها نحو مدينة أريحا، ثم واصلوا المسير مشيا على الأقدام حتى وصلوا إلى الأردن، وهناك أقاموا واستقروا. لكن جزءا آخر من أهالي بئر السبع وتحديدا “عشيرة النامولي” توجهت تلقاء مصر وصولا إلى منطقة بئر العبد ثم أبو كبير بمنطقة الشرقية بدلتا مصر.
تدور أحداث فيلم “جزيرة فاضل” الذي بثته الجزيرة الوثائقية حول قصة لجوء عشيرة النامولي الفلسطينية إلى مصر، حيث ساعدتها العلاقة الوثيقة التي ربطت بين الشيخ نصير النامولي والمهندس المصري محمد فاضل على امتلاكهم أرضا تقدر مساحتها بـ300 فدان سُمّيت تلك الأرض تيمنا باسم مانحها فاضل. أرض جرداء قاحلة تحيط بها المياه من ثلاث جهات، قليلة السكان لكن بسبب تزايد أعداد المهاجرين إليها أصبحت مفعمة بالحياة يقطنها ما يقارب 3500 نسمة يعمل غالبيتهم في مجال الزراعة.
زراعة الأرض.. مهنة الفلسطيني في المهجر
بعد استقرار اللاجئين على أرض جزيرة فاضل مارسوا العديد من المهن والأعمال وفي مقدمتها الزراعة، يظهر في الفيلم مشهد للمزارع المنتشرة في أرجاء الجزيرة، ومزارعون يفلحون الأرض، والعديد من الدواب والأنعام.
يقوم الشاب شكري النامولي بحفر قناةٍ للمياه؛ كي يروي الأرض ويسقي المحاصيل الزراعية يقول: “زرعنا ذرة سكرية وبرسيما وقمحا وأرزا وفولا سودانيا”، فالزراعة مصدر دخل أساسي للأسرة ومن لا يملك أرضاً يمارس الزراعة في أرض غيره.
لم تقتصر المهن على الزراعة فقط بل هناك أعمال أخرى مثل تجارة المواشي وصيانة السيارات والنجارة والبقالة، ويرى الشاب حسن النامولي أن “كل شخص يمارس المهنة التي يحبها”، فربما يكون الأب نجارا والابن صاحب محل بقالة، فلا يجبر أحد غيره على ممارسة أي مهنة.
مفتاح العودة.. تراث لم تغيّبه سنوات اللجوء
على الرغم من مرور سنين طويلة على حادثة النكبة وانتقال أهالي عشيرة النامولي من بئر السبع الفلسطينية إلى جزيرة فاضل المصرية؛ فإن عادات وتقاليد العشيرة ما زالت حاضرة ينقلها الآباء إلى الأبناء جيلا بعد آخر، ويظهر في الفيلم جبر سالم النامولي رئيس لجنة المصالحات والمجالس العرفية وحوله مجموعة من الشبان يجلسون تحت شجرة يحتسون الشاي ويتبادلون أطراف الحديث.
يتحدث مخرج الفيلم عن عادات أهل القبيلة في الزواج، وكانت تتمثل في عدم مصاهرة عائلات من خارج القبيلة، ولكن مع اختلاط أهل الجزيرة بالمصريين أصبح الزواج متبادلا بين المجتمعين الفلسطيني في جزيرة فاضل والمحيط المصري المجاور لها.
ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى أزقة جزيرة فاضل ومشاهد من داخل الحياة الاجتماعية، ثم تدخل الكاميرا إلى مبنى عُلّق على جداره لوحات تراثية فلسطينية منها لوحة لامرأة بلباسها الريفي تحمل مفتاح العودة، وأخرى رُسمت عليها خارطة فلسطين التاريخية، ثم تظهر مجموعة من النساء وهن يُحضّرن أطباقا من الطعام الشعبي المصنوع من الدقيق ويرتدين الزي الشعبي.
“الحمص والفلافل والمقلوبة”.. أكلات شعبية تحت الاحتلال
لا تعرف الأجيال الفلسطينية الجديدة التي ولدت بعد النكبة طبيعة الحياة التي عاشها آباؤهم في فلسطين، لذلك يحاول الفلسطينيون أن يغرسوا عاداتهم وتقاليدهم في الأجيال الجديدة من خلال إقامة أيام ثقافية بهدف الحفاظ على الهوية الفلسطينية في مجالات متنوعة مثل الزي والطعام وكذلك الغناء.
تقول آمال الآغا نائبة رئيس إتحاد المرأة الفلسطينية “أقمنا اليوم نشاطا يتعلق بالطعام الفلسطيني الذي تعرض للسرقة من قبل الاحتلال، فالحمص والفلافل والمقلوبة هي وجبات فلسطينية بامتياز”، وتقوم دولة الاحتلال بتزوير الحقائق في معارض الطعام الدولية فتقول كذبا إن الحمص والفلافل والمقلوبة هي أكلات إسرائيلية.
ومن العادات الفلسطينية أن يحضر الرجال الدقيق ثم يطحنونه وبعد ذلك تقوم النساء بتركيب “الصاج”، وهو لوح من الحديد يستخدم في صناعة الخبز يوضع على ثلاث قواعد من الحجارة ويوقد الخشب أسفله كي يُطهى الخبز. ويظهر في الفيلم “المسخن” وهو طبق فلسطيني تراثي يتكون من الخبز والزيت والبصل والسماق وقطع الدجاج.
لجنة المصالحات.. مغاليق الشر
يتحول مخرج الفيلم إلى مشاهد من داخل مَضافة في الجزيرة يلتقي بها كافة الرجال على اختلاف أعمارهم، يتحدثون عن شؤونهم، ولأجل التغلب على المشاكل الحياتية اليومية أسسوا لجنة للصلح هدفها حل الخلافات التي تجري بين سكان الجزيرة وجيرانها من المجتمع المصري لا سيما بعد التداخل الكبير الذي حدث بين المجتمعين.
يقول جبر سالم “تلعب مَضافة العمدة دورا هاما في رأب أي صدع في النسيج الاجتماعي فلكل مشكلة حل”. يدعو جبر الرجال إلى حل المشاكل عن طريق البحث عن مفاتيح الخير ومغاليق الشر من الناس، يتكلم الناس في المَضافة عن مشاكل متعلقة بالطلاق وأخرى متعلقة بالقتل.
مصر واللاجئون.. تاريخ من المد والجزر
تأثرت العلاقة بين اللاجئين الفلسطينين ودولة مصر بعوامل عديدة، كان لرأس الدولة الدور الأبرز في تحسين ظروف حياتهم أو سحب كافة الامتيازات منهم، ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر عومل الفلسطيني اللاجئ معاملة المصري في كافة المجالات من التعليم إلى الصحة إضافة إلى امتيازات حصولهم على بطاقات التموين مثل المصريين، والحق في تملك الأراضي الزراعية.
امتيازات ذهبت مع رحيل جمال عبد الناصر عام 1970 وتولي الرئيس أنور السادات الحكم وما حدث بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1977 بعام واحد حيث اغتيل الأديب والوزير يوسف السباعي في قبرص، واستغلت الصحافة المصرية هذا الحدث للتحريض على الفلسطينيين وإلقاء التهم جزافا عليهم.
في عهد الرئيس مبارك وبعد مشاركة القوات المصرية في عملية حفر الباطن التي قادتها قوات التحالف ضد العراق بسبب احتلالها للكويت عام 1990 كان لانحياز منظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب العراق أثرا بالغا في اتهام الفلسطينيين من قبل المصريين بعدم الوفاء.
بعد انتهاء الحرب طردت الكويت كافة الفلسطينيين، ورجع حاملو وثائق السفر المصرية إلى مصر فوجدوا أنفسهم يعاملون معاملة الأجنبي في كافة الإجراءات التي تخص حياتهم ومعيشتهم، بعد أن كانوا يعاملون كالمصريين.
محو الأمية.. تعليم بإذن من أمن الدولة
واجه تعليم الفلسطينيين في المدارس المصرية سياسات معقدة جعلت إجراءات تسجيل الطلبة تستمر لشهرين أو أكثر، إضافة إلى دفع مبالغ مالية كبيرة بالعملة الأجنبية (الجنيه الإسترليني) وضرورة الحصول على موافقة جهاز أمن الدولة.
يظهر في الفيلم المعلم المصري محمد عبد الحميد عثمان وهو يُدرّس في المكتبة الثقافية في جزيرة فاضل، يُعلّم الفتيان حروف اللغة العربية، وقد عُلّق على جدران الفصل أسماء المدن الفلسطينية، وكُتب على سبورة الفصل عبارة “مصر وطن نعيش فيه، وفلسطين وطن نعيش له”.
ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى المضافة مرة أخرى يدعو العمدة عيد فاضل النامولي أولياء أمور طلبة الصف الأول الابتدائي إلى تسجيل أبنائهم في ملفات المدرسة؛ حتى يحصلوا على حقهم في التعليم ثم ينتظروا الأوراق الرسمية فلا تضيع عليهم السنة الدراسية كاملة.
معوقات مادية وإجرائية رفعت نسبة الأمية، يقول الشاب وليد النامولي متحدثا عن الإجراءات القانونية لتسجيل الطلبة: نحتاج لرسالة موقعة من الحاكم في قطاع غزة، وأخرى من وزارة التربية والتعليم، ثم يمر ملف الطالب على أمن الدولة.
وإذا وفّق ولي أمر الطالب بتسجيل ابنه فإن على التلميذ أن يسير مسافة تبلغ 7 كم على الأقدام ذهابا وإيابا من وإلى المدرسة، ويرجع بعض أولياء أمور الطلبة أسباب التسرب من مقاعد الدراسة إلى الفقر الذي يسيطر على حالة السكان المادية، يتساءل الشاب صابر النامولي: كيف أتعلم وأنا لا أستطيع الإنفاق على نفسي؟
تمكن العمدة بالتعاون مع المحافظة والبيئة ومجلس المدينة من تنظيم أيام تنموية لخدمة أبناء الجزيرة تعليميا وتشجيع أولياء الأمور على تسجيل أبنائهم في الدراسة، خاصة وهو يرى عدم وجود أسباب حقيقية مانعة من تسجيل أولياء الأمور أبناءهم في المدرسة.
بين سندان القانون المصري ومطرقة الأونروا
من المشاكل التي يواجهها اللاجئون مشكلة التشريعات المصرية الجديدة التي تتعلق بتنظيم العمل بالنسبة للأجنبي والتي تشمل الفلسطيني، ومنها سماح الدولة بالعمل في القطاع الخاص بنسبة 10%، مما يجعل التنافس على الفرص غاية في التعقيد، ومما زاد الطين بلة أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” لم تعتبر مصر من ضمن المناطق التي تعمل فيها، مما زاد من نسب الفقر بين اللاجئين.
تطوف بنا كاميرا الفيلم ملقية الضوء على مخازن القمامة المنتشرة على أسطح المنازل، مبينة انتشار مهنة العمل في النفايات، يقول الشاب سليمان النامولي: نستأجر من مجلس المدينة مقلب النفايات، وهو المكان الذي تجمع فيه القمامة.
ويقول الشاب رمضان النامولي: نقوم بفرز النفايات إلى أقسامها فنجمع الكرتون والزجاج والحديد وغيره، ثم ننظفها ونبيعها.
وثيقة السفر.. لا سبيل إلى الحج
يحصل اللاجئ الفلسطيني في مصر على وثيقة للسفر تساعده على التنقل بين البلدان، ويتطلب إصدارها إجراءات عديدة كالتوجه إلى القاهرة وحضور صاحب الوثيقة شخصيا في كل معاملة.
أما عن سفر الفلسطينيين في مصر فقد كان مقيدا وما زال، فلكي يضمن المسافرون أو المقيمون في الخارج من الفلسطينيين الحاملين لوثيقة السفر المصرية الدخول مرة أخرى إلى مصر، يتعين عليهم إما العودة إلى مصر كل ستة أشهر أو تزويد السلطات المصرية مقدما بما يثبت عملهم أو التحاقهم بمؤسسة تعليمية، وفي تلك الحالات كان يتسنّى عليهم الحصول على تأشيرة مدتها عام واحد.
يشار إلى أن العديد من اللاجئين ممنوعون من السفر، كما أن السعودية لم تعد تتعامل مع وثيقة السفر المصرية، مما حرم الكثير من أداء مناسك الحج والعمرة.
منتخب فلسطين.. بطولات في الأزقة الضيقة
بين أزقة جزيرة فاضل يظهر في الفيلم فتيان يلعبون كرة القدم، يقول الشاب نضال النامولي: لدينا فريق لكرة القدم أسميناه منتخب فلسطين، ويتدرب هذا الفريق في ملعب “الفراعين” بالقرب من جزيرة فاضل، وقد حصل على العديد من البطولات المحلية مثل بطولة الشرقية والقاهرة وغيرها.
لم يستطع هؤلاء اللاعبون في منتخب فلسطين الحصول على ملعب خاص بهم، لكن حُلم في الحصول عليه لم يتوقف أبدا، يقول الشاب محمود النامولي: نحتاج لملعب في القرية حتى نستطيع تجميع اللاعبين فيه.
وما زالت كرة القدم هي اللعبة التي يجتمع عليها الفتيان والشبان ويشاركون في ألعاب خماسية وسداسية، فيجعلون من أزقة القرية مساحة واسعة للعب.
حلم العودة.. طموح يأبى الاندثار
مضى أكثر من سبعين عاما على النكبة، وما زالت اللاجئة شمّة النامولي التي عاشت جلّ حياتها في جزيرة فاضل تتمنى العودة قائلة “أتينا صغارا لا نعلم من الدنيا شيئا، واليوم هرمنا في هذا المكان”. تتذكر الأرض والبلدة التي خرجت منها والأيام الجميلة التي عاشت فيها بفلسطين.
أمَّا جبر سالم، فما زالت روحه ترحل كل يوم إلى بلده، فهو لا يرى أيّ بديل عنها، ويتحدث عن أحلام الفلسطينيين بالعودة إليها، فالآباء يجففون بذور الفاكهة بعد أكلها لعلهم يزرعونها في فلسطين إذا رجعوا إليها.
حلم بالعودة إلى الأرض التي احتُلت في بئر السبع بفلسطين، وما زالت تسكن عقل وقلب اللاجئين الفلسطينيين في جزيرة فاضل، وإلى أن يعودوا إليها يبقى الأمل أنيس اللاجئين ينير لهم الحياة ويعينهم على صعوباتها المتعددة.