“اليمنيّون في بريطانيا”.. أصالة لا تمحوها سنين الاغتراب
بحثا عن مصدر الرزق، يهاجر الناس من بلدانهم؛ ليعملوا في ظروف صعبة تحفّها المخاطر من كل مكان، يصلون إلى بلاد ذات عادات غريبة عن تلك التي عرفوها في أوطانهم، يحاولون التأقلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، يتحدّون حاضر الغربة بمزيد من الصبر وكثير من العمل ومديد من الآمال.
تمضي السّنون وهم في غربتهم، يخشون على ذكريات أوطانهم أن يبددها مرور الأعوام، فيتجهون لصناعة ذاكرة جديدة لأبنائهم الذين لم يعرفوا بلد الآباء، يحاولون غرس اللغة والدين والعادات والتقاليد؛ حتى تنمو مع الأجيال الجديدة فلا يتسلل النسيان إليها بوفاة جيل الآباء واندثاره.
بين أيدينا أحد أفلام الجزيرة الوثائقية المعنون بـ”اليمنيون في بريطانيا”، ويحكي قصة هجرة اليمنيين إلى بريطانيا، التي كان أولها منذ افتتاح قناة السويس عام 1870 ثم تلتها هجرات أخرى في ثلاثينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، ويسلط الفيلم الضوء على الجالية اليمنية في بريطانيا والأعمال التي يمارسها المهاجرون في غربتهم.
غرف الوقود.. ثلث أجر الرجل الأبيض
يبدأ الفيلم بعرض جانب من ظروف عمل المهاجرين كبحّارة في غرف الوقود داخل السفن التجارية البريطانية، يقول البحّار المتقاعد عبد الجليل عبد الله: عملت في عام 1955 في البحر لمدة ثلاث سنوات، لقد كان عملا مجهدا وخاصة حين كانت العواصف تحدث.
لم يكن العمل داخل غرف الاحتراق سهلا على نظرائهم من البحَّارة البريطانيين، فالمسافات التي تسيرها السفن طويلة، والحرارة داخل غرف الاحتراق عالية وشديدة، وخطر الموت والإصابة بالأمراض كبيرة، لهذه الأسباب اختار البريطانيون المهاجرين اليمنيّين لمهمة العمل في غرف الاحتراق داخل السفن.
ويعرض الفيلم نماذج من البحَّارة المتقاعدين، مثل قايد الذي كانت مهمته إلقاء أكياس الفحم للعاملين في غرف الاحتراق، وسعيد عقلان الموظف في شركة “بي بي” لمدة 25 عاما يستورد البترول من الكويت. وعلى الرغم من أخطار العمل العديدة كبحَّارة، فإنَّ المردود المالي لعملهم لم يكن كبيرا.
يقول الأستاذ والمؤرخ في جامعة مانشستر محمد سيدون: كان اليمنيون يحصلون على ثلث الأجر الذي يتقاضاه نظراؤهم من ذوي البشرة البيضاء، يقبلون العيش في أماكن متواضعة خصصت لهم، مقابل أن يرسلوا نقودا لأهلهم في اليمن.
رائحة العصيد.. نُزُل الصيّادي
بدأ وجود اليمنيين في بريطانيا بعد أن أصبح ميناء عدن محمية بريطانية عام 1839، لكن انتشارهم ظهر في نهاية القرن التاسع عشر، كبحارة شرقيين يطلق عليهم اسم ” الإسكرز”، إضافة إلى ذلك لم يظهر أثر وجودهم في المدن الساحلية البريطانية مثل “ساوث شيلد” و”كارديف” إلا بعد افتتاح نُزل خاص بالعرب.
كانت النظرة العنصرية من قبل البحّارة البريطانيين عاملا هاما في إيجاد مساكن خاصة لهم، ففي العام 1955 قرر محمد الصيادي شراء منزل؛ ليكون مأوى للبحارة اليمنيين، يقول الصيادي: كانوا يتركون أموالهم وممتلكاتهم كأمانة عندي وأرسلها لمن أراد إرسالها إلى أهله في اليمن.
يعرض الفيلم مشهدا من الحياة داخل النُزل حيث يجتمع البحّارة أيام السبت وهم يلعبون الورق ويشربون الشاي، يقول المصور الفوتوغرافي “بيتر فراير”: كانت حياتهم داخل النزل أكثر تأثيرا من الصور الملتقطة، رأيت أحدهم يشارك الآخرين تناول الطعام من خارج النافذة.
يتذكر يوسف عبد الله، أحد رموز الجالية اليمينة في “ساوث شيلدز” الأيام التي كان يصنع فيها البحارة الطعام، وكلما اشتم رائحة “العصيد” (طعام يمني) عادت إليه ذكريات الصبا، ثم يبدي الشوق إلى والده البحّار المتوفى، حيث يتجول في المقبرة شارحا معالمها يقول: هنا شاهد قبر قديم يعود إلى العام 1937 وهذا قبر “دي دبليو ريتشي” المتوفى عام 1944 في الحرب، هناك أماكن خاصة بالمسيحيين وأخرى للمسلمين.
حالة احتقان.. العائدون من الحرب
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، عاد البحَّارة الإنجليز البيض الذين جُنّدوا في الحرب إلى بلادهم ليجدوا وظائفهم قد سيطر عليها اليمنيون، فشكل ذلك الأمر حالة من الاحتقان في صفوف البيض ودفعهم الحقد على من سلب منهم أعمالهم إلى الثورة والقيام بأعمال شغب عمَّت البلاد، بدأت الثورة بقيام أحد قادة الاتحاد العمالي بمنع أحد البحّارة اليمنيين من الصعود إلى السفينة لمباشرة العمل.
يظهر في الفيلم عرض مسرحي مثير للعنصرية ضد الأجانب يصفهم بأقسى العبارات، يقرأ “بيتر مورتيمور” الكاتب المسرحي نصا مسرحيا معبرا عن مشاعر الكراهية والتحريض ضد الأجانب، يستنكر ما حدث مع المجندين من فقدهم للوظائف بعد دفاعهم عن بريطانيا ثم يتساءل: “هل تعرف شعور رجل بلا عمل”.
دفعت حالة الشغب التي قام بها العمال البيض الحكومة البريطانية إلى طرد 600 يمني يحمل الجنسية البريطانية إلى بلده الأم في اليمن، لم يشفع لليمنين تقديمهم 3500 قتيل في الحرب، ولا حتى زواجهم من إنجليزيات بالبقاء في بريطانيا والمساواة مع نظرائهم البيض.
مسجد الحكيمي.. الحانة المهجورة
ينتقل بنا مخرج الفيلم من أجواء الشغب والعنصرية التي دفع ثمنها اليمنيون بالطرد من البلاد، إلى حالة من البناء والتعمير والتطوير، فبعد أن هاجر الشيخ عبد الله الحكيمي إلى بريطانيا واستقر في “ساوث شيلدز” أقنع الجالية اليمنية بشراء حانة مهجورة ليقوم بتحوليها إلى مركز تعليمي ومسجد.
تنقَّل الحكيمي من منطقة “ساوث شيلدز” إلى “كارديف”، وحاور غير المسلمين، وأسس لعلاقات مع الحكومة، وعلم الناس أمور دينهم. يقول إمام مسجد “كارديف” زين الطيري: دفع الحكيمي الناس لتقديم الخدمات للمجتمع الذي يعيشون فيه، وفي الحرب العالمية الأولى حذَّر اليمنيون المواطنين البريطانيين قبل قدوم الطائرات الألمانية من الغارات المرتقبة، مما تسبب في إنقاذ أرواح عديدة.
أراد الحكيمي أن يُعلّم المسلمين الجدد أحكام الإسلام والقرآن وتحدّث اللغة العربية، وخاصة زوجات وأبناء اليمنيين، هنا يظهر رئيس المركز الإسلامي في “كارديف” داوود سلمان في المكان الذي أسس فيه مسجد النور، يتحدث عن بعض الأماكن والبيوت والمتاجر التي تعتبر بمثابة تاريخ الجالية اليمنية في شارع “بيوت ستريت” ولافتة نصبت في الطريق تحكي عن قصة المكان قبل أن تزال آثاره.
صناعة الطعام التقليدي.. الحفاظ على الهوية
ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى مشهد آخر تظهر فيه فتيات يصنعنَ الطعام اليمني، تقول سميرة شداد مديرة جمعية الولزية اليمنية: علينا أخذ الأطفال إلى اليمن؛ ليتعرفوا على عاداتهم وتقاليدهم، فالغربة كفيلة بأن تنسي الأجيال الجديدة شكل الوطن وملامحه.
وللحفاظ على الهوية تقوم مجموعة من الطالبات بعد الانتهاء من الدوام الجامعي بالذهاب إلى نادي الشابات المسائي وصناعة بعض الطعام اليمني التقليدي مثل العصيد والصانونة، ويقدمنه لمن هنّ أصغر منهن سنّا، تتحدث الفتيات عن الفرق بين الطعام الجاهز من مطعم “آزدا” ونظيره المطبوخ في البيت، وأنّ الطعام يذوِّب الجليد بين الثقافات المختلفة.
اتحاد عمال اليمن.. دعم للمقاومة
بعد تحول السفن التجارية في ثلاثينيات القرن الماضي للعمل “بالديزل” فقد العديد من البحَّارة اليمنيين أعمالهم، فاتجهوا إلى المناطق الداخلية مثل “شيفيلد” و”بيرمنغهام” و”مانشستر” وعملوا في الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب، وبدأ اليمنيون بتأسيس نقاباتهم العمالية التي كان أولها اتحاد عمال اليمن عام 1958.
يتحدث الباحث في مجال الحكم المحلي عدنان سيف عن نقاباتهم السابقة قائلا: انتمى العمال اليمنيون إلى نقابات ذات ميول قومية ناصرية أو ذات ميول بعثية، وعملت نقابتهم على القيام بأنشطة عديدة مثل الندوات واللقاءات، وتعدت ذلك إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني بالتظاهر عقب إحراق المسجد الأقصى المبارك، وكانت لهم أنشطة اجتماعية برز فيها الاهتمام بالأسرة والأبناء.
لغة الضاد.. المدرسة المسائية
بعد أن واجهت العائلات التي لا تعرف اللغة الإنجليزية صعوبة في التحدث مع الأبناء الذين يدرسون في المدارس البريطانية، اقترح عبد الرقيب يحيى رئيس مؤسسة سبأ للإغاثة والتنمية إنشاء مدرسة عربية مسائية لتعليم أبناء اليمنيين اللغة العربية، وكان من ضمن المدرّسين فيها ماهر عبد الله مقدم برنامج الشريعة والحياة بقناة الجزيرة (سابقا).
يعرض مخرج الفيلم مشهدا من داخل حجرة مدرسية يظهر المدرس فيها وهو يقدم درسا في اللغة العربية، يتجول راجح المفلحي رئيس جمعية الجالية اليمنية في “ساندول” في المدرسة ثم يقف أمام قطعة أثرية جاءت من بلدة “يافع” في اليمن، ثم يتحدث عن نادي كرة قدم ونادي لياقة مناسب للنساء العربيات.
“زوجي عربي”.. العنصرية المتجذرة
يتنقّل راجح في أسواق “بيرمنغهام” يتحدث عن صعوبة حصول اليمنيين على وظيفة جيدة بسبب العنصرية، لذلك يمارسون أعمالا خاصة بهم، ثم يدخل على أحد متاجر اليمنيين ويتحدث إلى البائعة، ثم يغادر إلى منزل عائلته.
يصل إلى بيت العائلة فيُسلم على والديه. تتحدث والدته “كارول” عن الصعوبة التي واجهتها عندما أرادت أن تصف زوجها صالح لأبيها قبل الارتباط به، لم يسعها أن تصفه إلا أنّه شاب بين اللون الأسود والإيطالي. ثم استغربت من طلب والدها أن تحضره ليفحصه.
تروي “كارول” قصة حدثت معها تُعبّر عن عنصرية البريطانيين تجاه اللون الأسود قائلة: كنت في الحافلة وبجانبي سيدة تتفوه بشتم السود، فقلت لها إن زوجي عربي وأنت محظوطة لأنني لم أضربك حتى الآن.
“هيلين تراست”.. الاندماج في المجتمع المدني
يلقي الفيلم كذلك ظلالا على العمل الإنساني من خلال عمل الجمعيات الخيرية، حيث تظهر الأخصائية الاجتماعية نوال عبد الله وهي تقود سيارتها متجهة نحو جمعية “هيلين تراست” التي تقدم الخدمات لأصحاب الأمراض المزمنة الذين يحتاجون إلى عناية طويلة مثل مرضى السرطان.
تدخل نوال إلى مقر الجمعية فتلتقي بالموظفين، وتُعرّف على نفسها ثم تقول: أسست جمعية (Inspire) في منتصف عام 2010، وأعتقد أن وجود عامل خدمة اجتماعية يمني يكون مفيدا للمساعدة في الحالات الخطرة سواء للنساء أو للأطفال.
تظهر في الفيلم إحدى النساء اللائي يتلقين مساعدة من مؤسسة “إنسباير” وتقول: يأتي أحدهم لمساعدتي على القيام من سريري ولأداء كافة أنشطتي الحياتية.
آلام الوطن الأم.. تلبية النداء
ينتقل مخرج الفيلم للحديث عن أعمال خيرية يقوم بها راجح المفلحي وأعضاء من جمعية الجالية اليمنية لتقديم المعونة لوطنهم الأم اليمن بعد أن دمرته الحرب ووصل الناس إلى مرحلة المجاعة بسبب الفقر، ومن إنجازاتهم تجميع عدد من المنظمات الدولية مثل “تي إي إتش” و”هيومانيتريان فورام” و”ميرسي مول” و”الإغاثة الإسلامية” و”أكسفام” لتركيز الاهتمام على الوضع الإنساني في اليمن.
ولأجل جعل المجتمع اليمني في بريطانيا على صلة مع فقراء اليمن وجمع التبرعات لصالحهم شارك عدد من شخصيات ليفربول وشيفيلد ومانشستر وبيرمنغهام وساندويل في إنشاء جمعية تؤدي هذا الغرض النبيل.
تربية البراعم.. أصالة في بلاد الغربة
يحرص اليمنيون على الحفاظ على ثقافتهم العربية في بلاد الغربة، لأجل ذلك أسسوا إذاعة “شفليد لايف” التي تنشر الوعي بين اليمنيين وتنطق باللغة العربية، تقدم الناطقة الإعلامية مريم صابونة برنامجا إذاعيا أسبوعيا يلامس هموم المرأة والاغتراب، ويظهر المذيع وجدي رواح في الفيلم متحدثا عن تاريخ اليمنيين في بناء الوطن، تلك القضية التي لم يتطرق إليها الإعلام إلا بصورة خجولة.
يعتقد المغترب اليمني في بريطانيا بأهمية الجمع بين أصالة الثقافة اليمنية وما فيها من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وبين الثقافة البريطانية، وتفخر جمعة سقاف والدة نوال عبد الله بتربية أبنائها الذين تشربوا أصالة بلادهم وحضارة غربتهم فكانوا بعيدين كل البعد عن الانحراف على الرغم من توفر عناصره.
يؤمن راجح المفلحي بتعليم الأبناء ثقافة بلدهم الأم، ومساعدة اليمن التي تتعرض للحروب والويلات طلبا للأجر من الله تعالى، يقول: نحن مسلمون وعلينا فعل ذلك.
تلك قصة المغترب عن وطنه، يعيش حياة تتقلب عليه ظروفها وأزمانها، لكن حنينه وشوقه يبقى لأول موطن وطأته قدماه، وانتسب إليه عرقا ولونا ودينا، فعلى الرغم من مولد الأجيال الجديدة في بلاد الغربة فإن عيون المغترب تبقى مرتحلة إلى الوطن كل يوم اشتياقا وحبا.