“ريثي بانه”.. من مآسي كمبوديا الغابرة إلى أوجاع العالم الحيّة

يركع رجلان في حفرة ترابية ويتعرضان أمام أعيننا لإطلاق ناري في الرأس، هذا ليس مشهدا روائيا، لكنه قتل حقيقي، إنها لقطة أرشيفية تُسجل فعل القتل في اللحظة الواقعية، تتضافر مع هذه التجربة المروعة من انعدام إنسانية الإنسان -تجاه أبناء جنسه- لقطات عديدة مفزعة من أجواء تاريخية أخرى مثل الكارثة النووية في هيروشيميا وناجازاكي، ولقطات أخرى من الحرب الأمريكية على فيتنام ومن معسكرات الموت النازية، إضافة إلى مئات الجثث التي يرمى بها في المقابر الجماعية على تنوع أشكالها.

يفجعنا المخرج الكمبودي الأصل الفرنسي الجنسية “ريثي بانه” بكل تلك المشاهد في أحدث فيلم وثائقي له، ويحمل عنوان “مُلوث بالإشعاع” (Irradiated) أو كما في لغته الفرنسية (Irradiés). وقد عُرض الفيلم للمرة الأولى عالميا نهاية فبراير الماضي بالمسابقة الرسمية في مهرجان برلين بدورته الـ70، والتي أفلتت بأعجوبة من كارثة وباء كورونا، وعلى الأرجح أنه سيكون آخر المهرجانات السينمائية الثلاثة الكبرى في العالم خلال العام 2020 بعد تفشي ذلك الوباء بشكل مثير للفزع.

نال فيلم “ملوث بالإشعاع” جائزة أفضل فيلم وثائقي من لجنة التحكيم الرسمية، لكنه لم يحصد جائزة الجمهور الألماني، وذلك بعكس الدورة السابقة للبرليناله التي حصد فيها الفيلم السوداني “حديث عن الأشجار” للمخرج صهيب قسم الباري جائزتيْ لجنة التحكيم والجمهور.

انحياز الجمهور.. ضعف التأثر العاطفي

لماذا نجري المقارنة في تلك الحالة؟ لأن جائزة الجمهور لها معاني كثيرة، إنها أكثر الجوائز صدقا، فإلى جانب كونها جائزة غير مُسَيَّسة في جميع أحوالها، فإنها أيضا تُعبر عن مدى التأثر العاطفي والوجداني بالعمل السينمائي، مثلما تكشف بوضوح عن مدى قدرة صانع الفيلم على الوصول بعمله إلى الناس العاديين بكافة دلالاته البسيطة والعميقة وربما أيضا المتوارية، فكلما تجاوب المتفرج مع الفيلم السينمائي العميق فكريا، أكد ذلك على براعة صانع العمل.

إذن لماذا انحاز الجمهور لقضية أقل في أهميتها من تلك القضية التي أثارها المخرج الكمبودي المشهور، والذي رُشح فيلمه السابق “الصورة المفقودة” (L’Image Manquante) عام 2014 لأوسكار أحسن فيلم أجنبي، مثلما نال نفس الفيلم الجائزة الأولى بقسم “نظرة خاصة” في مهرجان كان السينمائي، إضافة إلى ذلك فإن الفيلم ذاته يلمس شغاف قلب أي إنسان عادي، فكيف ولماذا إذن جاء فيلمه الأخير “مُلوث بالإشعاع” بعيدا عن جائزة الجمهور، مثلما لم يتفاعل معه كثير من النقاد بنفس القدر الذي تأثروا به في فيلمه السابق الذي اعتبروه عملا إبداعيا خالصا؟!

يكمن السر في كلمة “كيف”، كيف عبر كل مخرج عن أفكاره، وكيف اختلف أسلوب نفس المخرج بين عملين يفصل بينهما مدى زمني يُقدر بنحو ست سنوات فقط؟ صحيح أن الفيلم الأمريكي “مرحبا بك في الشيشان” (Welcome to Chechnya) الفائز بجائزة الجمهور في البرليناله السبعين يُناقش قضية تتعلق بالحريات، لكنها ليست قضية عامة، ولا مأساة كونية خطيرة مثل نظيرتها بالفيلم المنتج برؤوس أموال كمبودية فرنسية مشتركة.

“الصورة المفقودة”.. سرد حكاية شعب بأكمله

نجد بالفيلم الأمريكي أن القضية تخص فئة محدودة من الرجال والنساء من ذوي الميول الجنسية الشاذة، لكن أسلوب التناول والسرد الدرامي به كان مشحونا بالتوتر والخوف والعاطفة المتواترة في مشاهد إنسانية وجدانية مؤثرة، نجحت في استمالة شريحة كبيرة من الجمهور، وجعلته يلهث من الانفعال والخوف على الأبطال مع توالي لقطات فيلم “مرحباً بك في الشيشان”.

أما فيلم “الصورة المفقودة” فيتناول مأساة شعب واحد، ولم يحشد المخرج فيه كل مآسي العالم كما فعل بفيلمه “ملوث بالإشعاع”، بل اكتفى فقط بمأساة شعبه التي هي مأساته الشخصية. حكاية فقدان عائلته، أمه وأبيه وأخواته وإخوته وباقي أفراد عائلته الكبرى من أعمامه وأولادهم وجيرانه وسكان المدن.

يحكي المخرج بالفيلم كيف تحولت المدن إلى بيوت خاوية من سكانها، والشوارع بلا مشاة، كيف أُغلقت دور العرض السينمائي وأعدم الفنانون وجندت الفتيات والفتيان في الجيش، فمارسوا عمليات القتل والتعذيب الممنهج بقيادة الخمير الحمر (حزب سياسي شيوعي)، بينما قاموا بترحيل المخرجين والمثقفين إلى الريف، ليعملوا في حقول الأرز، وقد تعاملوا معهم مثل الحيوانات فلم يُسمح لهم بأخذ مقتنياتهم الشخصية، بل ذهبوا بملابسهم التي كانوا يرتدونها وقت الهجوم، ومات أغلبهم بفعل القهر والتعذيب أو التمرد.

مخرج فيلم “الصورة المفقودة” الكومبودي ريثي بانه

من يعترض يلقى حتفه.. لا مكان للحقيقة

كان العمل بالحقول قاسيا يمتد لنحو 12 ساعة مقابل حصة من الأرز المطبوخ لسد رمقهم من الجوع، وقد ارتفعت حصيلة الأرز ثلاثة أضعاف وأصبح يصدر إلى الخارج، ومع ذلك فقد أصبحت حفنة الأرز لا تكفي كل فرد من هؤلاء المستغَلين كالعبيد بعد أن أصبح القادة يخلطون الأرز بالشوائب، ومن كان يعترض منهم يعدم، ومن يسرق الطعام تحت وطأة الجوع يعدم.

لم توثق هذه المآسي فوتوغرافيا أو فيلميا، وإنما وُثق الجانب الدعائي الذي أراد الخمير الحمر تصديره للعالم، حيث المزاعم بتحقيق الحلم الشيوعي بحياة الرخاء والرفاهية والتخلي عن الممتلكات لصالح الجميع، لإثبات ذلك صوّر الفلاحون المرتدون للثياب النظيفة وهم يغنون ويضحكون، بينما لم تصور الحقيقة الواقعية.

لم يكن للحقيقة من مكان فقد كانت الثورة سينمائية فقط، حتى أن المصور الذي تجرأ على تصوير لقطات مقربة تكشف الخِرَق البالية والأسمال المزرية التي يرتديها الناس في أوضاعهم غير الآدمية عُذب عقابا له ثم أعدم.

كيف إذن عبّر المخرج عن تلك المآسي؟ كيف جعلنا ننفعل بها ونمقت دكتاتوريات العالم المتمثلة في الخمير الحمر بقيادة “بول بوت” الذي حكم كمبوديا طوال الفترة من 1975 وحتى1979؟

كانت تلك الفترة فترة شديدة الدموية والخراب النفسي والجسدي، وكان المخرج آنذاك يبلغ 13 عاما، وقد مات والده لأنه أضرب عن الطعام رفضا لتناول طعام الحيوانات المقدم إليهم، بينما هرب الصبي “ريثي بانه” إلى فرنسا وعاش بها وتعلم السينما التي أحبها منذ طفولته المبكرة، وصار صانع أفلام يحكي مأساة شعبه. وفي عام 2013 قدم للعالم تحفة بصرية يمكن وصفها بـ”الماستر بيس”، جاءت تحت عنوان “الصورة المفقودة”.

تماثيل الصلصال الملون التي استخدمها المخرج الكومبودي “ريثي بانه” في فيلمه “الصورة المفقودة” لإعادة تمثيل الحكاية

تماثيل الصلصال.. رحلة زمنية إلى الحفل الأخير

قرر المخرج بحثا وتنقيبا عن الصورة أو بالأحرى الصور المفقودة، تلك الصور الحقيقية التي لم يُصورها قادة الخمير الحمر، اللجوء إلى الطمي للتعبير عن كثير مما اختزنته ذاكرته، فاستخرج كميات كبيرة من طين النهر، وبدأ في نحت وصناعة تماثيل طينية شديدة الصغر، كان يُعيد بها تمثيل الحكاية، بينما نسمع صوته العذب يغرف من الذاكرة حلوها ومرها، ومعها قام بتضفير مؤثرات صوتية خلقت لنا حالة إنسانية بديعة ومؤلمة.

بدأ النحت الإبداعي بتمثال لوالده ببدلته البيضاء ورابطة العنق السوداء، وتماثيل لوالدته وإخوته وأجواء الحفل الجميل المبهج والأخير قبل هجوم “الخمير الحمر”، وبتماثيل أخرى للمرضى على أَسِرة الموت، وتماثيل للمقهورين في مواجهة الجوع والجلاد، وتماثيل أخرى لمن يصرخون في صمت من الألم غير المحتمل، وكأنهم تكرار لبطل لوحة “الصرخة” للرسام النرويجي “إدفارد مونش”.

تخدم كل تفصيلة بفيلم “الصورة المفقودة” زاوية في قصة هذا الشعب، فتلقي عليه الضوء وتنير عتمة التاريخ، بينما في فيلم “ملوث بالإشعاع” يعتمد المخرج على أسلوب آخر، فلا يهتم بالسرد القصصي بل يضع الشظايا يجاور بعضها بعضا، تاركا للمتلقي التخمين والتفسير والتأمل، فكل متفرج سيقوم بتفسير تلك الشظايا المتجاورة وفق ثقافته وهويته واطلاعه ومتابعته للتاريخ ومعلوماته ومعرفته بالصور ولقطات القتل والدمار الوحشي.

كل ما سبق ربما يجعلنا نتفهم هذا التجاوب الكبير مع فيلمي “مرحبا بك في الشيشان” و”الصورة المفقودة”، في حين تتراجع الحفاوة بفيلم “ملوث بالإشعاع” رغم كونه عملا سينمائيا بليغا ضد الحروب وجرائم القتل الجماعية والصراعات الدولية والنزاعات المسلحة. إنه قد يفسر لماذا فضّل الجمهور أن يمنح جائزته لفيلم وثائقي آخر له قصة وحبكة سينمائية ذات بداية ووسط ونهاية.

المخرج “ريتي بانه” أثناء تصوير فيلم Hنجلينا جولي “في البداية قتلوا والدي”

محيطات صور متلاطمة.. غياب الخيوط الدرامية

لا يخلو فيلم “مُلوث بالإشعاع” من عشرات الصور الإنسانية التي تضفي قدرا من الأجواء العاطفية، وتستميل الوجدان مثل دمية طفل ملقاة جانبا، أو مجموعة من الصور العائلية القديمة تشي بالسعادة والهناء، أو حفنة من الأزرار الخاصة بملابس أناس لا نعرفهم لكننا قد نتساءل عن مصائرهم. تصاحب هذه اللقطات أشعار رقيقة مؤثرة عن الخسارة والفقدان، لكنها لا تصنع قصة درامية كبيرة، ولا تصنع حبكة متسلسلة -أو حتى مُتشظية- تبقى في عقل ووجدان المشاهد.

هنا سيجد المتفرج نفسه في خضم محيطات من الصور المتلاطمة التي تحتاج إلى خيط درامي ينسجها بمهارة، ويقوم بخلق رابط تكويني يكشف العلاقة القوية بينها، كانت هذه الصور بحاجة إلى أن يلقي المخرج بإضاءات عليها ليُعمق أثرها، وبعض اللقطات كانت تحتاج تفسيرا عميقا لا مجرد أبيات من الشعر، لكن “ريثي بانه” لم يفعل ذلك، وكأنه كان يصنع فيلما للنخبة المثقفة المُرفهة التي تمتلك وقتا ووعيا وثقافة وذاكرة تاريخية لتفسير اللقطات وإلقاء الدلالات عليها.

أنجلينا جولي وبطلة فيلمها “في البداية قتلوا والدي” والمنتج “ريثي بانه” مخرج فيلم “الصورة المفقودة”

تقسيم الشاشة.. إجراء أضعف تأثر الجمهور

سنجد عيبا إضافيا بهذا الفيلم، وهو أن الشاشة مقسمة ثلاثة أجزاء، فاللقطة الواحدة تكرر في الأجزاء الثلاثة للشاشة، والبعض الآخر من التقسيم الثلاثي تختلف فيه اللقطات لكنها نادرة، ثم في مرات تكاد تكون معدودة نرى اللقطة الواحدة وهي تحتل الشاشة بأكملها.

لكن لماذا يُعتبر تقسيم الشاشة عيبا فنيا؟! لأنه يجعل الصورة تبدو أصغر، وبالتالي يبعد الهدف عن العين نتيجة هذا التصغير، مما يجعل تأثرنا بها أضعف، فعندما يُريد أي مخرج أن يتجاوب المشاهد ويتماهى مع حزن أبطاله ومآسيهم فإنه يقترب بالكاميرا من هدفه، لكن “ريثي بانه” فعل العكس لأن غواية تكرار اللقطة ذاتها على شاشة واحدة أوهمته بأن التأثير سيكون أقوى، بينما العكس هو الصحيح.

كما أن فعل تقسيم الشاشة إلى ثلاثة هو أمر ينتمي للتلفزيون، وكأنه تلاعب بصري أبعد ما يكون عن الصدق الفني، هل يُعقل أن يكون تكرار المشهد على نفس الشاشة ذو تأثير أكثر قوة وألما من وحشية الفعل ذاته في حجمه الطبيعي؟

“رقصة بوتو”.. مزيج الفن والأدب والتراث

إن فيلم “ملوث بالإشعاع” هو أقرب إلى المعالجة المعاصرة أو السينما الحداثية، إنه بعيد عن السرد الدرامي الكلاسيكي، فالمخرج يعتمد بشكل أساسي على التحرك في الزمن بشكل حر دون أي رابط درامي أو خيط يحكم الأفكار ويعيد قراءة وحشية النظام العالمي في دوائر زمنية.

إنه يجمع بين عناصر فنية عديدة منها صور فوتوغرافية أرشيفية ولقطات فيديو أرشيفية وأبيات شعر مؤثرة يلقيها اثنين من الرواة -رجل وامرأة-، وكل تلك العناصر مصحوبة بموسيقى حزينة ومؤثرات صوتية، إضافة إلى راقص يقوم برقصة “بوتو”، وهي من أشكال مسرح الرقص الياباني الأقرب إلى الرقص الحديث. وهنا أيضا يوظف هذا الراقص بدمج أدائه مع بعض اللقطات لخلق أثر درامي.

حاول المخرج “ريثي بانه” تحقيق مزيد من التأثير العاطفي عبر الاستعانة بلقطات من الفيلم الخالد “هيروشيما حبيبتي” (Hiroshima Mon Amour)، لكنه لم ينجح بفيلمه “ملوث بالإشعاع” في اقتناص جائزة الجمهور، ومع ذلك فإن هذا لا ينفي حقه كمخرج في أن يجرب أساليب فنية مختلفة، من دون أن ننسى أن المخرج الكمبودي الأصل له تجارب سينمائية وثائقية عديدة جعلت أنظار العالم تلتفت إليه منذ العام 1989، مثلما خاض مجال الإنتاج، وليس فقط في أفلامه الموقعة باسمه، ولكنه أنتج أفلاما لآخرين من بينهم “أنجلينا جولي” بالفيلم الذي أخرجته عن كمبوديا بعنوان “في البداية قتلوا والدي” (First They Killed My Father).


إعلان