الزمن المفقود في فلسطين.. حكايا المعذبين خارج السجون شوقا للمغيّبين داخلها

حكايات السجون بطبعها قاسية على من يعاني محنة السجن، وعلى أهله حين تطول لأشهر أو سنوات، إلا أن لقصة السجن والسجين والسجان في فلسطين مشهدا آخر، ورواية تكاد تنفرد بها فلسطين عن سجون العالم، فالأسر في السجون الإسرائيلية من دواعي الفخر، لأنه مبني على فعل مقاومة الاحتلال، وليس بسبب جريمة جنائية أو أخلاقية تلحق العار بصاحبها، وها هي السجون المليئة بأحكام المؤبدات، ليس مؤبدا واحدا أو اثنين، بل ربما تصل إلى 40 مؤبدا، أو إلى 1500 و2000 عام.
فلسطين.. صراع طويل الأمد
هذه الخصوصية للاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي تنعكس على حياة من هم خارجها، قصص آباء وأمهات أو أبناء وبنات أو زوجات وخطيبات، تغيبهم السجون وقوانين الاحتلال غير الإنسانية عن أسرهم لسنوات طويلة، إمعانا في العقوبة للأسير ولأهله.
يوثّق بعض هذه القصص الفيلم الوثائقي “الزمن المفقود”، وهو من إنتاج برنامج فلسطين تحت المجهر بقناة الجزيرة، قصص يزيد عددها قليلا عن أصابع اليدين، ليست بأقسى القصص ولا أكثرها إنسانية، لكنها نماذج لما تعانيه أسر الأسرى الفلسطينيين، ولكل قصة حالة أو زاوية معاناة تخصها، وما من أسير من بين 8000 أسير إلا وله قصة، ولأهله حكاية ومعاناة.
حكايات زمن مفقود من حياة الشعب الفلسطيني يدفعها ثمنا لمقاومة الاحتلال ورفض الاعتراف بوجوده، في رحلة ممتدة منذ ميلاد القضية الفلسطينية وحتى اليوم، وستمتد طالما امتد الصراع بين المقاوم والمحتل.
ماجد أبو القمبز.. أبو ماجد الذي اعتقل وهو في بطن أمه
نذرت نفسها الحاجّة غالية بارود لمواساة أهالي الأسرى والتخفيف عنهم والمشاركة في أي فعالية لمناصرة الأسرى، تقول: “أخذت على نفسي عهدا طالما أني بصحة وعافية، ألا أغيب عن فعالية لأهالي الأسرى”. وتتذكر الحاجّة غالية عندما زارت ابنها أن طلبت منها الشرطية أن تنزع ملابسها، فرفضت، وقالت لأهالي الأسرى الآخرين، أبناؤنا دخلوا سجون الاحتلال من أجل كرامتهم وكرامتنا، فإذا كانت زيارتهم على حساب كرامتنا وشرفنا فلا داعي لهذه الزيارة.

تقطع الحاجة الطرقات وهي تتهادى من تقدم سنّها وجسدها المنهك لتطوف على بيوت أهالي الأسرى، فتشد من أزرهم وتصبرهم على فراق فلذات أكبادهم المغيّبين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. تزور غالية عائلة الأسير ماجد أبو القمبز الذي اعتقل عام 2006، وتقول لوالدته: ربنا يعوض الصابرين خيرا فاصبري، وإن شاء الله قريبا يخرج ابنك من الأسر، ويرى أبناءه يوسف وزينة، ويفرح بهم وبنجاحهم.
غاب والد زينة وهي صغيرة فهي تفتقده كثيرا، وتقول: أحب أبي كثيرا لأنه حنون، وفي العادة نتحدث معه على الهاتف عندما نزوره، لكن في الزيارة الأخيرة أدخلوا كل الأطفال إلا أنا وأخي يوسف، لذلك حزنّا كثيرا لأننا لم نر والدنا.
أما فايزة أبو القمبز والدة الأسير ماجد، فتتحدث بحرقة عن فلذة كبدها التي حُرمت من ضمّه 14 عاما. تقول: عندما أسر ماجد كان ابنه في بطن أمه، وبعد خمس سنوات انفصل ماجد عن زوجته، وقمت أنا بتربية الأولاد، ورغم ما أقدمه لهما من حنان، فلا يمكن تعويض حنان الوالدين ورعايتهما، وكم أرى الحنين في عيون ماجد عندما يأتي موعد الزيارة ويدخل عليه أولاده ويحتضنهما.
عمار لافي.. أم بين فكّي الثكل والأسر
تصبح المعاناة مضاعفة عندما يتنازع الأم وجع غياب ابن في السجن ووجع مرض ابن آخر، كما حدث مع ابتسام لافي والدة الأسير عمار لافي، إذ تقول عن معاناتها: عندما اعتقل عمار عام 2003 كان عمر شقيقه محمود سنتين، فلم يعرفا بعضهما بعد، وكان محمود دائما يشتاق لرؤية أخيه عمار، وفجأة مرض محمود بمرض صعب وكان يحتاج لزراعة النخاع الشوكي، ولم يتطابق معه أحد من إخوته، وبتدخل العديد من المؤسسات سمحوا بفحص عمار إن كانت أنسجته تتطابق مع محمود، وبعد عشرين يوما ظهرت النتيجة بتطابق أنسجة عمار مع محمود.
تنفجر الأم المكلومة بالبكاء والحسرة، على ابن في الأسر وآخر مريض، وتكمل قصتها وهي ترتجف والدموع تفيض من عينيها، عن لقاء محمود وعمار دون أن يلتقيا، فقد كان لقاؤهما في غرفة العمليات فقط وهما فاقدين للوعي، ثم عاد عمار إلى المعتقل، وزرع محمود النخاع، لكن القدر كان قريبا، فبعد شهر مات محمود، فأخذ الأسر مني واحدا والموت أخذ الآخر.

وتضيف أم عمار: عانيت معاناة صعبة في مرض زوجي، والحياة بالعموم في غزة صعبة، فكان عمار يعطينا راتبه البسيط الذي يُصرف للأسرى لنعيش منه.
في 24/6/2015 أفرج عن الأسير عمار لافي وكانت والدته في استقباله، وهو من المشاهد التي يختتم بها الفيلم روايته لهذه العائلات. وللقارئ أن يتخيل هذا المشهد الذي يفيض إنسانية يصعب التعبير عنها، بعد كل ما سمعه من قصة الأم التي عانت من الشوق لابنها 12 عاما.
أما عبد الخالق والد عمار، فيشعر بالخجل لأنه عاجز عن العمل، ويعتمد هو وعائلته على راتب عمار الزهيد، يقول: أخجل من ابني عمار الذي قضى سنوات شبابه في الأسر، وعندما أفرج عنه خرج وليس معه شيء، لأنه كان يصرف ما لديه علينا، وإلى الآن لا يستطيع الزواج لقلة ذات اليد.
ضياء ومحمد الأغا.. 46 عيدا بلا فرحة
عايشت نجاة الأغا حالات اعتقال متكررة، لكنها لم تتعايش معها وبقيت تعاني وجع البعد، فقد اعتقل زوجها عام 1973 وكان لديها ثلاثة أطفال، ثم اعتقل ابناها ضياء عام 1990 وكان عمره حينها 16 عاما، ثم اعتقل ولدها محمد عام 2003.
تقول نجاة: يسألني البعض كيف أنا قوية؟، فتجيب وهي تنتحب: أنا في النهاية أم، ولا أحد يعلم كيف هي أم ضياء في بيتها أو عندما تخلد إلى النوم، وتدعو ربها أن يحييها فقط حتى ترى ابنها حرا كما ترى كل أم ابنها. وتعدّ الأعياد التي مرت عليها وهي محرومة من تقبيل ابنها يدها وجبينها، فتقول: مرت علي 46 عيدا و23 عيد أم، حرمت فيها من الفرحة.

هذه الحسرة والألم انقلبا إلى فرح عجزت نجاة عن التعبير عنه عندما أفرج عن ابنها محمد عام 2015 وأقيم له حفل استقبال، ولم تتوقف عن تقبيل ابنها وإطلاق الزغاريد له، وتقول “أعطني يدك أقبلها لأنها لمست ابني ضياء” فضياء لا يزال قيد الأسر.
وعندما علمت نجاة أن ابنها ضياء أصابه الإعياء من قلة الطعام، “فقد أثر فيه خروج محمد وبقاؤه وحيدا في السجن، تماما كما أثر في محمد، فقررت زيارة ضياء لأطمئن على حاله، ورغم أن صحتي سيئة لكن لا بد من زيارة ابني لأرى حاله”، وتستقل أم ضياء الحافلة قبل الفجر لتصل السجن في وقت الزيارة.
رامي عنبر.. مأساة ابنة لم تر والدها قط
أما بديعة عنبر والدة الأسير رامي عنبر، فقد اعتقل ابنها عام 2002 ولم يمض على زواجه سوى ثلاثة أشهر، وكانت قد خاضت تجربة اعتقال الزوج، فتقول: كنت حينها أتنقل من منزل لآخر، وليس عندي بيت أسكنه، ولذلك عندما اعتقل ابني أحسست بمعاناة زوجته، خاصة عندما علمنا أنها حامل، فقد أجرت الفحص بعد أسبوعين من اعتقال رامي.
وتواصل بديعة سرد مأساتها: بعد خمس سنوات من اعتقال رامي استشهد والده، فأصبحت المسؤولية تكبر والحمل يزيد، وكانت الظروف صعبة، والأصعب أن تواجه الحياة وحيدا.

وبعد تسعة أشهر أطلت على الدنيا فرحة رامي التي لم يرها ولم تره، إنها ريم التي عاشت شعور الأيتام رغم أن والدها حي يرزق. تقول ريم وفي صوتها حشرجة ولا يكاد يسمع: لم أر والدي إلا من خلال الصور، لم أره أبدا، وأشعر بالحزن والحسرة عندما يأتي والد طالبة في المدرسة يسأل عن ابنته، لكن أتمالك نفسي بصعوبة، حتى لا يشعر أحد بحزني وألمي.
ويوم حصول ريم على شهادة التقدير في المدرسة كانت أمنيتها أن يكون والدها معها ويفرح لفرحها، مثل كل أب يفرح بنجاح ابنته.
وبعد سنوات عديدة سمح لريم بزيارة والدها، وتقول بابتسامة خجولة: كنت أتطلع قبل زيارة والدي إلى أن أقارن بين صورته وما هو عليه اليوم، فكان في الطبيعة أجمل من الصورة.
أما العروس فداء، التي لم يمهلها الاحتلال سوى ثلاثة أشهر لتعيش حياتها الزوجية، فتقول “بعد ست سنوات من اعتقال رامي تمكنت من زيارته، وفي غرفة الزيارة كنت أبحث عنه ويبحث عني، فلم أعرفه في بداية الأمر ولم يعرفني، وآلمني ذلك كثيرا، فقضيت وقت الزيارة بالبكاء ولم أتحدث معه.
محمد البسيوني.. ثورة إنجاب النطف المهربة
تتحمل أمهات الأسرى مسؤولية ثقيلة في غياب أبنائهن في رعاية أسرهم، لكن لزوجات الأسرى معاناتهن المكبوتة، خصوصا إذا كنّ حديثات الزواج ولم يمهلن الاحتلال لتحمل المسؤولية أو الإحساس بالأمان في ظل أزواجهن، فالأسير محمد البسيوني الذي اعتقل عام 2010 عانت زوجته أحلام كثيرا بعد أسره، وكانت تمر بها حالات عصبية شديدة، خصوصا عندما ترى امرأة تحمل طفلا بين يديها، وتقول لو كان محمد حرا لكنت أنجبت مثل هؤلاء النساء.

وتحكي أحلام عن الهموم التي كابدتها بعد أسر زوجها، فتقول إنها عاشت أياما طويلة وصعبة من الفراغ والحزن، وكانت تراودها فكرة اللجوء لزراعة نطف مهربة من زوجها من السجن لإنجاب طفل يملأ عليها حياتها، إلا أن من حولها لم يتقبل الفكرة، ولهذا تقول “عشت صراعا نفسيا بين ما أقتنع به، وما يريده الناس من حولي، لكن في النهاية أقدمت على هذه الخطوة ورزقني ربي بتوأمين (نادية وميساء) وتغيرت حياتي معهما، رغم أنهما ستواجهان مشكلة كبيرة عندما تكبران، لأن الاحتلال يعتبرهما أطفالا غير شرعيين، ويتعامل معهما على هذا الأساس.
وتعتبر أحلام أن الزمن الذي يمر عليها بعيدا عن زوجها الأسير هو زمن متوقف، وغير محسوب من حياتها، لكن إنجابها للطفلتين بالنسبة لها هو الشيء الوحيد الذي له قيمة في هذا الزمن المتوقف.
مصطفى المسلماني.. نصف حرية في نصف سجن
أما قصة الأسير المحرر مصطفى المسلماني فهي من نوع آخر، إذ أنها قصة حرية غير مكتملة، وشعور غير حقيقي بمغادرة الأسر، فمصطفى كان من محرري صفقة “وفاء الأحرار” عام 2011، لكنه أُبعد إلى قطاع غزة، وبات محروما من رؤية أهله في الضفة الغربية.
يقول مصطفى: الأسير مثل الطائر المحبوس في قفص، وعندما يطلق سراحه يصطدم بالواقع، والاحتلال حاول تحطيم إرادتنا من خلال إبعادنا إلى قطاع غزة، لكن حلمنا يظل يمنينا بالعودة إلى أهلنا وبلداتنا، حتى إذا حان أجلنا، نجد من يقرأ الفاتحة على قبورنا.

يتصل مصطفى بابنته في الضفة، وهو يعد الطعام لنفسه في المطبخ، وتغالبه الدموع وهو يقول “أشعر ببعدي عنكم أني في السجن وأكثر”، وترجوه ابنته أن يكف عن البكاء، وهو لا يجيب خشية أن تسمع ابنته نحيبه، ثم ينهي المكالمة.
أما ابنته وسام المقيمة في بلدة طوباس بالضفة الغربية فتقول: عندما كنت أحدثه على الهاتف بكى وحاول كتم بكائه، فتمنيت أن أموت ولا أراه على هذه الحال، فهو في غاية الرقة، وأنا في غاية الشوق له، وأحبه بقدر الدنيا.
ويؤكد مصطفى هذا الارتباط القوي بينه وبين ابنته وسام، فيسترجع والحنين يفيض مع دموعه قائلا: عندما كنت في محكمة سجن عوفر، حرصت وسام على أن تبقى معي، أو تبقي شيئا منها معي، فقصت خصلة صغيرة من شعرها وربطتها بخيط، وأعطتها لي، وهي لا تزال معي.
ويقول مصطفى: بناتي بيسان ويافا بلغن 18 سنة ولم أرهما حتى الآن، ونادرا ما أسمع منهما كلمة أبي، وهذا بالنسبة لي ليس زمنا مفقودا فقط بل زمن لم يمر في حياتي، والله ما زلت أشعر أني أعيش في نفس السجن، ليس لأن غزة خاضعة لحصار، بل لأني منذ خروجي من الأسر أعيش وحيدا، أكلم الغسالة أو الثلاجة وأكلم نفسي، وكان ابني حازم يقول لي وأنا في الأسر، أريد أن أدخل السجن حتى أراك.
ويصف الأسير المحرر إحساسه بأن أجواء السجن ما تزال تحيط به، فيقول: كل الناس يتبادلون التهاني في المناسبات مثل الأعياد مع عائلاتهم وأقاربهم، وأنا أقضي وقتي كله وحيدا.
علاء الهمص.. ابن يتمنى السجن ليلقى أباه
يحاور الإعلامي رامز الحلبي على الهواء في إذاعة صوت الأسرى في غزة الطفل إبراهيم الهمص نجل الأسير علاء الهمص الذي اعتقل عام 2009، ويسأله عن سبب ذهابه إلى السياج الحدودي مع إسرائيل رغم المخاطر في تلك المنطقة، فيجيب إبراهيم: بعد أن اعتقل والدي سمعت أنه يعاني من أمراض عديدة، لذلك آتي إلى السياج حتى يعتقلني الاحتلال وأدخل المعتقل إلى جانب والدي.
أما إيمان أم إبراهيم فقد تزوجت وعمرها 21 عاما، وعاشت مع علاء تسعة أعوام أنجبت فيها ثلاثة أبناء وبنتا، ومنذ اعتقاله تتولى وحدها تربيتهم وتعليمهم، وعلى مدى تلك السنوات واجهت ضغوطا ومشاكل كثيرة تحتاج فيها إلى من تستند له ويحميها، لكنها لم تجد ذلك واقعيا فاستندت عليه معنويا، إذ تقول: هذه الحماية لا أجدها إلا من زوجي، وإن كان بعيدا عني جسديا فروحه معي في كل مكان، وأنتظر لحظة الإفراج عنه بإذن الله، لأني لا أريد لأحد أن يراني ضعيفة، من أجل زوجي وأولادي.

تحزن حلا ابنة الأسير علاء على حال والدها المريض بالسل وتضخم الغدة الدرقية، وتطلب مساعدته لأن حياته في خطر، حيث تقول: أبي يحتاج إلى العلاج ويجب أن يعالج، ونحن ما زلنا أطفالا ونحتاج إلى أن نعيش مع والدنا.
وتواصل حلا حكايتها قائلة: عندما اعتقل أبي عام 2009 كان عمري أربع سنوات، وعمري الآن 12 عاما، وعندما علمت أني سأزور والدي في السجن فرحت، وقلت لأمي سأحضن أبي وأقبله، لكن قالت أمي إني لا أستطيع، لأنه سيفصل بيننا حاجز زجاجي، وحزنت لذلك حزنا شديدا، وما زاد من حزني هو أني علمت أن والدي أصابته جلطة، فشعرت برغبة شديدة لزيارته ورؤيته.
أما إبراهيم فيعتبر الرحلة الشاقة من أجل زيارة والده تحقيقا للحلم، “وللأسف لن أتمكن من لمس والدي، لكن على الأقل سأراه وجها لوجه”.
عصام المنيراوي.. حبس داخل السجن وخارجه
اعتقل الأسير عصام المنيراوي عام 2006، وترك والديه المسنين يعانيان المرض والوحدة. تقول والدته فوزية وهي يعتصرها الوجع والحسرة: عندما أتذكر أن من هم من جيل عصام وأصغر منه قد تزوجوا وأنجبوا وهو قابع في الأسر يحترق قلبي.

ويقول عبد الرؤوف والد عصام: عندما اعتقل ابني كان صغيرا لا يتجاوز 18 عاما، وهو سجن في الداخل وأنا حبست في الخارج، لأني اعتزلت العالم كله، وبسبب ذلك أصبت بالأمراض، وعندما تخرج زوجتي المسنة خارج المنزل أشعر بالوحدة، ولا أجد من يسقيني الماء.
وتقول الوالدة المكلومة: ابني عصام يرسل لنا راتبه الزهيد لنعيش منه، ويطلب مني أن أنفقه على احتياجاتنا ولا أوفر منه شيئا، لكني أحفظ له راتبه حتى يجد ما يبدأ به حياته بعد أن يفرج الله عنه ويخرج بالسلامة.
حسن سلامة.. عرس بعد 1150 عاما
الأسير حسن سلامة هو أحد أشهر الأسرى في سجون الاحتلال، فقد اعتقل عام 1996 بعد أن خطط وأدار أقوى العمليات الاستشهادية انتقاما لاستشهاد يحيى عياش، لذلك حكم عليه الاحتلال بالسجن 1150 عاما، قضى 13 عاما الأولى منها في العزل الانفرادي.
تتصل خديجة سلامة بخطيبة حسن لتطمئن على أحوالها، وتحثها على الاهتمام بدراستها حتى تفرح بها حين يفرج عن خطيبها حسن.
تقول والدة الأسير: لم يسمحوا لي بزيارة حسن إلا بعد 13 عاما من أسره، وعندما التقيت به وتحدثنا عبر الهاتف، قال لي حسن “أجئت لتزوريني أم لتبكي؟ فقلت له أنا أبكي دموع الفرح لأني رأيتك، لكني وجدت حسن آخر، فقد كبر في السن كثيرا بعد 13 سنة في العزل.

وكان حسن سلامة كتب رسالة بعد زيارة والدته قال فيها: آه كم آلمني عكازك يا حجة، وأنت تحاولين إخفاءها، دمعتك التي تساقطت رغما عنك، هل ستسامحينني عليها؟ وهل ستغفرين لي عجزي عن كفكفتها؟ رجوتك بالإشارة ألا تبكي وكان كلي يبكي، كان في داخلي طفل يصرخ ويبكي شوقا إليك، كنت أنظر إلى عيونك وأتأمل وجهك وأقارن بين اليوم والأمس البعيد.
تقول غفران زامل خطيبة الأسير حسن سلامة الذي لم تره حتى وإن مرة على مدى خمس سنوات من الخطوبة، وتواصلها الوحيد كان عن طريق الصور: فكرة الارتباط بحسن وهو في الأسر فكرة قديمة عندما كنت في الجامعة، مما قرأته عنه ومما كتبه عن نفسه، وارتباطنا هو رسالة أمل وتحدي للاحتلال، ومواجهة لرسالة الموت من الاحتلال برسالة حياة من جانبنا، تتحدى غفران الاحتلال وجبروته بقبولها طواعية بالارتباط بحسن سلامة وهي تعلم أنه محكوم عليه بالأسر 1150 عاما، وقد لا يخرج من السجن أبدا.
أحمد أبو عكر.. 20 عاما من معاناة الوالدين
اعتقل أحمد أبو عكر عام 2001 وهو ابن 20 عاما. وتقول والدته فاطمة: منذ يوم اعتقاله إلى الآن لا يمر يوم دون أن يخطر على بالي، وأصابتني أمراض القلب من كثرة التفكير فيه، وأصبحت أنا وأبو أحمد سريعي الغضب والانفعال بسبب حزننا على فراق ابننا.

وتضيف فاطمة: مرة اتصل بي صديق أحمد وكان معه في السجن، وسألني كيف تطبخين المقلوبة؟ (وهي طبق فلسطيني تقليدي)، فقلت له لماذا تسأل عنها، فقال لأن أحمد كان يحبها ويطبخها لنا في السجن، وكان يقول هكذا تعملها والدتي، ومنذ ذلك اليوم عندما أرى المقلوبة أمامي أشعر كأني فقدت وعيي.
ويقول عبد الكريم والد الأسير أحمد: أحرص قدر الإمكان على عدم الخروج من البيت، حتى لا أترك زوجتي وحدها، لأنها تشعر بنقص في حياتها، ولأنها مريضة بالقلب أخشى أن يحدث لها شيء ولا أحد بجانبها.
يسري المصري.. مريض بين جدران المعتقل
تقول سبيتة المصري والدة الأسير يسري المصري الذي اعتقل عام 2003: كان يسري في السنة الأولى من الجامعة حين اعتقله الاحتلال، وأنا عانيت كثيرا حتى كبر ابني وأصبح يعتمد عليه، ثم يضعه الاحتلال بين أربعة جدران رغم أنه مريض بمرض خطير.

تنتحب الأم المفجوعة ببعد ولدها عنها وتقول بصوت مختلط بالبكاء: هذا ظلم، فهو يمكن أن يموت في أي لحظة، وكل ما أتمناه أن يحضروا لي ابني لأضمه إلي ويموت على صدري، لا أريد له أن يموت بعيدا عني ويحضروه جثة في كيس أسود.
عمر الغول.. “ودعت ابني في الزنزانة ثم خرجت ولم ألتفت”
ألفت سهير الغول المعاناة مبكرا في حياتها، بدءا بزوجها الذي اعتقل عام 1987، وكان لديها ثلاثة أولاد وابنتان، وكانت حاملا في شهرها الثاني، وتتذكر أن ابنها إبراهيم “كان يخاطب صورة والده باستمرار وكأنه موجود بيننا”.
وتواصل رواية قصتها المغرقة بالمعاناة قائلة: وقع اشتباك قوي بين عمران وقوات الاحتلال، وكان عمران داخل البيت والجيش خارجه، فاستشهد عمران، أما محمود فلم نعلم عنه شيئا إلا بعد أربعة أشهر، عندما رأينا صورته في صحيفة، وعلمنا أنه كان على قيد الحياة في مستشفى الرملة، وبفضل الله تعالى ثم بفضل المقاومة خرج أبو عمران من الأسر في صفقة وفاء الأحرار أو صفقة شاليط، وبخروجه نسيت كل ما مر بي من مآسي، إلا حزني على محمود الذي بقي في الأسر.

أما الأسير المحرر عمر والد الأسير محمود الذي اعتقل عام 2003، فقد عاش وما زال يعيش مرارة الأسر مرتين، مرة في نفسه ومرة في غياب ولده، حيث يقول: كان عمر ابني محمود ثلاث سنوات عندما اعتقلت، وعندما دخل محمود السجن كان شابا عمره 18 عاما، لكن بقي في وجداني أن محمود طفل، لأنه في فترة صباه كان بعيدا عني، فأصبحت هناك فجوة بيننا، وعندما أفرج عني عام 2011 في صفقة التبادل وودعت ابني وهو في الزنزانة ثم خرجت ولم ألتفت خلفي، لأني لم أستطع النظر إليه حتى لا يرى الدموع في عيني.
محمد الحشاش.. ثلاث جلطات في الحافلة
استمرت مأساة الأسير المحرر محمد الحشاش بعد خروجه من السجن، إذ أنه وجد والدته في حالة شلل، حيث يقول: سمحوا لوالدتي بزيارتي في السجن بعد 15 عاما، وكان ذلك صعبا عليها بسبب سنها المتقدم ومرضها، وخرجت من الزيارة متوترة، فأصابتها ثلاث جلطات في الحافلة، وهي منذ 11 عاما وحتى اليوم تعاني من تأثير الشلل من تداعيات الجلطات، فأصبحت في حالة أشبه بالسجن، وهذا كله بسبب حزنها على أسر ابنها.

ناهض الأقرع.. أشواق إلى زوج محكوم عليه بثلاثة مؤبدات
اعتقل الأسير ناهض الأقرع عام 2007، وترك خلفه زوجة تعاني وحدها مسؤولية البيت والأولاد، وتخشى عليه من الأمراض التي أنهكته، وتقول زوجته غدير: أنا مشتاقة جدا إلى زوجي مثل أي زوجة، فمن يغيب زوجها عنها أسبوعا تشتاق إليه، فماذا عني بعد أن غاب عني زوجي ثماني سنوات وترك لي مسؤولية البيت والأولاد، وهو محكوم بثلاثة مؤبدات، وموجود الآن في مستشفى سجن الرملة، ويعاني من بتر في أرجله، وأجرى عدة عمليات وينتظر عملية جديدة، فوضعه الصحي صعب.

ومن ألوان صور معاناة غدير التي تتكرر باستمرار في تربية أولادها، أن ابنتها التي تعاني من مرض السكري، جاءتها الساعة الثانية صباحا وهي متعبة من المرض، ولم تجد غدير من يساعدها في الذهاب إلى الطبيب في هذا الوقت.
معاناة 8 آلاف عائلة.. ما لا يريد المحتل أن يراه العالم
للأسف لا يسمح بتصوير زيارة الأهالي لأبنائهم الأسرى داخل السجن، فالصورة هي الأقدر على أن تعكس وجع من هم داخل السجن وخارجه، وهو ما لا يريد الاحتلال أن يخرج إلى الرأي العام حتى لا يكشف عن وحشيته، إلا أن لوحة جدارية رسمها عدد من الفنانين الفلسطينيين تجسد أحوال زيارات الأسرى والحسرة التي تتجلى على جانبي الحاجز الزجاجي، وتحكي حكايات مأساوية بعدد الأسرى وأهاليهم.

يحضُر بعض الأسرى مثل مصطفى المسلماني وعدد من أهالي الأسرى صلاة العيد في المصلى، وفي الخلفية تكبيرات العيد، في رمزية للحرية والفرح الذي قد ينهي معاناة 8 آلاف عائلة فلسطينية تنتظر الإفراج عن أبنائها الأسرى، لتنتهي معاناة هذه العائلات أيضا في البعد عنهم والشوق إليهم والخوف عليهم.