الصومال.. أعراس وأفراح في استقبال رمضان
تحت شجرة في منطقة جرداء يجلس رجال على حصير من البلاستيك ويتحدثون عن الحب والسعادة والأمل والاستقرار، وفي ساحة أخرى مزينة بالأكاليل والبالونات يغني المطربون “عيونك هي الفرحة، خذي مفتاح قلبي، أنت قدري.. أنت سندي وأنت عشقي”.
هذان مشهدان من فيلم واحد يحكي قصة حرص الصوماليين على الزواج قبل رمضان، وفي ذات الوقت يضيء على مفارقات أهمها أن أعراس الصومال تعطي صورة مغايرة عن واقع الحياة القاسية، حيث يتكلّف البسطاء إقامة حفلات بهيجة إلى حد أنك تحسبهم أثرياء، بينما تبدو أسواق المدينة عامرة بأرقى البضائع وآخر صيحات الموضة.
الفيلم الذي بثته الجزيرة الوثائقية في أبريل/نيسان 2020 يحمل عنوان “هامباليو.. عروس رمضان”، ويسرد قصة زواج الراعي جمعالي والعامل في صناعة الألمنيوم عبد اللطيف.
بين حياة العزوبية والزواج
يبدأ الفيلم بمشاهد من مدينة هادئة وأحياء شعبية، ولقطات من الرقص والطرب في البادية، وأمام خباء من القش والحطب والقصب تحدثت زينب عبد الله وهي أم جمعالي قائلة: الناس يحبون الزواج قبل رمضان لأنه يقربهم من الله فيصومون ويكثرون من قراءة القرآن ويتنافسون في الخيرات.
ثم يتدخل ابنها العريس قائلا: اسمي جمعالي محمد أحمد، وأقيم في قرية تون وتحديدا في ناحية كيداعول، وعمري عشرون عاما، ومهنتي هي رعي الإبل.
إن حياة الشاب المتزوج تختلف عن الأعزب، فالأعزب ينام في الحظيرة أمام الإبل ويسهر في الأعراس ويسامر أقرانه حتى وقت متأخر من الليل، أما المتزوج فينام في بيته مع أسرته وزوجته التي تُعد له طعامه وفطوره كل يوم.
ومن أخبية البادية، تتحول الكاميرا إلى ملعب رملي في المدينة وتتحدث لشاب آخر قرر أن يتزوج قبل رمضان، فيقول معرفا بنفسه: أنا عبد اللطيف ديق عمر، وأنا ابن 29 عاما، ومن مواليد مدينة “هيرجيسا”، وأسكن في حي 150.
كان عبد اللطيف يعيش مع أمه قبل الزواج، وقد قضى معظم وقته في لعب كرة القدم بعد أن ترك الدراسة، ثم التحق بالعمل في صناعة الألومينيوم.
“ننتظر رحمة الله”.. يوميات الرعاة
مرة أخرى تعود الكاميرا إلى القرية حين يُخضّب شفق المغيب أفق المنازل والأكواخ المترامية السابحة في الهدوء والمتوارية بعيدا عن أنظار العالم، وفي أكثر من مشهد تظهر نوق بفصلانها، وأحيانا تلتقط الكاميرا قطيعا من الإبل يتبعه حاديه في منطقة الرعي نهارا، أو داخل الحظيرة في المساء.
يقول جمعالي: بعد أن أستيقظ أصلي الفجر وأذهب إلى الحظائر لحلب النوق، ويذهب كل الناس إلى أعمالهم، وعند الغروب يعود الجميع وقد أتم عمله، فنغلق الحظائر على الماشية وننام في ساحة البيت لمنع الماشية من الضياع وهكذا الحال كل يوم.
وقريبا من إحدى حظائر الإبل، يظهر الفتية الرعاة يتسامرون ليلا على نار الحطب، ويغنون ويتحدثون عن يومياتهم المتطابقة وطموحاتهم وآمالهم المتشابهة. تقول زينب أم جمعالي: إن الحياة رتيبة هنا، ومنذ زمن بعيد وهي تعزف على وترين فقط: الخصب أو الجفاف، ونحن نقيم هنا منذ فترة طويلة، هنا ولد كل الأطفال، بضعة عشر طفلا ولدوا هنا جميعهم. لقد كان الوضع هنا جيدا، ففي فصل الربيع يهطل المطر وينبت الزرع، وتلد النوق كلها ويكثر الحليب إلى حد أننا نلقي به من كثرته، هكذا كان الوضع، والآن ننتظر رحمة الله ولسنا يائسين.
يتحدث جمعالي عن فوائد المطر على الأرض وعلى الماشية قائلا: ينتفع الناس بلحم المواشي وحليبها ويبيعونها إذا شاءوا، وإذا لم ينزل المطر يحل الجفاف ويتنقل الناس من مكان لآخر، وتكون حياتهم في خطر، فتنفق ماشيتهم ويتركون بعضها في الطريق. وفي هذه المناطق حين يبلغ الفتى سن الزواج يبدأ في البحث عن الفتاة التي تناسبه ليحصل بينهما تواصل لعلهما يقعان في الحب.
ويتابع: بعد تعارفي أنا والفتاة أصبحنا نتواصل، وأحب كل منا الآخر، وعندما تأكدنا من شعورنا بالحب المتبادل اتفقنا على الزواج، فنحن نتزوج لأننا اخترنا بعضنا البعض من بين الناس وسنبدأ مرحلة جديدة في حياتنا.
عبد اللطيف ونجمة.. قصة حب في زمن الفيسبوك
بعيدا عن حظائر النوق ومنازل القصب، يعرض الفيلم مشهدا لشارع معبّد تجوبه السيارات وتصطف على جنباته الدكاكين.
يتحدث عبد اللطيف عن علاقة غرامية عبر الفيسبوك مع فتاة كانت تفصله عنها مسافة بعيدة، بينما يُظلهما الآن سقف واحد، إذ يقول: تعرفت على نجمة من خلال الفيسبوك، وكانت تفصلنا مسافة كبيرة طويلة فهي من مدينة غيبلي وأنا كنت في هرجيسيا، وقد جعل الفيسبوك لقاءنا ممكنا وبدأنا نتبادل الزيارات، أزورها في غيبلي تارة، وتزورني في هيرجيسا تارة أخرى.
أما نجمة التي تبدو سعيدة بقدرها فتقول: لم أكن أفكر في الزواج قبل اللقاء بعبد اللطيف، وبعد تعرفي عليه فكرت بالزواج منه، وقررنا تأسيس أسرة.
وتعلق أمها قائلة: عندما يقع شخصان في الحب يأتي التفكير في الزواج.
لقاء الشجرة.. خطوبة عند شيخ القبيلة
في قرية “تون” وتحت شجرة في منطقة جرداء، جلس رجال على حصير من البلاستيك وهم يتحدثون عن الحب والسعادة والزواج والأمل والاستقرار، وهذه الجلسة ليست من قبيل الصدفة، بل هي طقس عريق ينظم تحت الشجرة ربما لرمزيتها من حيث الظل وثبات الأصل والخضرة رغم قساوة الزمان والمكان.
يقول أحد المشاركين في الجلسة: عند طلب يد الفتاة، يتصل أهل الشاب بأهل الفتاة ويعلنون رغبتهم في زواج ابنهم منها، وحينها يحدد أهل الفتاة موعدا للقاء الأسرتين.
ويقع اللقاء الأول عند شجرة بالتنسيق مع شيوخ القبيلة، ويجلب أهل الشاب بعض الأشياء المتعلقة بالتقاليد الصومالية مثل السجادة والوسادة وإبريق الشاي وغير ذلك، ويتجهز أهل الفتاة للقاء تحت الشجرة، وبحفاوة يتصافح الفريقان المجتمعان، وبعضهم يعرف بعضهم مسبقا، أما البعض فتكون هذه مناسبة للتعارف بينهم.
أشار أحد الحضور إلى رجل يجلس على الحصير قائلا: “هذا هو شيخ القبيلة واسمه علي جيلاني، وهذا هو العريس شيخ آدم عريض، بالطبع تعرفونه”. وبينما هم جلوس على الحصير البلاستيكي، التحقت بهم جماعة أخرى وبدأت طقوس عقد القران.
قال الخاطب للأب: أعطني يد ابنتك.
فأجاب والدها: أعطيتك وزوجتك ابنتي هدى محمد أحمد على ما أمر الله به تعالى.
فرد العريس: أنا جمعالي بن أحمد بن محمد قبلت زواج ابنتكم.
يقرأ الحضور الفاتحة ويخاطب أهل الشاب أسرة الفتاة قائلين: “قبلنا ببنتكم، ويحددون مشافهة مبلغ الغباني ومبلغ اليراد” وفي المدينة يعطى المهر نقودا، وفي البادية يكون من الإبل، وتقتضي العادات أن يرد أهل الفتاة بعض ما قدمه لهم العريس.
فضيلة الشجر تكمن في أنها المكان الذي تتقابل فيه أسرتان شريفتان لتمنحا الزوجين بعضهما لبعض، وفي ذلك شرف كبير، وللشجرة قيمة كبيرة، فتحتها يدفع المهر ويستلمه الحاضرون من العائلة، ثم تؤخذ الأموال إلى أهل العروس لتزيينها وهكذا، فتلك قيمة الشجرة عند القوم، إنها تجلب السمعة الحسنة.
بعد إتمام عقد القران يردد الحضور مدائح نبوية، فيصلّون على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويتوسلون به من أجل صلاح حالي الدنيا والآخرة، وقد أمضوا وقتا إلى أن أدركهم الظهر فأذنوا وصلوا تحت الشجرة.
ثوب العروس.. استعدادات الملابس والأثاث
ننتقل من الشجرة والحصير البلاستيكي في المنقطة الجرداء إلى مشهد آخر حيث أضواء الزينة والبالونات والسيارات، وهنا يتحدث عبد اللطيف قائلا: عندما قررت أنا ونجمة الزواج، كانت خطوتنا الأولى الهروب معا، ومن ثم قمنا بإعلام والدينا بالأمر وأننا نود أن نتزوج فاجتمع ولاة أمرنا.
وفي سوق عامرة بالأثاث الثمين ظهر عبد اللطيف ووالدة زوجته، وهي تسأله: لماذا كل شيء غال هنا؟ فيرد عليها: وأنا أيضا أتساءل عن ذلك، إنها أعمال العرس.
يقول عبد اللطيف: بعد الخطوبة شرعنا في ترتيب وتأثيث البيت بالسرير والكراسي والمواعين. وتضيف نجمة: عائلة زوجي جلبوا أغراض غرفة النوم والمواعين، وأمي جلبت فراش الجلوس والغسالة والتلفاز.
أما ثياب العروس فهي أهم الاستعدادات، لأنها إنما تُلبس لأجل العرس فقط، وأهميتها تبرر الجهد الذي يستغرقه اختيارها، وتعاين العروس أثوابا كثيرة كل منها أجمل من الآخر، والاختيار يعتمد على ذوق كل شخص.
وفي هذا المحور صورة مغايرة تماما لما يعتقده كثيرون من أن الحياة في الصومال تكتنفها المشقة، وأن الندرة هي السمة البارزة، فالأسواق هنا تعج بالبضائع الجميلة والراقية، وتصطف على جنبات الشارع سلاسل المحلات الأنيقة، ويظهر عبد اللطيف في لقطة لشراء بدلة وفي مشهد آخر داخل محل الحلاقة، وفي صالون تجميل أسبلت نجمة معصميها لتطريزهما بالحناء.
تقول العروس: في السابق كان يوضع القليل من الحناء، بينما اليوم صار الناس يقصدون أماكن التجميل وتؤخذ صيحات الموضة من الإنترنت في تجميل الشعر والوجه ووضع الحناء وحتى الملابس والحذاء وكل شيء.
“عش الزوجية”.. بناء منزل جديد
تحولت الكاميرا من المدينة والمحلات الراقية وصالونات التجميل إلى البادية مجددا، حيث يجري تأسيس منزل من القش والحطب والقصب لأسرة جمعالي الجديدة.
يقول جمعالي: بناء البيت يكون بنصب الأساسات، وقد جاء أصدقائي جميعا وانضموا لأعمال البناء استعدادا للعرس، وقام كل منهم بما يستطيع القيام به، وفي اليوم الأول انتهينا من الأساسات والجزء العلوي، وإذا لم أفرغ من العرس قبل رمضان فسوف أصاب بالإحباط، أريد أن أفرح كثيرا قبل رمضان، هذا ما أريده.
لقد وقع عقد القران وبدأ حفل الزفاف، فقدم مع زوجته وترجّلا من السيارة على وقع التصفيق والزغاريد وإطلاق الأعيرة النارية في الهواء، ورحب الحاضرون بهم في قاعة العرس، وهي ساحة في الهواء الطلق أضيئت وسوّرت بأعمدة من حطب علقت عليها البالونات وأكاليل الزينة.
“تقدمي يا نجمة”.. أهازيج العرس
قرر عبد اللطيف في المدينة ألا يقيم العرس في الفندق بسبب غلاء تكالي
فه، إذ يقول: بدلا من ذلك أقمت الحفل في البيت واستفدت من نقودي في أمور أخرى، وقررنا أن يكون في الحفل مكان خاص بالنساء.
تغني النساء “البورانبور” أثناء دخول أم العروس، ويومها غنّوا لنجمة:
أه! هوباي
انظر لماذا قام الناس، ليس لأمر سهل
يا من انتظرنا
يا نجمة تقدمي في المسير.
لكن أفراح الصومال لا تخلو دائما من المنغصات، فأثناء فقرات حفل زفاف عبد اللطيف انقطعت الكهرباء، مما فوت على الجميع فرصة كبيرة للعب والرقص مع الأصدقاء، وقد حزنت نجمة لهذا الوضع لكنها تحملته حتى لا يؤثر على نفسيتهما ثم سمحا للحاضرين بالمغادرة.
ورغم ذلك تقول فإنها عن هذه الليلة: كانت الأكثر فرحا وضحكا في حياتي، فقد شاركني الكثير من الناس في هذا الفرح وأمي كانت موجودة.
“أنت قدري وعشقي”.. عرس جمعالي الراعي
وفي عرس جمعالي أنشد الشعراء والمغنون:
الساعة التي تكونين فيها معي أشعر بالفرحة
وعيونك هي الفرحة
خذي مفتاح قلبي، أنت قدري
أنت سندي، أنت عشقي
يا من تربت بالأصول
يا قدري ويا نصيبي.
يقول جمعالي: قام الحاضرون بالغناء لنا وإلقاء القصائد والمقطوعات الأدبية، ثم تشغيل مكبرات الصوت بالأغاني، وبدأت مراسم العرس المعتادة. وفي ساحة الحفل احتفلنا مع التصفيق والزغاريد، وجاءتنا هدايا كثيرة.
ويضيف: بالنسبة لشعوري وقد تزوجت قبل رمضان، فإنني بالتأكيد أشعر بالسعادة فقد اجتهدت حتى تزوجت قبل الشهر الفضيل، السعادة غمرتني وغمرت الجميع، فعندما يتزوج الشاب في رمضان يجد أشياء كثيرة تسعده في حياته فيستمتع بخدمة زوجته له، إذ تشاركه الفرحة وتصنع له كل ما يدخل السرور إلى قلبه.
حديث رمضان.. طقوس الشهر الفضيل
تتحدث نجمة في بيت زوجها عن أجواء الشهر الفضيل قائلة: يختلف رمضان كثيرا عن باقي الأشهر، وهناك الكثير من الأكلات التي نقوم بتجهيزها، بينما نشتري الأكلات التقليدية الصومالية مثل الهيد والشورو والقمادي، وهذه وجبات للسحور، أما الإفطار فيتميز بتعدد العصائر.
تتجول الكاميرا في المدينة بعد المغرب حيث السوق العامرة بالبضائع، بينما تصدح مكبرات الصوت بالأذان وتلاوة القرآن في المساجد.
وهنا يعلق عبد اللطيف على هذه الأجواء قائلا: قيمة شهر رمضان كبيرة عندي جدا، فأنا أقضيه في العبادة وتلاوة القرآن الكريم، وأحرص على إتمامي صومي بأكمل وجه، وبعد الإفطار أخرج مع أصدقائي للسهر والسمر.
ليلة الفجان.. مائدة من تقاليد الأعراس
تستمر أجواء العرس في العادة أسبوعا وأحيانا شهرا، فيأتي أصدقاء العريس ويتسامرون ويرقصون ويتناولون اللحم المقدد.
تتحدث والدة جمعالي عن طقس تقديم “الفجان” وهو إناء كبير مكسو بالقماش المزركش ويحتوي خليطا من الحلوى واللحم المقدد، وتتولى نزع غطائه فتاة تمسك بعصا، ثم يتناول كل فرد من الحضور قطعة منه.
ومرة أخرى تعود الكاميرا للمدينة، وتحديدا إلى بيت عبد اللطيف حيث تتمايل نجمة وصديقاتها طربا وهنّ يستمعن لأغنية صومالية لحظة إحضار “الفجان”، وتعلق نجمة قائلة: العرس والفجان مناسبتان مختلفتان، لا يفتح الفجان في ليلة العرس بل بعدها بيومين أو ثلاثة أو أربعة حسبما تقرر الأسرة، فهذه هي العادة، ومن عادتنا أيضا بعد فتح الفجان أن تأكل منه العروس أولا.
ثم يُختتم الفيلم بالزغاريد ورقص الفتيات في حفل زفاف الراعي جمعالي.