“الصرّار في رمضان”.. حكاية الرجل الذي أسعد “قفصة” فأسعدته

رضا كردي تونسي من مدينة قفصة بالجنوب، تتحدث قسمات وجهه عن قسوة الزمان والمكان، ولكن روحه تحكي قصة من السعادة والحب والبهجة وعدم المبالاة بما تخبئه الأيام.

كان رضا يعمل في جمع القطع النحاسية من النفايات ويبيعها لتعينه على تكاليف المعيشة، ولكن هناك وظيفة أخرى أحب إليه وكان يقوم بها دون مقابل قبل أن يبتسم له الحظ ويأتيه الرزق من باب المرح والفرح.

هذه القصة يسردها فيلم “الصرار في رمضان” الذي بثته الجزيرة الوثائقية قبل أسبوع من اليوم.

يستمد الفيلم القصير المعاني والحكم من قصة الصرار والنملة التي تتحدث عن انشغال الأول بالغناء والصفير، بينما تكدّ الثانية في سبيل جمع الحبوب لتأمين العيش.

يمثل رضا دور الصرار فيقضي وقته يتجول في الشوارع والأزقة على دراجة ثلاثية العجلات وفي مقدمتها مكبر بصوت يصدح بالأغاني، غير عابئ بالأعباء الحياتية المنافية لجو المرح والفرح، بينما تقوم زوجته بدور النملة المكافحة فلا تتوقف عن الدبيب في البيت تكنس وتعجن وتطبخ وتسد النقص.

بين الجد والهزل.. صراع الصرار والنملة

يبدأ الفيلم بمشهد من طريق متعرج يشق الجبال والأراضي الصلبة بالجنوب التونسي، بينما يسرد الطفل عمر قصة الصرار والنملة:

“حل فصل الصيف بأنواره الباسمة وشواطئه الحالمة فبدت المتنزهات كجنات عدن مستها يد ساحر عبقري، فتركتها متعة للسمع والقلب والبصر”.

“في هذا الجو الدافئ الجميل ذي النسيم الفاتن العليل، خرجت نملة تبحث عن حبات قمح أو شعير.. ظلت النملة تجمع ما تناثر من الحب وتدخره في بيتها الصغير”.

من قصة الصرار المتواكل والنملة المجتهدة

ثم يظهر رضا جالسا وسط كومة من النفايات لجمع القطع النحاسية، لكنه ما يلبث أن يعود للبيت يفتش عن بعض الأغراض، وعندما تسأله زوجته: عم تبحث؟ يرد عليها: أبحث عن الحقيقة وها قد وجدتها.

كان رضا يبحث عن بعض أدوات مهنته الثانية. وعند هذا المحور تتحدث زوجته قائلة: اقتنى العربة 2009، وقد استشارني في ذلك الوقت فنصحته بشراء العربة ليشتغل عليها، بما أنه لا يملك عملا دائما، فبإمكانه أن يبيع عليها السجائر وما شابه ذلك.

دراجة الموسيقى

لكن رضا لا يريد البيع ولا الشراء “فعندما قدمنا إلى هنا صار يجمع قطع النحاس ويستخدم العربة في التنقل إلى السوق. وبعد ما يقارب الخمس سنوات اشترى الدراجة ووجه اهتمامه إلى الغناء. لا أدري كيف استهواه الأمر ولكنه انشغل بالغناء”

يظهر رضا من جديد ليقول إن الموسيقى كانت تستهويه في الصغر، وليوضح أن لديه ثلاثة أقراص بألوان مختلفة ” الصفراء تضم خليطا، والزرقاء لأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم، العندليب الأسمر وفيروز. وفي القرص الأحمر القرآن والأدعية والبردة”.

دراجة الموسيقى تتجول في الأحياء.. فرح بلا مقابل

يشغّل الموسيقى ويدفع دراجته إلى الأمام، وبينما تتهلل أساريره، يحيي السابلة في شوارع وأزقة قفصة: صباح الورد.

وهناد يعود الصغير عمر ليتابع القصة: وكان بالقرب منها صرّار يتغنى فوق أغصان الأشجار غير مبال بما تخبئه الأقدار من سوء الحظ”.

ثم تتدخل زوجة رضا قائلة “قد ينزعج البعض أحيانا من الغناء، في حين أن هناك آخرون يحبونه. أنا متعاونة مع رضا، لا أفرض عليه أن يشتري لي أشياء تفوق إمكانياته، وإنما أعمل المستحيل” حتى أسد النقص.

تتنقل الكاميرا إلى الشارع حيث يتجول رضا ويتحدث عن عشقه للفرح وحبه لكل الناس صغارا وكبار ورجالا ونساء، هذا دأبه يتجول في المدينة للترفيه عن الناس وكسر الرتابة والملل.

وفي مشهد بإحدى الحدائق شغّل رضا موسيقاه ورقص مع المتنزهين، لكن إحدى السيدات أوضحت له السر وراء انزعاج البعض من الأغاني فبعضهم لديهم ذكريات سعيدة مع الأغاني بينما الآخرون لديهم ذكريات حزينة معها، ومن هنا يتباين رد الناس على النشاط الذي يقوم به رضا.

لكن رضا لا يريد البيع ولا الشراء “فعندما قدمنا إلى هنا صار يجمع قطع النحاس ويستخدم العربة في التنقل إلى السوق، وبعد ما يقارب خمس سنوات اشترى الدراجة ووجه اهتمامه إلى الغناء، لا أدري كيف استهواه الأمر ولكنه انشغل بالغناء”.

أقراص الألوان الثلاثة.. دراجة الموسيقى تكسر الرتابة

يقول رضا إن الموسيقى كانت تستهويه في الصغر، ولديه ثلاثة أقراص بألوان مختلفة “الصفراء تضم خليطا، والزرقاء لأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم والعندليب الأسمر وفيروز، وفي القرص الأحمر القرآن والأدعية والبُردة”.

يشغّل الموسيقى ويدفع دراجته إلى الأمام، وبينما تتهلل أساريره، يحيي المارة في شوارع وأزقة قفصة: صباح الورد.

وهناد يعود الصغير عمر ليتابع القصة:

“وكان بالقرب منها صرّار يتغنى فوق أغصان الأشجار غير مبالٍ بما تخبئه الأقدار من سوء الحظ”.

في إحدى الحدائق يشغّل رضا موسيقاه ورقص مع المتنزهين

ثم تتدخل زوجة رضا قائلة: قد ينزعج البعض أحيانا من الغناء، في حين أن هناك آخرين يحبونه، أنا متعاونة مع رضا لا أفرض عليه أن يشتري لي أشياء تفوق إمكانياته، وإنما أعمل المستحيل حتى أسد النقص.

تتنقل الكاميرا إلى الشارع حيث يتجول رضا ويتحدث عن عشقه للفرح وحبه لكل الناس صغارا وكبار ورجالا ونساء، هذا دأبه يتجول في المدينة للترفيه عن الناس وكسر الرتابة والملل.

وفي مشهد بإحدى الحدائق شغّل رضا موسيقاه ورقص مع المتنزهين، لكن إحدى السيدات أوضحت له السر وراء انزعاج البعض من الأغاني فبعضهم لديهم ذكريات سعيدة مع الأغاني بينما الآخرون لديهم ذكريات حزينة معها، ومن هنا يتباين رد الناس على النشاط الذي يقوم به رضا.

“اتركيه يفعل ما يحلو له”.. رمضان على الأبواب

من وسط حي شعبي متواضع ينبعث صوت الراديو من أحد المنازل: رمضان على الأبواب. مبارك عليك وعلى عائلتك ولكل الشعب التونسي. لنبدأ بقضية مهمة؛ في هذا الشهر يعتق الله كل ليلة خمسين ألفا من النار، لتعلم أن الله هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين”.

رمضان هو ذروة نشاط رضا، فمع حلول الشهر الفضيل يكرس وقته لنشر البسمة والترفيه عن أبناء المدينة من خلال تجوله اليومي بعربته المجهزة بأقراص من موسيقى المشرق والمغرب. “في رمضان تكثر السهرات ويلتقي الناس ويتنزهون، وهو شهر الرحمة والتسامح”.

وعلى سطح البيت يظهر رضا وطفله يتفحصان المدينة عن بُعد “ذلك الجامع، وهناك حي السرور، ومن هناك حي بن يونس”، بينما تلمح من بعيد العلم التونسي يرفرف على إحدى المؤسسات.

استقبالا لرمضان زين رضا دراجته وسار بها في الشوارع

وبحلول الليل يزين رضا دراجته ويدفعها بين الأزقة مطلقا العنان للموسيقى، إلى أن يصل للشارع العام، ليواصل عادة الترفيه عن الناس.

ولئن كانت الزوجة أوضحت في البداية أنها لا تريد أن تفرض شيئا على رضا، فإنها لم تبرهن على ذلك الزعم إذ بدت في مشاهد كثيرة مستاءة من شغفه بالموسيقى وانشغاله بالترفيه عن الكدح والسعي في الرزق.

وعندما سألت الطفل عمر: أيعجبك اهتمام والدك بالموسيقى، رد عليها: اتركيه يفعل ما يحلو له.

وذات مرة سمعها عمر تطلب من والده خفض صوت الموسيقى، فتدخل قائلا: اتركيه وشأنه.

وفي هذا الصدد تعلق أم عمر: إنه لا يريد إزعاج والده ويحب أن يراه دائما منشرح الصدر ومن دون منغصات، ولا يريد أن يؤول الأمر بيننا إلى خصام، ويبكي إذا حصل نقاش بيننا.

“فلنكف عن الحديث عن هذا”.. إلحاح الزوجات

تذمر زوجة رضا من انشغاله بالموسيقى يشكل مناسبة لمواصلة سرد القصة وخصوصا رد الصرار على النملة “لا، يا أختاه إن الحياة بسمة ولهو، فلماذا نكدر عيشنا بالجهد الكبير”.

وفي جو رمضاني روحاني ظهرت العائلة تتناول الإفطار؛ عمر وأخته ووالداهما، لكن الزوجة أقحمت موضوع العمل لتسأل رضا أولا عن التعديلات التي أدخلها على الدراجة، وثانيا عما إذا كان سيوظفها في الدعاية.

خلافات بين رضا وزوجته على جلوسه في البيت بلا عمل

جاء رده “لدي وعود من أحدهم وأرجو التسهيل من الله”. لم يعجبها ذلك وقالت “أنت أيضا ابحث من جانبك من هنا وهناك ولا تقتصر على وعد من طرف واحد”.

ألحت عليه السيدة بضرورة مواصلة البحث عن فرصة عمل في مجال الإشهار أو غيره “ولا تبق عاطلا”، وهنا انصرف مغاضبا وقال “فلنكف عن الحديث عن هذا الأمر”.

وزارة الثقافة.. وظيفة صاحب السعادة

يحكي الطفل عمر:

“وحل فصل الخريف وبدأ الصرّار يفكر في النزول، وسارع ليجني الثمار والغلال، فشحب وجهه وهزل جسمه وأصبح مهددا بالهلاك”.

“بات الصرار يتفرس الوجوه بحثا عن صديق يواسيه أو قريب يؤويه أو عابر سبيل ينسيه ما هو فيه”.

استقل رضا سيارة أجرة من الشارع في اتجاه المندوبية الجهوية لوزارة الثقافة بقفصة، وعندما اجتمع بالمدير عرض عليه أن يتعاون معهم في الترويج للفعاليات والمهرجانات انطلاقا من كونه معروفا في المدينة ويتجول في كل الأمكنة.

الدراجة تصبح مصدر كسب بعد أن أصبحت وسيلة ترويج للأنشطة الثقافية

رضا الذي يلقب نفسه بصاحب السعادة، وجد نفسه موضع ترحيب من المسؤول، إذ خاطبه قائلا: نحن محظوظون لأنك جئتنا من تلقاء نفسك، وأنت وصلت للعنوان الصحيح، المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية، فهي بصدد إنجاز تظاهرات.

من الآن لم يعد مرح رضا يذهب سدى، وإنما بات يتلقى أجرا من وزارة الثقافة مقابل الترويج لفعاليات عبر مكبر الصوت ووضع الملصقات على دراجته المعروفة في مدينة قفصة.

مهرجان الحارة حية.. يا صاحب الهمّ إن الهم منفرج

في إحدى حلقات الإنشاد ظهر رجال يرتدون الأزياء التقليدية ويثبتون القناديل على الجدران ثم يذوبون وجدا وهم يبتهلون:

يا من يرى ما في الضمير ويسمع
أنت المُعَد لكل ما يُتوقع

وفي مشهد من شارع هادئ، بدت منارة جامع مضاءة بألوان خافتة، لكن دراجة رضا ستكسر هذا الهدوء، فما يلبث أن يمر بذات الشارع مشغلا مكبر الصوت: “ضمن فعاليات مهرجان الحارة حية في دورته الثانية، تسهرون الليلة مع الجو القفصي؛ مع الشيخ عبد الرحمن فتاني، وذلك عند تمام العشارة ليلا”.

وفي شارع آخر يمر رضا وهو يحث الناس على حضور فعالية للألعاب الشعبية: “مرحبا بكم كونوا في الموعد”.

إحدى الفعاليات التي روج لها رضا عبر مكبرات دراجته الموسيقية

ثم يعود الطفل للقصة:

“لقد نصحتك مرارا ودعوتك للعمل ونبذ الكسل، ورغم ذلك سأجود عليك ببعض ما كنزته من حبوب وثمار”.

وحينما عادت الكاميرا إلى المنزل، بدا أن وضع أسرة رضا تغير إلى الأحسن، حتى أن السيدة التي كانت منزعجة من نكد العيش ظهرت تبتسم وتستمع للموسيقى، وعندما استغرب رضا من هذا التحول ردت عليه: لست وحدك من يسمع الفن.

وجاء دور الطفل عمر ليكمل حديث النملة للصرار:

“وعليك أن تعمل بالمثل السائر: من جدّ وجد، ومن زرع حصد”.


إعلان