“جمهورية لجوء ستان”.. المستجير من الرمضاء بالنار

سواء أسميته مخيما للاجئين أو مخيما للنازحين أو حتى مركزا للاحتجاز، فالواقع هو نفسه، حيث أن مثل هذه المخيمات قد أصبحت عنصرا أساسيا في المجتمع العالمي، ففيها يعيش نحو 17 مليون شخص حاليا ضمن حدودها، مما يجعلها مجتمعة تحتل المرتبة الستين بين دول العالم من حيث عدد السكان.
الجزيرة الوثائقية فتحت ملف هذه الدولة التي ليس لها حدود، وقدمت شهادات سكانها وإدارييها من خلال فيلم بعنوان “دولة لجوء ستان”.
فضلات الجغرافيا السياسية.. سكان العالم الموازي
عندما تتخيل أنك تركت وراءك كل شيء كان مألوفا لك سواء كان منزلك أو عائلتك أو وظيفتك، وأنك أُجبرت على الفرار من حرب أو ديكتاتور أو مذابح جماعية، ونجحت للتو في عبور الحدود أو مجرد الوصول إلى منطقة آمنة؛ فأنت على وشك أن تصبح لاجئا أو نازحا، ومن الآن فصاعدا ستعيش حياتك في أرض المخيمات، سواء أأعجبك الأمر أم لم يعجبك.
“نيوغسينغا أسوماني” ذو الـ23 عاما هو شاب بوروندي الأصل، وقد وصل لتوّه إلى تنزانيا، إذ يقول: لا أعرف أين والدي، وقد قتل أخي الصغير في أحداث “بوجومبورا”، ومات أخي الكبير أيضا، لذلك شعرت بالتهديد، وفي الليلة الماضية كان الرجال يجولون حول منزلنا بينما كنا نتحصن فيه، وهذا الصباح هربنا لننجو بحياتنا، وما كنت أتوقع وجود هذا العدد الكبير من الأشخاص، فأنا أخاف من العدوى، لكنني سأكون سعيدا في أي مكان ما دام آمنا.
ينادي موظف الإغاثة: مرحبا أيها المواطنون، على رسلكم أيها الأعزاء، أنتم هنا في أرض المخيمات، ومع أنها لا تظهر على الخرائط، إلا أنها قد تكون أحيانا بنفس حجم المدن التي جئتم منها، هذا مخيم “نياروغوسو” الذي يعيش فيه 130 ألف شخص، يجب أن نهتم بالنظافة لنحمي أنفسنا من الأمراض، ومن الآن فصاعدا لن يسمح لك بالعمل أو التنقل خارج المخيم، هكذا هي الاتفاقيات الدولية، فقد دخلت لتوّك عالما موازيا لا يتسنى للعالم رؤيتك فيه.
يقول “ميشال آجيه” وهو عالِم أعراق ومدرس علوم اجتماعية: يعتمد المخيم بشكل عام على مبدأ الخفاء، فقد وجدت هذه الأماكن لأولئك الذين يعتبرون فضلة، فهم لا يتناسبون مع الجغرافيا السياسية العالمية، والمخيم هو حل تقني في غياب الحلول السياسية.
يقول موظف الإغاثة للاجئ “أسوماني”: إنه يومك الأول، لا يخطر بذهنك أنك ستقضي هنا 17عاما، وهذا الرقم هو رؤية الأمم المتحدة لحل النزاعات.
هنا يحتج “أسوماني” قائلا: هذا مكان فظيع، الناس كثيرون هنا، كيف سينام طفلي في هذا الغبار؟ إنني لا أشعر بالأمان هنا، في بلدي كنت أستطيع إغلاق بابي على الأقل، لكن للأسف لن أستطيع العودة، فلم يبق معي مال، ويجب أن أعتاد على العيش هنا.

أكل ومشرب وأمن وصحة.. رفاهية بلاد المخيمات
تبدأ الخطوة الأولى بعالم اللجوء في مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي التسجيل في كشوفاتهم لتصبح مواطنا في بلاد المخيمات، ثم ستحصل قريبا على بطاقة هوية جديدة، وستسمى “المستفيد”، وستعتمد بشكل كلي على المفوضية والمنظمات غير الحكومية الأخرى. والمفوضية هي منظمة إدارية مترامية الأطراف هدفها الأساسي حماية اللاجئين، وهي حاليا تعمل كدولة.
يصف “ألكساندر بيتس” مدير مركز دراسات اللاجئين في أوكسفورد هذه المفوضية بقوله: وجودك في أرض المخيمات كأنك في دولة المفوضية الأممية، أو في بلد مفصول عن الهياكل العادية للحكومات، فأنت لم تعد مواطنا في دولة قومية، فقد حصلت على هويتك كلاجئ، وصارت ترعاك المنظمات الدولية، وغالبا ستكون منفصلا عن البلد الذي ستعيش فيه.
أما “هيلين ثيوليه” الباحثة في معهد الدراسات السياسية بباريس فقالت: المفوضية مثلها مثل دولة رفاهية جيدة مع تسمية قابلة للنقاش، تقدم للمنفيين منطقة وعددا من الخدمات مثل الصحة والتعليم، والأهم هو الأمن.
في أرض المخيمات ستتعلم لغة الاختصارات وبعض الكلمات الإنجليزية بلكنة سيئة، أول اختصار هو (CRI)، أي مواد الإغاثة الأساسية، وهي ثماني مواد مثل الصابون وحاوية ودلو مياه الشرب وبطانيات النوم وغير ذلك، وسوف تلتقي بمتخصصين من جنسيات مختلفة يديرون شؤون المخيم بدءا من التخطيط واختيار المكان، وليس انتهاء بالمهمات اللوجستية وجلب المواد الأساسية.

دولة المفوضية العليا للاجئين.. منحة الدول الغربية وقيودها
يقول “ميشال آجيه”: بدخولك أرض المخيمات فأنت دخلت عالم المنظمات الدولية، وعلى الرغم من استعانتها بأهل المنطقة في تنفيذ أعمال المخيم، وكذلك استخدام سكان المخيم أنفسهم في بعض الأعمال، فإنها تبقى خاضعة لتوجهات الدول الغربية الكبرى، ببساطة هي نفس نظرة المستعمرين؛ يقدمون حلولا ومساعدات، لكنهم يفرضون قيودا.
بناء مخيم في مدة قصيرة هي مهمة بالغة الدقة، وهي مزيج من الارتجال والخطوات الموحدة، فالوحدات الصحية والمساحة المخصصة لكل فرد والسعرات الحرارية كلها خطوات مسبقة التنفيذ وبعناية فائقة، ويتلقى موظفو المفوضية تدريبات متخصصة وقاسية في كيفية التعامل مع ظروف المخيم واللاجئين.
في النرويج مثلا تعقد دورات تدريب مكثفة من سبعة أيام نظرية وثلاثة أيام عملية، وعن هذه الدورات يقول “إيفون أورنان”، وهو مدرب في المفوضية: سيناريو دراسة الحالة هذه هو أن 5 آلاف لاجئ عبروا الحدود، وينتشر 20 ألف شخص آخرين في مختلف القرى المحيطة بتلك المنطقة، وهاتان حالتان مختلفتان بالنسبة للمفوضية، وستتعامل مع الحالات الإنسانية الأكثر إلحاحا وتبني لها مخيما.

عقبات التخييم.. مصائب قوم عند قوم فوائد
تغطي أنشطة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين جميع أنحاء العالم، وبميزانية سنوية تعادل 7 مليارات دولار، مع أكثر من 9 آلاف موظف، وهي تدرب القادرين على التحرك في فترات الأزمات من جميع دول العالم، ولإنشاء مخيم عليها أولا أن تجد الأرض التي سوف تأخذها من شخص ما، وقد يتطلب هذا إجراء مفاوضات صعبة مع السلطات في ذلك المكان، وقد تضطر لمواجهة أشخاص فاسدين يستغلون الفرصة لكسب المال أو توظيف أشخاص يخصونهم.
حسب معايير المفوضية فإن الشخص الواحد يلزمه 35 مترا مربعا، ولكن الأراضي المناسبة عادة ما تكون مستغلة من قبل أصحابها، ولذلك غالبا ما تكون الأراضي المقدمة للمخيمات غير صالحة، إما من حيث طبيعة تضاريسها أو قلة المياه أو عدم وجود ممرات للعالم المجاور.
في هذا الصدد يقول “جيف كريسب”، المسؤول السابق في المفوضية: من الطبيعي أن تستغل الدولة المضيفة وجود المخيمات على أراضيها لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية معينة، فهي تستدر عطف الدول المانحة لزيادة مواردها من أجل الإنفاق على المخيمات، ويصل الأمر إلى استمرار وجود المخيمات لفترات أطول تستمر لعقود، وذلك لسهولة السيطرة على سكانها، واستمرار الموارد من المانحين.

أسلاك شائكة حول المخيمات.. مخاطر العمل الإنساني
يتحدث “ألكساندر بيتس” عن وضع موظفي الإغاثة في المخيمات: إنها بيئة عمل شديدة الخطر، وبشكل متزايد في الآونة الأخيرة، فقد وصل الإرهابيون إلى بعض المخيمات وصاروا يختطفون موظفي الإغاثة ويحتجزونهم كرهائن أو يقتلونهم، لقد صار مطلوبا منهم أن يعملوا من خلف أسوار شائكة خوفا على حياتهم، وبالتالي فإنهم لا يتواصلون كثيرا مع سكان المخيم، وهذا عكس ما تتطلبه مهمتهم كإنسانيين.
في المخيمات عموما وفي مخيمات أفريقيا خصوصا، قلما تشاهد وجوها بيضاء يعملون هناك، إنهم يخافون على حياتهم، لذا توكل المهمات إلى وجوه آسيوية أو من الأفارقة أهل المنطقة، ولكن هذا لا يمنع أن ترى مسؤولين بيضا يزورون المكان من حين لآخر لتفقد الأوضاع، أو للاطمئنان على وصول المساعدات التي يقدمونها لمستحقيها.

سجن “داداب” الأعظم.. رضيت من الغنيمة بالإياب
من أهم المشاكل التي تواجه المخيمات أن المانحين ينسونها بعد سنة أو سنتين من إنشائها، فالدول الغربية والجهات المانحة عادة ما يفزعون بحماسة عندما تحل كارثة طارئة في جزء من العالم، ولكن مع الوقت يتناسونها من أجل أن يفكروا في طارئة أخرى، وهذا واضح من تناقص أرقام المساعدات التي تقدم للمخيمات مع مرور الوقت.
مضى على وجود مخيم “داداب” في كينيا -الذي يعد أكبر مخيمات اللاجئين في العالم- أكثر من 25 عاما، ويسميه المختصون “الوحش”، وقد ولدت أجيال وترعرعت فيه، وما كان مناسبا لحالات الطوارئ من بنية تحتية ومرافق صحية لم يعد صالحا الآن بعد كل هذه السنوات، فكثير من سكان هذا المخيم يتمنى العودة إلى بلده الأصلي الصومال، على الرغم من المخاطر التي قد يواجهونها.
يقول أحد اللاجئين: أريد أن أعود إلى وطني مهما كلف الأمر، أنا هنا في سجن كبير ليس إلا، أريد أن أتنفس الحرية، هناك في وطني أستطيع أن أحرث أرضي وأرعى ماشيتي، أريد أن أشعر بأنني إنسان له أهمية في هذه الحياة، في هذا المخيم نحن نأكل ونشرب دون أن نشعر بأهميتنا كبشر.

مخيم الأزرق في الأردن.. محاولات ريادية لاحتواء اللاجئين
تحاول المفوضية إعادة التفكير في كيفية احتواء اللاجئين، وابتكار طرق جديدة في بناء المخيمات، لهذا جاءت فكرة إنشاء مخيم الأزرق في الأردن بطريقة ريادية، في محاولة للاستفادة من عقود طويلة من الخبرات والأخطاء، وقد وقع اختيار المساحات بعناية، وتأسست البنية التحتية بمعايير راقية، وخصصت مساحات للألعاب والترفيه ومرافق للخدمات الصحية واللوجستية.
ولكن لسخرية الزمان فإن الناس الذين يسكنون في هذا المخيم يرفضون فكرة وجودهم هناك أصلا، فهم يريدون مجتمعاتهم الخاصة وبيئتهم الاجتماعية التي يفضلون، ولذلك فعدد سكان المخيم أقل بكثير من سعته الحقيقية.
استفادت المفوضية من خبرات أجهزة الأمن الأردنية في استخدام أحدث التقنيات للتعرف على هوية اللاجئين مثل بصمة العين، وذلك تجنبا لدخول أشخاص غير مرغوب بوجودهم في المخيم، ومع أن الحقوق الأساسية مثل العمل والتنقل غير متاحة هنا أيضا، فإن بعض الأفكار ما زال يجري تطويرها مثل توزيع النقود على سكان المخيم عن طريق بصمة العين، بدل توزيع الأساسيات العينية.

برنامج الغذاء العالمي.. نقرة هاتف تطعم طفلا
تقول لاجئة سورية في مخيم الأزرق: يعطوننا ما يعادل 25 دولارا شهريا، وهذا المبلغ لا يكاد يكفي لشراء زيت وسكر، أما الفواكه والكماليات فلا ننظر إليها أصلا، انظر إلى بيض المائدة: هذه العبوة ثمنها خمسة دولارات، لا أستطيع شراءها هذا الشهر، يمكن أن يؤجل ذلك إلى الشهر القادم.
يرى مراقبون أن فكرة المجمَّع التجاري الموجود في مخيم الأزرق مشوَّهة تماما، إنه مشروع تجاري أردني يمنح حق الاحتكار لمخيم اللاجئين، المفوضية تفترض أن اللاجئ مستهلك مكتمل الأركان، يعمل ويجني مالا وله حق اختيار السلعة والمتجر، وهذا غير متوفر بالمرة، فأسعار السوق مثبتة على أساس الواقع التجاري لأسواق الأردن المحلية، وذلك ينافي فكرة أن اللاجئ لا يعمل ولا يكسب أجرا.
من الأفكار الريادية ذلك التطبيق الذي أطلقه برنامج الغذاء العالمي، للتبرع بإطعام طفل سوري جائع في مخيمات الأزرق أو الزعتري في الأردن، ويحتاج المتبرع إلى ضغطات معدودة على هاتفه المحمول من أجل إعالة طفل لمدة يوم أو شهر أو حتى سنة، وإذا علمت أن مستخدمي الهواتف المحمولة يزيد عشرين ضعفا على الأطفال الجائعين، فستدرك حجم المساعدات التي يمكن للعالم تقديمها للأطفال.

على أبواب أوروبا.. فردوس الأحلام المحرم على المهاجرين
يقع مخيم “إيدوميني” في شمال اليونان على الحدود مع دولة شمال مقدونيا، وهناك يتجمع عدد كبير من اللاجئين من مناطق مختلفة من آسيا وأفريقيا، موظفة المفوضية تعلن أن الدخول اليوم يختص بالقادمين من سوريا وأفغانستان والعراق فقط، ولا يسمح بدخول القادمين من الصومال وإريتيريا، “هذا القرار من السلطات المقدونية، لا نستطيع فعل شيء”.
لطالما وجدت المخيمات في طريق المهاجرين، وكثير من هذه المخيمات موجود في إيطاليا واليونان، وقد أصبحت الدول الأوروبية تفضل هذا النوع من المخيمات، فهو أولا يمنع المهاجرين من الدخول إلى الدول الأوروبية، وثانيا يوفر نوعا من السيطرة والتحكم لهذه الدول بالمهاجرين، إضافة إلى أنه يوفر لهؤلاء المهاجرين المأوى والطعام والشراب.
الواقع أن هذه المناطق أعدت لتكون مناطق عبور فقط وليس كمخيمات إقامة، وهنا يشكو عمال الإغاثة من عدم وجود مساحات من الأرض تحت تصرفهم من أجل إقامة مساكن مؤقتة أو حتى مرافق صحية لراحة الناس، فهذا ليس تحت تصرفهم، كما أنه يزعج السكان المحليين، ويعتبر هذا قمة الامتهان للكرامة الإنسانية.
فشل مجلس الأمن من بعد الحرب العالمية الثانية فشلا ذريعا في إرساء قواعد الأمن العالمي، وفشل في حل النزاعات الدولية التي يكون ضحاياها ملايين الناس الذين يحرمون من أوطانهم، وها هي الدول العظمى تقول لك أيها اللاجئ بكل عجز: أنت ببساطة محروم من الدخول إلى وطنك ومحروم من الحصول على حقوقك، ثم أنت محروم من التمتع بأدنى مقومات الكرامة الإنسانية. كم نحن آسفون. فما قيمة مجلس كهذا بعد ذلك؟