“جمال لا يدرك”.. شمعة الجمال التي تحرقنا لتنير للجمهور

بكبسة زر، تصبح العيون أكبر والأنوف أصغر وعظام الوجه بارزة، والبشرة صافية والجسد رشيقا، وعندما تصل الصورة للفتيات على وسائل التواصل تدفعهن للشعور بالنقص، فلسن بهذا الجمال الفائق، وليست أجسادهن على هذا القدر من الرشاقة.

هذه العقد وتداعياتها النفسية والصحية والاجتماعية، يتناولها فيلم “جمال لا يدرك”، الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية، بمشاركة عارضات أزياء ورائدات بمواقع التواصل وخبراء في الصحة والتجميل.

ورغم أن الجمال مسألة نسبية، فإنه أصبح اليوم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل مقولبا ونمطيا ومحددا بمثل عليا، لذا ازدادت ظاهرة عدم ثقة النساء بمظهرهن، وخاصة الفتيات الصغيرات اللواتي لم يعززن الثقة بأنفسهن بعد.

وسم “إنسبو”.. طريقك لتصبحي مثل العارضات

إن دخول الهاتف المحمول في حياتنا والسيل الهائل من الصور المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي والتركيز على شكل جسد المرأة باعتباره المحدد لهويتها، أوجد ضغطا كبيرا عليها، وجعل كثيرا منهن يقعن فريسة لمشاكل نفسية.

“نيكول” طالبة تبلغ من العمر 22 عاما، وكانت تهتم كثيرا لعالم الأزياء والموضة، وانخرطت في هذه الحياة التي تحدد مثلا عليا للجمال، لكن مقاساتها كانت مخالفة لتلك المعايير.

بدأت “نيكول” تتابع في إنستغرام وسم “إنسبو” (Inspo) الخاص بالرشاقة، وهو وسم لأشخاص يشجعون الناس على الحصول على أجسام مثالية وفقد أوزانهم بالإكثار من الرياضة والتقليل من الطعام، وليس هذا موجها لعارضات الأزياء وحدهن، بل يشمل الفتيات العاديات.

نيكول.. طالبة جامعية مهتمة بالأزياء قادها هوسها إلى العلاج النفسي في النهاية

اعتقدت “نيكول” أن بإمكانها أن تصبح من الأشخاص المؤثرين ولكنها لم تجد السعادة في النحافة وأصبحت تعاني ضعفا جسديا من قلة الطعام الذي تتناوله، وقد خارت قواها وتساقط شعرها، وأثر هذا على كل مناحي حياتها وكلفها الكثير لتبدو حياتها على إنستغرام مثالية ومنسقة ومبتكرة.

لاحقا قررت “نيكول” أن تتغير وخضعت للعلاج النفسي، وبدأت تتابع مؤثرين إيجابيين يشبهونها وأجسادهم بدينة أو عادية، وكانت سعيدة بذلك.

معركة اللياقة البدنية.. حين يصبح الجسد مجرد شيء مادي

تقول أخصائية علم الاجتماع “بولا إيرين فيلا”: لو حاول الناس مطابقة أجسادهم لمعايير معينة فستفشل الأغلبية، وقد يصبح التعطش للوصول للصورة المثالية أمرا مدمرا، ولا يعود طوعيا بل شعورا ملحا عند الفئة الشابة في المجتمع، مخلفة حالة من الحزن لعدم تحقق تلك الرغبات.

إن الصور التي تظهر في مواقع التواصل الاجتماعي على أنها عفوية تكون قد التقطت مئات المرات قبل تحميلها، وهناك “الفلتر” وتطبيقات تعديل الصور، وعلى الرغم من معرفة الجميع لذلك، يحاول الناس إسقاطها على حياتهم اليومية.

القوة هي المفهوم الجديد للنحافة، وهناك تركيز على اللياقة البدنية، وتتعاون مواقع الإنترنت مع محترفات اللياقة لدفع النساء الأخريات لتحقيق ذلك والتحكم بأنفسهن.

يقول الباحث في مجال الجمال “هيملون ليدز”: إن الاستثمار في الجمال والتنحيف مجهد مع وجود مجتمع متنامٍ، ويمكن للمرء التخلص من السعرات الحرارية بسرعة، ولكن بجهد أكبر.

واللياقة البدنية هي سبب معاناة كثير من الفتيات، وهي الطريق للحصول على الجسم الرشيق الذي يعني بالضرورة الاستمرارية والنجاح. تقول إحدى مدربات اللياقة: في البداية يكون الأمر صعبا في تناول كميات محددة من الطعام، لكن الجسم يعتاد على ذلك، وفي نهاية المطاف الاستثمار في الجسد يستحق العناء.

إن التخلي عن الجمال الحقيقي في يومنا واللجوء لتحسين المظهر عن طريق إجراء عمليات التجميل والحميات الغذائية والتمرينات وأخذ المقاسات يدخل النساء في دوامة لا يمكن الخروج منها.

وترى المعالجة النفسية “هارييت فرانا” أن الذين يستمتعون بالألم الناتج عن نحافة جسدية متطرفة من الناحية المنطقية تصبح العلاقة مع أجسادهم محايدة، وينظرون إلى أجسادهم كشيء مادي لا تربطهم به رابطة حب، لذا يُحط من قيمته ليكون أداة لحصد الإعجاب (اللايكات)، ويفصل مشاعره لتكون العاقبة التمتع بالألم فقط.

هذه المفاهيم تركز على المرأة دون الرجل لأن مفهوم الرجولة مرتبط بالعقل والحكمة والسياسة، لكن المرأة يجري ربطها بمفاهيم العاطفة وملازمة البيت والشكل المثير والاهتمام بالمظهر على حساب العقل والمنطق.

حياة “باربي”.. وهم الصورة النمطية

تقول الصحفية “فيرينا”: إن تقيمي لتلك المقارنات في مواقع التواصل الاجتماعي والممارسات التي تقع هو الشعور بالخجل، وهناك التميز على أساس الجنس وهذا ينشأ منذ الطفولة إذ تحاسب الفتاة على ملابسها وتصرفاتها، بينما لا يحاسب الفتيان على تصرفاتهم غير اللائقة.

التحرش الجنسي والألفاظ غير اللائقة التي تتلقاها الفتيات هي نتاج الأجساد المجانية المعروضة للجميع

وترى “فيرينا” أن حياة الرجل والمرأة على مواقع التواصل الاجتماعي تشبه حياة “باربي وكين”: سلسة وبدون أخطاء، وهذا غير واقعي، فالنساء على مواقع التواصل الاجتماعي يتعرضن للكثير من الإهانات والتنمر والتهديدات وخطابات العنف الجنسية والحط من قيمتهن وإهانة أنوثتهن، وهذا سهل جدا لأن من يضعون التعليقات غير معروفين ولا يخضعون للمحاسبة.

إن الصورة النمطية على مواقع التواصل الاجتماعي هي كالتالي: بشرة ناعمة وعينان جذابتان وشفاه ممتلئة، وهذا أيضا ينطبق على نساء الإعلانات ويقع التركيز عليهن كسلع جنسية، لكن كيف تعيش تلك النسوة خلف كواليس هذه الحياة المنمقة؟

ترويج المثالية.. مصاعب طريق الأحلام

“جاز” هي عارضة أزياء انتقلت للعيش في لندن، وفي إحدى الأمسيات تعرفت على رجل أعمال وعرض عليها العمل وبعد فترة تلقت منه رسالة يريدها أن تذهب لتناول العشاء مع ممثل مشهور والقيام بأعمال مخلة، لكن الفتاة رفضت ذلك فأخبرها أن كثيرا من العارضات المشهورات يقمن بذلك العمل، وأنها لن تتقدم في عملها إذا رفضت مثل تلك الدعوات.

لقطات الإنستغرام “العفوية” لا تكون عفوية بالعادة، بل واحدة من بين مئات اللقطات قبل أن يتم نشرها

تقول “جاز”: إن هذا الطريق فيه الكثير من المصاعب، وكل الصور التي تعرض معدلة وليست حقيقية، بالإضافة للجلوس ساعات عدة لوضع المكياج وتصفيف الشعر والتعديل على الصور.

وتضيف: عندما أنظر إلى صوري أجدها لا تشبه ملامحي، ويتابع الناس تلك الصور لأنها تشبه الأحلام وتروج للمثالية، لكنها غير موجودة في الحقيقة، ولذا قررت وضع صوري على الإنستغرام بشكلها الحقيقي، والمتابعون يقدرون ذلك كثيرا.

فن التلاعب بالصور.. كن جميلا بكبسة زر

ترى المختصة في الإعلام “أولي وايز” أن الجمال يعرض المرأة للتحرش الجنسي، وقد تتعرض النساء الأقل جمالا لذلك، لأن الجاذبية الجنسية لا ترتبط دائما بالجمال.

وللتخفيف من الجمال الفوتوشوبي يقترح “هيلمون ليدز” الاقتداء بفرنسا التي تصرح بتلك التعديلات “وهذا يساعد الأشخاص على تجنب المشاعر السلبية نتيجة رؤية تلك الصور ومقارنتها بصورهم، لأن الصورة أقوى من العلامة التجارية”.

لم تعد ثمة حاجة للتجميل الصالوني، فالفوتوشوب يصنع الأعاجيب ويقلب الحقائق بكبسة زر

وفي مواقع التواصل الاجتماعي ليس خبير التجميل وحده هو من يتلاعب بالشكل، بل تخضع الصورة المثالية لمعالجة رقمية. ومع وجود تطبيقات الجمال في الهواتف المحمولة لم يعد للتلاعب من حدود، فالعيون أصبحت أكبر والأنوف أصغر وعظام الوجه بارزة، والبشرة صافية، وكل ذلك بكبسة زر، والمعطيات المعدلة رقميا تروّج لنفسها أكثر من تلك التي لم تخضع للمعالجة، ويمثل “الإنفلونسرز” (المؤثرون) الوسيلة الإعلامية الجديدة لهذه الصناعة.

“ديني” بعدد متابعيها الذي يبلغ ٣٠٠ ألف مشترك على إنستغرام تتفوق على عدد متابعي بعض الصحف المحلية، وتستخدم الشركات أمثال “ديني” للترويج لبضائعها وجني الكثير من الأموال، ولا يمكن لـ”ديني” أن تحمل أي عيوب خارجية، فتقول إنها تتواصل مع الناس من خلال إنستغرام، وتقوم بتعديل صورها وإخفاء البثور.

تقر “ديني” بأنها لا تستطيع القول إنها تحب نفسها، وتدعي ذلك بأن لديها جمهورا كبيرا ويمكن أن تظهر بدون مكياج، لكن لمرات محدودة لأنها لا تريد أن تفقد عملها.

“الجمال سيقود حتما إلى الفشل، لأن الجمال لا يدوم”

يخضع الأشخاص في مجال الإعلام للتقييم السطحي للوجوه والتعرض الدائم لحكم الآخرين والمقارنة عبر معايير مثالية، من قبل مجموعات كبيرة مما يخلق ضغطا كبيرا على الشباب.

وتقول المسوقة “بريتينيا زينتر”: إن الهوس بالأرقام ناتج عن مجتمعاتنا الرأسمالية، وهناك تركيز على الحساب والقياس وجني الأرباح واستقطاب الإعجاب ونسب المشاهدة. لا شيء سيوقف الجمال لأن التعطش له يخلق موضات جديدة باستمرار ويتقبله الناس بكل سرور، وتصرف مبالغ كبيرة وجهد عظيم في سبيل التماشي مع إنستغرام.

هوس التقليد يحول حياة الفتيات إلى جحيم من الأرق النفسي الذي يجعلهن يقلدن كل صرعة جديدة

أما المصورة “ألكساندرا” فقد أوجدت لنفسها طريقا مغايرا، إذ أنها سئمت من صور الفتيات الشقراوات النحيلات، قائلة: يجد البعض أن هذه الصور مرتبطة بالاستعمار الأوروبي والعنصرية وهناك محاكاة متمثلة بعمل جراحات تجميلية لتزيين الجفون وتمليس الشعر في كل من آسيا وأفريقيا.

أخذت “ألكساندرا” تخاطب نساء من شرائح متنوعة من حيث لون البشرة وشكل الجسد والمهنة، ومن فئات عمرية مختلفة أيضا. وترى أن كثيرا من النساء يشعرن بعدم الثقة بأنفسهن بسبب ألوان بشرتهن أو أحجامهن، لذا يجب أن تكون كل امرأة منصفة بحق نفسها، وعليها أن تدرك أن الكفاءة هي معيار تقييم عمل المرأة مثل الرجل تماما “ويجب تغير الصورة النمطية التي حددت للمرأة في بدايات القرن العشرين. إن الارتكاز في بناء الشخصية على الجمال سيقود حتما إلى الفشل، لأن الجمال لا يدوم.

إعادة تعريف الجمال.. صرخة في وجه الخطر المحدق

تروي مغنية الراب “إزرا” أنها قطعت شوطا طويلا لتصل إلى هدفها في المجتمع، وتذكر حادثة تنمر وانتقاد حصلت لها من قبل أشخاص في الحديقة عندما كانت ترتدي سروالا واسعا، وتقول إن الحركة النسائية ليست مرتبطة بالشعر القصير ولا بأي شكل محدد، و”هناك نساء يرتدين الحجاب ويمتلكن شخصية قوية كوالدتي مثلا، فهي محجبة وتقود السيارة، وهي قوية”.

وتضيف “إزرا” قائلة: مواقع التواصل الاجتماعي التي نقضي فيها وقتا طويلا تعاني من مشاكل عديدة، وهناك مثل تركي يقول: “إن لم يبك الطفل فلن يجد من يطعمه”. يجب أن نصرخ ونطالب بالتغيير حتى لا يظنوا بأننا موافقات.

لا يحتاج لكي تكون مشهورا أن تخرج عن طبيعة جسمك ووجهك، البساطة تكفي في أكثر الأحيان

إن التغيير يبدأ بإيجاد نماذج نسائية بشخصيات مختلفة وأشكال منوعة لإزالة هذه الصورة النمطية.

وترى “هارييت فرانا” أن التخلص من هذه المشاكل يتطلب القيام ببناء علاقات اجتماعية صحيحة وصحية داخل العائلة ومع الأصدقاء وتجاوز حدود الإعلام، والتعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي بحذر وبشكل محدد، وأن يتعلم الجميع التعايش مع النفس دون تقليد أحد، إن هذا الأمر مرهون بطريقة تنسيق أذواقنا ومعايير الجمال لدينا مع الأشخاص الذين نعرفهم ونحب الحديث إليهم والتواصل معهم، ومحاولة الابتعاد عن نجوم الإنترنت.

في لحظة من لحظات الاهتمام فوق الزائد بالرشاقة، يصبح الجسد مجرد أداة ينتفي معها الحب للحياة

ويروي الفيلم أن المرأة فُطرت على حب الجمال والتأنق، وهذا مدعاة للسعادة لديها وجزء من تكوينها وطبيعتها، لكن التوازن وعدم الانسلاخ الكلي شيء أساسي في تلك المعادلة بحيث لا يطغى ذلك على شخصيتها، كما أنها بحاجة دائما للغذاء الروحي والحماية النفسية والتواصل مع الذات، والجمال لا يوجد داخلنا فقط، لكنه يبدأ من هناك.


إعلان